كيف تصبح "لا إكراه في الدين" نبذاً للعنف والاستغلال السياسي؟

العنف

كيف تصبح "لا إكراه في الدين" نبذاً للعنف والاستغلال السياسي؟


30/08/2019

عام 1963؛ قرّر حزب البعث العراقي، في خضمّ صراعه مع الحزب الشيوعي، آنذاك، إعدام المنتمين له، والذين بلغ عددهم نحو ثمانية آلاف عضو بالحزب.
رغبة مستعرة تجري في عروق النظام الحاكم، وجهازه الأيديولوجي والسياسي، تهدف إلى تصفية خصومه السياسيين، بجرّة قلم، والتخلص منهم؛ حتى ينفرد بالسلطة والحكم، لكن ورغم علمانية الحزب، وفق مقرراته وأدبياته النظرية، إلا أنّه جمع ثلاث فتاوى دينية إسلامية، من مراجع سنيّة وشيعيّة، تمنحه المبرّر الشرعي والفقهي، إزاء هذه العملية التي ترقى إلى اعتبارها وتوصيفها بـ "جريمة إبادة".

الدين كسلاح أيديولوجي
ومن بين المرجعيات، التي أقرت جميعها بوجوب القتل؛ كان السيد محمد الخالصي، وإمام الشيعة، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، بيد أنّ الأخير طلب فقط أن يلتقي بالمتهمين، الذين يفترض تنفيذ حكم الإعدام فيهم، حتى يسألهم: "هل الانتماء الشيوعي تمّ بناءً على خدعة مفادها أنّه سيكون مخلصاً لأفكار الإنسان عندما يصبح عضواً؟"، وعدّ ذلك حيلة ترفع عنه مصيره بالموت؛ لأنّه وقع تحت تأثير الخديعة والمكر، ونفي الإرادة عنه، وبالتالي يمكن العفو عنه. 

محسن الطباطبائي الحكيم
هذه الحادثة، تتماثل مع وقائع كثيرة، في حقب سياسية مختلفة، حاولت الأنظمة خلالها الاستعانة بالدين، كسلاح أيديولوجي تحصل به على المشروعية، للفتك والتخلص من خصومها، ما يجعل الدين وسيلة سياسية، ويفقده مُثله الروحية والمعنوية، ويجري إهدار قيمه الحقيقية، في دائرة العنف اللانهائية، كما يحدث مع جماعات الإسلام السياسي؛ بداية من الإخوان المسلمين، وحتى النسخة الأكثر دموية، ممثلة في "داعش".

خلط الفقهاء بين الردّة بدلالاتها السياسية والردّة بتأويلها العقائدي وتغيير الإيمان ورأت المذاهب أنّ الردّة هي أحد حدود الله

وفي كتابه "لا إكراه في الدين.. إشكالية الردّة والمرتدين من صدر الإسلام إلى المرتدين"، يؤطّر المفكر العراقي، طه جابر العلواني، قضية شديدة الحساسية، تتمثل في عقوبة الردة والقتل؛ إذ يفند أصولها وسياقاتها، متتبعاً الحوادث التاريخية، منذ عهد النبي محمدﷺ، وحتى اللحظة الراهنة والتاريخ المعاصر، ويلفت إلى الجانب السياسي والبراغماتي، الذي ظلّ باعثاً على الرغبة في الانتقام، وأنّه البعد الخفي والمضمر، بينما الدين في حقيقته الجوهرية قبل أن تتراكم عليه تأويلات "فقهاء" السلطة والسياسة، يؤمن بحرية الإنسان، والأصل فيه هو "اللاعقوبة".

اقرأ أيضاً: "لا إكراه في الدين".. كيف نفهمها؟
ويقول العلواني، في مقدمته: "هذا الكتاب هو دفاع عن الإنسان وحريته في التعبير والاعتقاد، ودفاع عن شريعة طالما ظلمها أهلها، ونسبوا إليها ما ليس منها، ألا وهي شريعة القرآن".
المفكر العراقي طه جابر العلواني

حقيقة حدّ الردّة بين السياسة والدين
ويشير المفكر والفقيه العراقي، إلى أنّ ثمة خلطاً تسبّبت فيه البيئة الثقافية والشروط السياسية والتاريخية، أدّى إلى تشكيل وصياغة عقوبة القتل على من هو مرتدّ؛ حيث رأى الفقهاء أنّ الردّة الدينية، ستعني ردّة عن الولاء للأمة والدولة الإسلامية، والالتحاق بالطرف الآخر من جبهة الأعداء والخصوم.
وبالتالي؛ فإنّ الردّة الدينية لدى الفقهاء، كثيراً ما تكون ثمرة تحوّل شامل لدى الإنسان عن الولاء للأمة، والقبول بنظامها، واحترام شرائعها، والانتماء إليها ثقافياً وحضارياً، والخضوع لقوانينها ونظمها، ثم يجعل، بعد ذلك الفصام، البعد عن الدين والكفر به بمثابة الإعلان عن القطيعة التامة مع كلّ ما يقوم عليه كيان الأمة، التي كان ينتمي إليها؛ ولذلك فإنّهم ذهبوا إلى إقرار ذلك الحدّ، وتلك العقوبة.

اقرأ أيضاً: الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإشكالية التأويل بالإكراه
يقطع المؤلف مع تلك العقوبة، التي يؤكّد أنّ ليس لها أساس قرآني؛ بل أصبحت صيغة ثقيلة الوطأة على حرية الإنسان، ومؤامرة من النظم الديكتاتورية على المعارضين، ولم تعد مجرد عقوبة، يختلف حول صور تنفيذها الفقه الإسلامي، وهل هناك إجماع على قتل المرتد أم لا، لكنّها بمثابة مؤامرة قتل عباد الله بالافتراء عليه، وانتحال صلاحياته، وكذلك "مؤامرة الخاطفين للسلطة والمتغلبين على الأمم ضدّ معارضين لا يملكون إلا ألسنة يقطعونها إذا لم تسبّح بحمدهم، تحت سيف حماية دين الله من الردّة".

يقطع المؤلف مع تلك العقوبة التي يؤكّد أنّ ليس لها أساس قرآني

يبحث صاحب "الاجتهاد والتقليد في الإسلام"، في جذور وبدايات حدّ الردّة، وكيف صنع الفقهاء هذا الحدّ عندما وجدوا القرآن الكريم يخلو من اعتبار الردّة حدّاً شرعياً، وكذلك السنّة النبوية؛ إذ اعتمدوا على حديث آحاد وقول مرسل، ورغم ذلك وضعوه باعتباره مستند إجماع على وجوب قتل المرتد، بيد أنّ الرسول ﷺ لم يقتل مرتداً واحداً طيلة حياته، ومجمل الحوادث التي يجري الاستشهاد بها، تتصل بحوادث سياسية، لا علاقة لها بالردّة الدينية، بل تآمر وعدوان على المسلمين، في سياق حرب بين معسكرَين، ليس للدين أو الكفر محلّ بينهما.
الحرية شرط الإيمان والتوحيد
ومن بين الأحاديث التي أوردها العلواني، للتأكيد على أنّها أحاديث آحاد، اعتمدها الفقهاء لتبرير وشرعنة قتل المرتد: "من بدّل دينه فاقتلوه"، فإنّ هذا الحديث يرتبط بواقعة ذكرها القرآن الكريم، تتعلق برجل يهودي، ارتد عن الإسلام، لكنّه تآمر على المسلمين، سياسياً وعسكرياً، وليس لأنّه خرج من الإيمان.

لم يقاتل الرسول المنافقين أو المشركين لأيّة اعتبارات عقائدية مثل عبيد الله بن جحش الذي ارتدّ واعتنق المسيحية

وعليه لم يقم الرسول ﷺ بقتال المنافقين أو المشركين لأيّة اعتبارات عقائدية؛ مثل عبيد الله بن جحش، الذي ارتد عن الإسلام واعتنق المسيحية، وهاجر إلى الحبشة، ولم يهدر ﷺ دمه. وكذلك الحارث بن سويد الأنصاري، الذي انتقل من المدينة إلى مكة، بعد ارتداده، دونما تقرير أيّة عقوبة ضدّه؛ إثر اختلاف موقفه العقائدي والإيماني.
إذاً، تعدّ حرية الإنسان قيمة من أبرز القيم العليا، ومقصداً من أهم مقاصد الشريعة، كما يقرّ العلواني؛ حيث إنّ الأدوار التي يقوم بها الإيمان والتوحيد، خاصة؛ هي تحرير الإنسان من عبادة العباد، فلا "يخاف إلا الله ولا يستعين بسواه، ولا يتوسل بغيره، بل يسلم وجهه بشكل كامل لله، ولتوكيد هذا المعنى، وتحرير الإنسان تحريراً تامّاً، نزلت آيات كثيرة تدعم هذه الحرية، وتدافع عنها وتحميها، وتعدها جوهر إنسانية الإنسان، إن فقدها فقد دوره في الكون والوجود، فتبدأ الآيات الكريمة، التي جاوز عددها مئتي آية من آيات الكتاب الكريم، بتصوير معنى العبودية الحقيقية لله، والمقارنة بينها وبين عبادة ما سواه، وكأنّ الله يبين بذلك للإنسان، أنّ عبوديته لله، هي تحرير وتشريف، وليست إذلالاً وإخضاعاً".
جرائم تنظيم داعش الدموي

داعش وسيرة القتل بفتوى
خلط الفقهاء بين الردّة بدلالاتها السياسية، والردّة بتأويلها العقائدي وتغيير الإيمان، ورأت المذاهب، على اختلافاتها؛ أنّ الردّة هي أحد حدود الله، الواجب تطبيقها وتنفيذها، وضمن السياسة الشرعية التي يتولى تقديرها الحكام، بحسب اجتهاداتهم في حماية القانون، ووحدة الأمة والجماعة، لكن، في كلّ الأحوال، ليس ثمة إجماع في تلك المسألة يمكن الاحتجاج به على وجود حدّ ثابت، كما يوضح العلواني، وحتى لو سلمنا بوجود إجماع؛ فإنّه لا مستند لهذا الإجماع المدَّعى.

اقرأ أيضاً: "إخوان" اليمن يجمعون خطايا داعش والحوثي والقاعدة
وعقب مشاهدات العلواني لجرائم داعش، في سوريا والعراق، قبل وفاته، عاين بنفسه مآلات التفسير المتعسف للدين والفقه، والتأويلات التلفيقية التي ضغطت عليها مصالح السياسة والسلطة، والرغبة في النفوذ والحكم؛ حيث رأى قطع أكفّ من يتَّهمون بالسرقة، في محاكمات وصفها أنها: "تفتقر إلى أبسط وسائل الإجراءات القضائية، وتحكم على الناس بالموت، وبقطع الأعضاء، دون دليل شرعي، وبشكل يدلّ على الانحرافات والعقد النفسية التي يعانون منها، وما ذلك بشرع لله، وحاشا الشريعة الإسلامية، وشريعة القرآن، شريعة التخفيف والرحمة، أن تتقبل مثل هذه الصيغ، بأيّ شكل من الأشكال".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية