نحو "ربيع عربي" في العلوم المعاصرة وبحوثها

نحو "ربيع عربي" في العلوم المعاصرة وبحوثها


26/11/2017

مختارات حفريات

على رغم مساراته المضطربة، أظهر "الربيع العربي" تعطشّاً للتغيير الاجتماعي لدى 370 مليون شخص في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفيما تعاني دول أساسيّة في المنطقة، كالعراق ومصر وسورية، أزمات سياسيّة متنوّعة، تنخرط دول النفط في الخليج العربي في صنع عصر نهضة ثقافيّة. وعلى غرار الدول المتقدمة، تفهّم قادة كثر في الخليج العربي أن الاستفادة القصوى من ثروات المصادر الطبيعيّة، إنما يكون بتوظيفها في العلوم. وعلى رغم الزيادة القويّة في تمويل العلم والتعليم حكوميّاً، إلا أن عرباً كُثراً ينظرون إلى العلوم الصرفة كأنها شيء علماني أو ملحد أو من صنع الغرب، ويتناسون المساهمات الرائعة التي أُنجِزَت في الحضارة الإسلاميّة على يد علماء عرب وفرس، أثناء "العصر الذهبي" الذي استُهِلّ منتصف القرن التاسع للميلاد، واستمر قروناً بعده. آنذاك، سادت روح التقصي العقلاني فيما كانت أوروبا غارقة في العصور الوسطى المظلمة. وآنذاك أيضاً، سادت حرية الفكر وإرادة التقصّي للوصول إلى المعرفة.
ويشكّل ضعف البحث العلمي في جامعات عربيّة كثيرة، نقطة بارزة في الوهن العلمي عربيّاً. وأحياناً، قرأت بنفسي أوراق بحث أكاديميّة في الفيزياء، هي متأخّرة تماماً قياساً إلى نظيراتها الغربيّة. ويصعب أن تنشر البحوث العربيّة، بل يجب رفع مستواها كي تصير مضاهية في النوعيّة العلميّة لمثيلاتها غرباً.

تجربة سعودية إيجابية
تقدّم "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا" نموذجاً مؤثراً عن السعي الجدي لإحداث تقدّم نوعيّ في المستوى العلمي للبحوث الأكاديمية العربية. وتحل في المرتبة الثالثة عالميّاً في تمويل البحث الأكاديمي، بعد جامعتي "هارفرد" و "يال". وبديهي القول إن التمويل وحده لا يكفي. إذ يتوجّب أيضاً تجديد البنية التحتيّة بأكملها، بداية من معدات المختبرات والتقنيّين العاملين عليها، ووصولاً إلى ممارسة حقيقيّة لحرية التفكير التي تشمل حقّ العلماء في الوصول إلى أفضل الكتب وأحدث مجلات البحوث العلميّة. وفي المؤسّسات الجامعية، تساهم الضمانات الماديّة والحوافز الماليّة والرواتب المنصفة الحدّ من نزيف العقول التي تتضمن هجرة كوكبة من أشدّها تألّقاً. وحاضراً، يحجم نصف الدارسين العرب في الغرب عن العودة إلى أوطانهم. وإذا عاد هؤلاء، تنظر الجامعات إليهم باعتبارهم محليّين، وتميل إلى تفضيل الآتين من الغرب.
هناك مشكلة أخرى تتمثّل في ضآلة الأموال التي تموّل البحوث النظريّة المتقدّمة، كتلك المتصلة بالنانوتكنولوجيا والتقنيّات البيولوجيّة، مقابل تمويل جيّد تحظى به بحوث تطبيقيّة في مجالات كالزراعة والطاقة وتحلية المياه. وفي الآونة الأخيرة، حدث تغيّر في تلك المشهديّة، خصوصاً في المؤسّسات الأكاديميّة الخليجيّة. ومن المفهوم تماماً أن تعطي تلك المنطقة أولويّة لبحوث تتعلّق بمستقبل ما بعد النفط، على غرار طاقة الشمس والمحاصيل المقاومة للجفاف، وهو ما تنهض به "جامعة الملك عبد الله". وبديهي أيضاً القول بأن تلك الأولويّة المبرّرة يجب أن تستكمل عبر التركيز على بحوث معمّقة في التكنولوجيا البيولوجية وعلوم النانو. وإذا أراد العالم العربي تطوير ثقافة نهضويّة في البحث العلمي، يتوجّب عليه النأي بنفسه عن سياسة تفضيل البحوث التطبيقيّة على نظيراتها المتعلقة بالعلوم الأساسيّة كالفلك وفيزياء الجسيمات. وصار معروفاً أن تقدّم العلوم الأساسيّة هو الذي يمكن من إنجاز اختراقات علميّة حاسمة. وهناك سبب أساسي آخر للاهتمام ببحوث العلوم الصرفة في العالم العربي يتمثّل في أنها تدعم ثقافة حرية التفكير والتقصي العلمي، وهو أمر تحتاجه تلك المنطقة بشدّة في الأزمنة الراهنة.
واستطراداً، تحتاج حرية التفكير العلمي إلى ما يوازيها من حريّات في المجتمع، فلا تنتشر تلك الثقافة إذا اقتصر أمرها على نخبة تعيش ضمن الجدران الأكاديميّة وحدها. ومن الطُرُق التي يمكن استخدامها في صنع تفاعل بين الجموع والنخب الأكاديميّة، تبرز الاحتفالات العلميّة وحلقات الحوار بين العلماء والجمهور العام، وهي أمور شرعت في التقدّم بطيئاً في العالم العربي أخيراً. إذ سجّلت تظاهرات علميّة- اجتماعيّة ناجحة في الفترة الأخيرة في أمكنة كالقاهرة ودبي وأبوظبي، خصوصاً لجهة المشاركة الجماهيريّة الواسعة المتميّزة بحماس فوّار. وعلى عكس أحوال السياسة، يستغرق الإصلاح في العلوم والبحوث بعض الوقت كي يستطيع تغيير العقلية السائدة. وأنا ممن يحتفظون بالتفاؤل حيال ذلك التغيير.
جميل الخليلي "بروفسور فيزياء نظرية في جامعة "سوراي" البريطانية" - عن "الحياة".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية