النكتة السياسية تواصل الرقص على الجراح

النكتة السياسية تواصل الرقص على الجراح

النكتة السياسية تواصل الرقص على الجراح


07/05/2023

من جيب معطف الهجاء المرير، خرجت السخرية اللاذعة. ومن جيب الأخيرة خرجت النكتة بأنواعها؛ السياسية والاجتماعية والفكرية، الفصيحة والعامية، المهذّبة والمكشوفة. وإذا كان الهجاء يعبِّر عن مشاعر الغضب والكراهية والاحتقار على نحو مباشر قد يخلو أحياناً من اللوذعية، فإنّ السخرية تعبر عن رغبة عميقة في تسخيف وتسطيح الخصم إلى درجة يسهل معها احتماله والتعايش معه فضلاً عن فلسفة العديد من جوانب هذا الموضوع بواسطة (الكوميديا السوداء) على طريقة (شر البَليّة ما يضحك)! وأما النكتة فهي الدفع بالسخرية إلى أقصى حدودها الممكنة عبر اختلاق مفارقة ما وتفجيرها على نحو مباغت وصاخب، يستدعي في الغالب الضحك الطويل دون تحفّظ.

يمور تاريخ الفكر والفلسفة تحديداً، بالعديد من النماذج الساخرة المبكية المضحكة في آنٍ واحد، بدءاً بسقراط الذي لم يتردد في أن يقول لزوجته بعد أن ضاقت باستغراقه الفلسفي ذرعاً ودلقت على رأسه سطلاً من الماء: (ما زلت تُبرقين وتُرعدين حتى أمطرتِ)! مروراً بهنري برجسون الذي أهدى العالم كتابه الأشهر (الضّحك)، وليس انتهاء بجورج برناردشو الذي شبّه خلوّ رأسه من الشَّعر وكثافة لحيته بالاقتصاد الرأسمالي الذي يتصف بالغزارة في الإنتاج والرداءة في التوزيع!

السخرية تعبر عن رغبة عميقة في تسخيف وتسطيح الخصم إلى درجة يسهل معها احتماله والتعايش معه

كما تعجُّ الثقافة العربية القديمة بأخبار الحمقى والمجانين والطفيليين ونوادرهم، ولا تخلو أيضاً من النماذج الساخرة مثل بشّار بن برد وأبو نواس والجاحظ. علماً بأنّ الثقافة العربية القديمة تحديداً، أولت السخرية والنكتة والحق في الضحك قدراً كبيراً من عنايتها فبدت على قدر وافر من المرح وخفّة الظل. ورغم بعض الدعوات التي كانت تنطلق من آن لآخر إلى التجهم والجديّة الخانقة وذمّ الضحك، بصيغ عديدة ولأسباب سياسية وأيدولوجية، فقد ضربت هذه الثقافة بسهم وافر في فن السخرية بصيغه المسهبة أو استعاراته الكبرى، كما نلاحظ في كتب (المقامات)، وبصيغه المقتضبة أو استعاراته الصغرى، كما نلاحظ في كتب الأخبار والطرائف والنوادر.

تدفعنا التفسيرات النفسية لشخصية صانع النكتة أو مروّجها، إلى الاعتقاد بأنّه يمارس ضرباً من الإسقاط بغية الحصول على الحد المطلوب من التوازن الذي قد يحول دون انهياره؛ فمن يكثرون من الضحك أو الرغبة في إضحاك الآخرين يعانون حزناً وألماً عميقين قد يصلان حد الاكتئاب، ومن يركّزون على النكات الجنسية لديهم جراح غائرة قد تصل حدود الكبت والعجز والعنّة. لكن النكتة بوجه عام، ومن منظور علم النفس الجماعي، تعد أحد أبرز مؤشرات المزاج الشعبي العام، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهي لذلك أيضاً شكل عفوي من أشكال استطلاع الرأي العام.

يمور تاريخ الفكر بالعديد من النماذج الساخرة المبكية المضحكة في آنٍ بدءاً بسقراط مروراً ببرجسون وليس انتهاء ببرناردشو

ومن نافلة الحديث القول إنّ النكتة السياسية تحديداً قد استُخدمت وما زالت تُستخدم على صعيد الحروب النفسية بين الدول والجماعات على نطاق واسع وفعّال، ولها خبراؤها الذين يبدعون في إخراجها بمواصفات محدّدة، قد تتكفل أحياناً بإنجاز ما لم تنجزه الطائرات والغواصات والجيوش الجرّارة. ومن أبرز الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها على هذا الصعيد، رواية (مزرعة الحيوانات) لجورج أورويل، التي تُمثّل نكتة سياسية طويلة (استعارة كبرى) تهدف إلى تسخيف وتقويض النظام الشيوعي بوجه خاص، وكل نظام شمولي بوجه عام، بغض النظر عن هويته السياسية أو الاقتصادية أو الأيدولوجية. ولا ريب في أنّ ما تكفّلت به هذه الرواية وحدها على صعيد هزَّ الصورة الوردية للمجتمع الاشتراكي، قد فاق من حيث التأثير والفاعلية أضعاف ما كان يمكن أن تتكفّل به العديد من أسلحة الدمار الشامل - التي لم تُستخدم لحسن الحظ - في ذروة الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي.

النكتة بوجه عام ومن منظور علم النفس الجماعي تعد أحد أبرز مؤشرات المزاج الشعبي العام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً

سجّلت النكتة العربية منذ اندلاع "الربيع العربي"، مستويات قياسية غير مسبوقة، شكلاً ومضموناً وتسويقاً؛ إذ علاوة على أنّها غدت عابرة لكل الخطوط الحمراء، فقد تجاوزت مرحلة الترويج الطوعي بقصد الترفيه غير الربحي، ودخلت مرحلة التسويق التجاري المدفوع سلفاً. وهي تستأثر بالعديد من المواقع الإلكترونية التي يؤمّها الملايين من المتابعين ويُعيدون إنتاجها عبر كل وسائل التواصل التي يملكونها. ومن البديهي القول بأنّ مجمل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية في العديد من الأقطار العربية، تُمثّل الوقود النووي للنكتة السياسية في المقام الأول وللنكتة الاجتماعية في المقام الثاني، دون التقليل من أهمية المحفّزات الخارجية، مالياً ومعنوياً!
ورغم مشاعر الألم والمرارة والإحباط والعجز والحزن والغضب التي تثوي في البنية العميقة للنكتة العربية الراهنة، إلّا أنّ كُلّاً من الباحث والناقد والمحلل لا يسعهم التغاضي عن تنامي حسّ الدعابة وخفة الظل واللوذعية في الخطاب العربي الساخر من جهة، وفي شخصية المواطن العربي من جهة ثانية. وقد يكون من تمام التنكيت والتبكيت في هذا المقال، ضرورة الإشارة إلى أنّ الزوايا الأربعة في مربع النكتة العربية الآن، مشغولة بالسياسي والمواطن في الأعلى وبالزوج والزوجة في الأسفل؛ حيث لا يمر يوم دون أن تتفتّق قريحة الساخر المعلوم المجهول، المفرد والجمعي، عن التشهير بواقع العلاقة التي تقوم بين الأربعة على الخيانة والاستغفال، وتعداد المساوئ، وكأنّ العلاقة بينهم أصبحت محصورة بمفردات وآمال وطموحات وإحباطات غرف النوم!

مواضيع ذات صلة:

- ترند "مر أعرابي".. السخرية الاجتماعية تدخل معركة التراث
يوسف هريمة: الثقافة العربية تقوم على صناعة الأصنام الذهنية

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية