وصية الباجي للتونسيين: صوتوا لمن ترونه الأكفأ

وصية الباجي للتونسيين: صوتوا لمن ترونه الأكفأ


25/07/2019

استقبل التونسيون خبر مرض الرئيس الباجي قائد السبسي، ثم خبر وفاته، بقلق يختصر تاريخا تونسيا يمتد إلى عهد الاستقلال.

تزامن الخبر مع إحياء الذكرى الـ62 لعيد الجمهورية، في مصادفة زادت من حنين التونسيين إلى تونس التي مثلها الباجي قائد السبسي السياسي المخضرم الذي بقيت صورته مرتبطة عند التونسيين، حتى عندما غضبوا من تحالفه مع الإسلاميين، بعهد بورقيبة، وما يعنيه ذلك من إصلاح وانفتاح وتعليم وتنمية وإدخال مفاهيم جديدة في المجتمع مثل تحديد النسل ومجلة الأحوال الشخصية والتوسع في مجال الحريات، وحتى على مستوى سلوك المجتمع وهيئته وانضباطه.

فجأة، أصبح لسان التونسيين، من خصوم الباجي قائد السبسي قبل أنصاره، يردد ترنيمة واحدة «ننتقدك، نختلف معك ربما في كل شيء ومن النقيض إلى النقيض، لكن لسنا مستعدين لتوديعك الآن في هذه الفترة الحساسة والحرجة التي تمر بها تونس أمنيا وسياسيا واقتصاديا”.

كان الباجي قائد السبسي، شخصية رئيسية في الانتقال الديمقراطي في البلاد منذ عام 2011. ونجح في أن يحافظ على صورة تونس وهيبتها حتى آخر لحظات في مشواره السياسي، الذي اختتمه بتنظيم ناجح للقمة العربية في دورتها الثلاثين (مارس 2019)، ثم بقرار عدم توقيعه على ختم التعديلات على القانون الانتخابي، في رسالة تكرس مبدأ الديمقراطية وحق الجميع بالمشاركة في الحياة السياسية، ولا يقصى إلا من أخطأ في حق الدولة، أما الحسابات الشخصية فلا مكان لها.

شيخ الشباب
رغم أنه كان في العقد التاسع من عمره، إلا أن الباجي قائد السبسي كان نموذجا للشباب الذي استأمنه على ثورته، غضب منه في بعض المواقف، إلا أنه تعلّم منه أيضا الكثير من أسرار لعبة السياسة وما تقتضيه من مناورات، وهو الذي كان له دور كبير في حماية وتأمين المسار الانتقالي العسير في البلاد في أعقاب ثورة يناير 2011.

ويقول أحد المقربين منه والذي عمل معه لفترات طويلة إنه يمتلك “ذكاء سياسيا حادا وبراغماتية استثنائية”. ويجمع المتابعون للشأن التونسي على أنه شخصية جامعة وأنه رجل دولة بامتياز رغم الانتقادات التي طالته والاختلافات معه، حيث أسهم منذ بروزه في السلطة في حفظ الاستقرار.

عندما أعلن قائد السبسي عن عودته إلى الحياة السياسية بعد الفوضى التي عمّت البلاد إثر سقوط النظام في 2011 ثم على امتداد فترة حكم الترويكا التي قادتها حركة النهضة الإسلامية، (2011 – 2013) رحّب التونسيون، الذين عرفوا عن قرب معنى التفجيرات الإرهابية، بالخطوة وتناسوا تاريخ الرجل وأنه من المنظومة القديمة.

حينها، لم ير التونسيون من التاريخ إلا صورة بلادهم المعتدلة والهادئة، وهم ينظرون إلى الباجي قائد السبسي بنظاراته السوداء وحركاته التي تذكّرهم بحركات بورقيبة، الذي تحوّل من رئيس له سلبيات وإيجابيات، إلى رمز لزمن جميل، أحبّه من عاصره واستفاد منه من جاء بعد ذلك من أجيال.

ذاكرة تونس الحديثة
استفاد قائد السبسي من خبرته الطويلة في عالم السياسة ومعرفته بأدق تفاصيل الشأن التونسي ودواليب الدولة. فهو ذاكرة تونس الحديثة، وأحد أعمدة بناء الدولة الوطنية واستمرارها. عايش مرحلة الاستعمار، وكان عضوا فاعلا في الحزب الحر الجديد الذي قاوم فرنسا، وحقق الاستقلال في 1956.

ولد الباجي قائد السبسي لعائلة بورجوازية في 29 نوفمبر 1926 في سيدي بوسعيد، الضاحية الشمالية للعاصمة تونس، وتابع تعليمه العالي بكلية الحقوق بباريس في فرنسا وأصبح محاميا، وليست هذه المهنة التشابه الوحيد الذي يجمعه بالحبيب بورقيبة، بل يتشابه الرجلان في عديد الصفات على رأسها إيمانهما العميق ببناء تونس المستقلة.

لذلك لم يكن غريبا أن يكلف الحبيب بورقيبة قائد السبسي بمهام في ديوان الوزير الأول في أول حكومة تشكلت بعد الاستقلال سنة 1956. ثم تولى وزارة الداخلية لمدة 14 عاما بدءا من 1965، ثم وزيرا للخارجية في 1981، قبل أن يعمل سفيرا لتونس في ألمانيا إلى حدود انتقال الحكم من بورقيبة إلى الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، حيث اكتفى قائد السبسي بترؤس البرلمان لفترة وجيزة (1990-1991).

طوال فترة غيابه لم ينس التونسيون اسم الباجي قائد السبسي، حيث كان حاضرا عند الحديث عن تاريخ دولة الاستقلال، وإن على استحياء فرضته خصوصية الوضع في عهد بن علي، لذلك لم يكن الرجل غريبا عن الشارع التونسي، بكل فئاته عندما ظهر على الساحة في مطلع فبراير 2011، بعدما عيّنه الرئيس الانتقالي فؤاد المبزع رئيسا للحكومة في 27 فبراير من العام نفسه في مستهل مرحلة انتقال ديمقراطي هي الأولى من نوعها في تونس وفي المنطقة.

بقي الباجي قائد السبسي في هذا المنصب حتى نهاية 2011 تاريخ تسلم حزب النهضة الحكم إثر فوزه في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011. وكانت تلك أول انتخابات حرة وديمقراطية في تاريخ تونس.

روح الدولة المدنية
سلم الباجي قائد السبسي السلطة للطرف الفائز في الانتخابات متماشيا مع الروح الديمقراطية في تونس الثائرة في تلك الفترة على حكم الحزب الواحد. لكن، بعد ذلك بدا أن الإسلاميين، وحلفاءهم، يحيدون عن هذا المسار ويأخذون الدولة التونسية إلى طريق آخر غير ذلك الذي رسمه رجال دولة الاستقلال.

هنا، عاد الباجي قائد السبسي إلى المشهد مرة أخرى. وحفاظا على روح الدولة المدنية وتجنبا لأخونتها قرر قائد السبسي مواجهة حركة النهضة عبر التنافس الديمقراطي. ولكسر نفوذها وخلق بديل مدني أمام التونسيين، أسس في 2012 حزب نداء تونس، وهو حزب ليبرالي، استطاع أن يفرض نفسه سريعا على الساحة السياسية كأكبر خصم علماني للحزب الإسلامي في تونس. ودخل به الانتخابات على قاعدة مناهضة الإسلاميين وتمكن من الفوز بغالبية مقاعد البرلمان آنذاك وبرئاسة الجمهورية.

انجذب الشارع إلى تصريحاته المثيرة والطريفة أحيانا، لكنها كانت حمّالة لرسائل جدية والأهم لرؤيته السياسية لمسار ومستقبل البلاد ووصفها كثيرون بـ”الحكيمة” كما أشاد الكثيرون بحنكته السياسية.

واعتبره التونسيون، القلقون من هجمة الإسلاميين على ما حققوه من مكتسبات اجتماعية وحريات شخصية، على أنه امتداد لبورقيبة ولتجربته السياسية الفريدة والمميزة في عهده وأن منهجه تتمة لمسار زعيم ينظر له كمحرر للبلاد من الاستعمار وكرائد في مجال الإصلاحات الاجتماعية وتحرر المرأة.

وفي كتابه عن «بورقيبة: الأهم والمهم» سرد الباجي قصته مع «الزعيم» من لحظة لقائه الأول به في باريس قبل الاستقلال. وروى أن الزعيم عندما دخل هو إلى الفندق كان يدلي بحديث إلى رئيس تحرير صحيفة «لوموند» فتحول الحوار إلى خطبة حماسية، وهنا اكتشف قائد السبسي حرارة بورقيبة وحيويته وحماسته بشكل أبهره.

وكتب قائلا “هذه اللحظات أثرت في نفسي مدى الحياة. لقد اكتشفت بورقيبة في اندفاعاته وحركاته المعبرة”. وتضم صفحات الكتاب شهادات واعترافات وأحداثا تصب كلها في تأكيد انبهار قائد السبسي بـ”الزعيم”. وقال «كان بورقيبة مثالا للتفاني ونكران الذات وكان يؤمن بأنه عبقري. لكنه لم ينصب نفسه دكتاتورا».. و«لم يكن يزعجه أن يعلن أن الديمقراطية لا تشكل أولوية بالنسبة له».

رغم مشاركته في الشأن العام في سن متقدمة، اعتبره كثير من التونسيين رمزا لقوة الدولة ووجوده على رأسها هو بمثابة صمام أمان لها. كما نظروا إلى الأمر من حيث الوجاهة الاجتماعية والدبلوماسية، والكاريزما التي افتقدها التونسيون في عهد المنصف المرزوقي، الذي غضب من تصرفاته غير اللائقة به كرئيس أحيانا أكثر حتى من مواقفه.

وسعى، على خطى بورقيبة في مجلة الأحوال الشخصية، إلى تدعيم المساواة بين المرأة والرجل على واجهات متعددة، من خلال تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، وهو تقرير أعدته نخبة من رجال القانون وناشطون حقوقيون وتضمن مقترحات بشأن المساواة في الإرث وإلغاء مهر الزواج ومنح المرأة لقبها العائلي لأبنائها.

كان قائد السبسي يمنّي النفس بأن يرتقي تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة إلى مستوى يضاهي في القيمة التشريعية جرأة بورقيبة في إقرار مجلة الأحوال الشخصية، أو أن يكون أكثر أهمية، فمجلة بورقيبة أحدثت تغييرات طفيفة على الموروث، لكن تقرير لجنة المساواة والحريات كان بمثابة ثورة في التشريعات. لكن قائد السبسي، فضل في الأخير سياسة المراحل، وبدل أن يغضب الإسلاميين والقوى المحافظة بتبني التقرير كاملا، فضل أن يتبنى بند المساواة في الإرث.

ودفاع قائد السبسي الشرس على الدولة المدنية والأفكار التقدمية التي تتبناها تونس جعلته يتمتع بشعبية واسعة وبددت المخاوف بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم. وكان الخصم الأول لحزب النهضة، وانتقد دون تردد مرجعيته الأيديولوجية.

لكن، رغم هذا الاختلاف، لم يتردد قائد السبسي، في أن يختار نهج التوافق والتحالف مع حركة النهضة، التي حلت في المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية لعام 2014. ورغم أن كثيرين من أنصاره غضبوا من هذا التحالف الذي يعد الأول بين الحداثيين والإسلاميين في تونس، إلا أن الباجي قائد السبسي رأى بحنكته السياسية أن ضرورة المرحلة اقتضت ذلك.

فبدل استثمار الغضب الشعبي والمناخ الأمني المثير للرعب في انقلاب أو في تحركات عنيفة يصل بها إلى السلطة بشكل مريح وتشرع لاعتقالات في صفوف قيادات النهضة ومنتسبيها، اختار الباجي قائد السبسي طريقا آخر راعى فيه مستقبل تونس واستقرارها، وهو طريق الحوار مع النهضة وإقناعها بالتخلي عن حكم عجزت عن إدارته لغياب الرؤية والخبرة، فضلا عن غربة على الواقع كون أغلب قياداتها توافدت من الخارج.

وتخلى قائد السبسي عن تحالفه التاريخي مع النهضة حين شعر أن الحزب الإسلامي بات متحكما في كواليس السلطة لتمرير أجندته الحزبية مع اقتراب الانتخابات. ورغم تراجع دوره بقي قائد السبسي صاحب الكلمة الفصل. وحافظ على تصريحاته المتوازنة والتي تعطي الأولوية رغم التنافس المحموم على الرئاسة لاستقرار وأمن تونس.

المسار مستمر

رغم حالة الغموض التي تسود المشهد التونسي اليوم، يؤكد سياسيون تونسيون أن المسيرة مستمرة والأجيال التي تربت في كنف تونس بورقيبة والباجي ودولة الاستقلال المنفتحة والمعتدلة ستواصل السير في المسار الذي اختاره قائد السبسي لتونس.

ويقول خالد شوكات، المدير التنفيذي لنداء تونس لـ”العرب”، «لدينا من الأدوات القانونية والدستورية التي تضمن لنا استمرارية الدولة والنظام في حال مرض الرئيس أو حدث ما هو أسوأ من ذلك».

ويوافقه في الرأي محمد عبو، الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي، الذي يقول لـ”العرب”، «في صورة الوفاة هناك دستور تونسي يحترم ولا يوجد سيناريو آخر ومن المؤكد أن جميع الأطراف ستلتزم بالدستور”. أما غازي الشواشي، النائب عن التيار

الديمقراطي، فيقول «حسب تصوري في غياب المحكمة الدستورية فإن البرلمان هو من يسد الشغور ويعاين الشغور الوقتي ويكلف من يكلف طبقا للدستور بالقيام بمهام رئيس الدولة إلى حين الإعداد للانتخابات في ظرف ستين يوما».

في حوار له مع «العرب»، في يناير 2019، لم يخف الباجي قائد السبسي قلقه من سيطرة النهضة على الحكم، لكنه في نفس الوقت شدد على أن تكون الانتخابات هي الفيصل. وتوجه إلى التونسيين بقوله «الانتخابات ستضبط الأمور، وإن شاء الله تقع استفاقة. سأدعو التونسيين إلى أن يشاركوا بكثافة في الانتخابات، وأن يختاروا من يريدون، هم شعب واع، ويتحمل مسؤولية ممارسة حقه في الانتخاب. عندما كنت أنا مترشحا، كان عندي خيار واضح: إما أنا وإما النهضة. اليوم لم يعد بإمكاني ذلك، لكن سأدعوهم ليصوتوا لمن يعتبرونه الأكفأ»، وهي وصية يحفظها التونسيون في قلوبهم على أمل تطبيقها مع اقتراب الانتخابات، إن لم يتغير موعدها.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية