المخرج كوستا غافراس.. الاحتفاء بالوعي الإنساني سينمائياً

المخرج كوستا غافراس.. الاحتفاء بالوعي الإنساني سينمائياً


03/09/2019

كرّم "مهرجان البندقية" السينمائي، قبل أيام، المخرجَ الفرنسي اليوناني الأصل كوستا غافراس وذلك لـ "إسهاماته المبدعة في تطوير السينما المعاصرة".
كما عرض فيلمه الجديد "أدالتس إن ذا روم" الذي يدور حول أزمة الديون اليونانية وشروط أوروبا لإنقاذ بلاد الشاعر ريتسوس من الإفلاس، الفيلم مأخوذٌ عن كتاب لوزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، ويسلط الضوء على مفاوضات حزمة الإنقاذ المالي لليونان في العام 2015.

كرّم مهرجان البندقية مؤخراً المخرج الفرنسي اليوناني الأصل كوستا غافراس لإسهاماته المبدعة في تطوير السينما المعاصرة

هذا الجانب، الذي وصفه غافراس بكونه نتاجاً لمجمل "السياسات المشوشة في أوروبا"، يكاد يشكل جوهر المعاني الذي أقام عليها المخرج أفلامه بدءاً من "زد" وصولاً إلى "مدينة مجنون" وغيرها العشرات. وهنا نستعيد كيف احتفى الجمهور العربي، وتحديداً منذ سبعينيات القرن الماضي، بأعمال غافراس، التي أظهرت عمق أزمة إنسانية جماعية وعبّرت عن معطياتها بشكل جليّ.
في السينما بالذات نجد إمكانية هائلة للتعبير عن المجموع بقراءة واقعة فردية أو رؤية فترة تاريخية معاصرة عبر استقراء خفايا حادثة فردية، لما لهذا الفن من قدرة على التكثيف والتجسيد، واختزال الامتداد الزمني، وإعطاء الرموز قدرة ونفوذاً في التعبير عن حالات تتطلب الإسهاب حين تعرضها الأنواع والأنشطة الذهنية والفكرية الأخرى.

فيلم "زد".. تعرية الديكتاتوريات وقوة الرفض الاجتماعي
هذه المعاني تحيلنا لأعمال المخرج كوستا غافراس اليوناني المولد (1933) من أب روسي وأم يونانية، ونختار هنا أربعة أفلام تتوافق مع استنتاج المقدمة، وهي "زد – 1968"، "حالة حصار – 1972"، "المفقود – 1982"، و "هانا ك – 1984" الذي عرض في عواصم عربية عدة صيف 1986، لما للأعمال الأربعة من صفة مشتركة تجمعها، فهي اعتمدت حوادث فردية للكشف عن أزمة اجتماعية شاملة.

في فيلمه (حالة حصار) ينقل المشاهد إلى أجواء الصراع والديكتاتوريات الحاكمة في بلدان أمريكا اللاتينية

ففي فيلم "زد" (من إنتاج الجزائر التي منحت المخرج غافراس وساماً رفيعاً العام الماضي) نجد أنّ حادثة اغتيال النائب البرلماني اليوناني (لامبراكيس) في العام 1963 والتي أمعن هذا العمل في إظهار تفاصيلها، قد كشفت جوهر سلطة حاكمة بكامل مؤسساتها وطبيعة الظرف الاجتماعي للبلاد، كما أنّ غافراس في فيلمه التالي "حالة حصار" ينقلها إلى أجواء الصراع والديكتاتوريات الحاكمة في بلدان أمريكا اللاتينية عبر حادثة تقع لوزير خارجية أحد تلك البلدان.
أما قوة الحادثة الفردية وقدرتها في التعبير عن صدق واقع بأكمله، فذلك يتجسد عبر فيلم غافراس المهم "المفقود"، الذي حاز به جائزة مهرجان كان– 83 مناصفة مع فيلم المخرج التركي يلماز غوني الذي حمل عنوان "يول – الطريق"، وتعتمد قصة الفيلم ومحور أحداثه على قضية الصحافي الأمريكي (شارل هورمان) الذي قُتل أثناء تغطيته لوقائع الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس التشيلي سلفادور الليندي في العام 1973، حيث قام والد هذا الصحفي وهو أدمون هورمان (جاك ليمون) ويعمل رسّاماً، برفع قضية اختفاء ولده إلى القضاء، وقام بجمع الحقائق في ملف كامل المحامي توماس هوسر.

اقرأ أيضاً: بين المسرح والشاشة: حوار مع المخرج الإيراني أصغر فرهادي
سيناريو الفيلم اعتمد ذلك الملف مادة له، وفيه الكثير من المعلومات ليس عن ظرف اختفاء الصحافي فحسب، بل وقائع تكشف الانقلاب وتُدينه، لكن غافراس بدأ هنا باستبدال لغته السينمائية تماماً، فهو لم يشر مباشرة ولم يسمّ أحداً، بل اكتفى باللمحة القوية المؤثرة؛ حيث نجد تلك الحركة السريعة والغموض البوليسي، وتلك خصائص أفلامه الأولى، وتصاعدت بدلاً عنها إيماءات زاخرة بالحيوية ورموز مبهرة (الفرس البيضاء المنطلقة في شوارع سانتياغو المقفرة).
لكنه في الوقت ذاته، يكشف للمشاهد أثناء بحث زوجة الصحافي، بت (سيسي سباسيك) عن زوجها (المفقود)، عن هول المجزرة وما تعرضت له من قيود وصلت للاعتقال لمجرد أنّها كانت تسأل عنه، على الرغم من كونها أمريكية، وذلك يوفر لها ميزة خاصة (سلطات الانقلاب كانت مدعومة من واشنطن حينها).

فيلم "المفقود".. الحقيقة الضائعة في دهاليز السلطة الباطشة
"المفقود" الذي نجح في صالات العرض، حقق غرضه في الكشف عن مأساة شاملة، لكنه أظهر لاحقاً وعبر ذلك النجاح ازدواجية كبيرة ولاحيادية في موقف الإعلام والمؤسسات الثقافية في الغرب عموماً، حيث قوبل فيلم غافراس التالي "هانا – ك" بصمت مطبق إن لم نقل بالمحاربة، على الرغم من كون فيلم "المفقود" كان أكثر جرأة في قول الحقائق وبلغة أكثر فصاحة وبرؤية دقيقة لم تتوفر بذات الوقائع في "هانا – ك" وحين نتيقن السبب، يبطل عجبنا؛ فالفيلم يتحدث عن القضية الفلسطينية وتلك وحدها تحدث في أوساط الغرب السياسية والثقافية الكثير من الفزع! وذات الحقائق التي قبلت من غافراس في "المفقود" لم تقبل منه تلك المرة بل أنه وصف بأشد اللعنات، كيف لا؟! وهو يشير ويسلط الضوء على "جوانب" من الحقيقة، حقيقة البناء العنصري الاسرائيلي، وكانت خير وسيلة للنيل منه هي في ضرب هذا الحصار من الصمت المطبق حول الفيلم ومحاربته بأشنع الوسائل، واتهم المخرج بالتهمة الجاهزة "اللاسامية"، وحينها وجد المخرج وزوجته، ميشيل راي غافراس، وهي منتجة الفيلم، نفسيهما في وسط ملغوم بالافتراء !

قوة الحادثة الفردية وقدرتها في التعبير عن صدق واقع بأكمله يتجسد عبر فيلم غافراس المهم (المفقود)

"هانا – ك" هو اسم المحامية (هانا كونمان)، اليهودية النازحة إلى "أرض الميعاد" والمتزوجة من الفرنسي فيكتور (جين يان) الذي تتركه على أثر خلاف، وتجد مع رفيقها قاضي التحقيق جوشوا (جبريال بيرني) عبر صداقة وطفلٍ غير شرعي منه ما يحقق أمنياتها "الوهم" بعسل عودتها إلى أرض الميعاد التاريخي، غير أنّ وقائع كهذه ما تلبث أن تتفكك شيئاً فشيئاً مع ظهور الفلسطيني (محمد بكري) الذي يُعثر عليه متخفياً في بئر أحد البيوت الفلسطينية وهو يبدأ رحلة العودة لأرضه بطريقة يعتبرها الإسرائيليون "لا شرعية".
المخرج مع بداية كهذه لا ينسى أن يظهر حقيقة جنود الاحتلال؛ إذ يفجرون البيت مع أول خيوط الفجر المنسجمة مع أصوات الأذان!
تكلف المحكمة العسكرية، المحامية (كونمان) بالدفاع عن المتهم الفلسطيني التي تستغرب من هيئة المحكمة في تأكيدها على كون موكلها "مخرباً" وهو الأعزل من كل سلاح، ومن هنا يبدأ الشرخ في وعي كوفمان، وذلك ما يلبث أن يتعمق ويصبح شكوكاً في حقيقة وجود اسرائيل حين يعود الفلسطيني ثانية لأرضه ويطلب منها (بكري) الدفاع عنه هذه المرة.
غافراس وكاتب السيناريو (فرانكو ساليناس) أظهرا الفلسطيني بوعي يجد فيه المشاهد الغربي سمةً متحضرةً وطريقةً عقلانية في مناقشة الأمور، إذ أظهرا الهدوءَ في شخصيته، تعاملهُ برصانةٍ مع وقائع حياته عبر استخدامه الوثائق التي تؤكد ملكيته لبيته في (كفر رمانة)، ولكن "أين كفر رمانة هذه؟" الجندي الاسرائيلي وبحدّة ينصح المحامية حين تسأله عن القرية باستعمال خريطة جديدة "وقائع مزيفة جديدة"، فالقرية أصبح اسمها (كفر ريمون)!

اقرأ أيضاً: المخرج الإيراني عباس كيارستمي: الحياة ولا شيء سواها
هكذا إذن أصبحت القرية الفلسطينية مستعمرة لا أثر فيها غير بيت عائلة الفلسطيني المتهم بالتخريب، والذي أصبح "متحفاً" لوجاهة تظهر عليه، وذلك الراعي الذي يقود قطيع أوهامه في أطراف القرية وهو يصيح: هنا، هنا كفر رمانة. إنّ هذا المشهد وبجمالية تنفيذه العالية يحيلنا إلى نص الشاعر الفلسطيني محمود درويش المنشور في مجلة "اليوم السابع" في متن الرسالة الموجهة منه إلى صديقه الشاعر سميح القاسم، وذلك النص قريب في تفاصيله لذلك المشهد، حين يقول: "حين مارست طقس الحج الأول إلى قريتي (البروة) لم أجد منها غير شجرة الخروب والكنيسة المهجورة، وراعي أبقار لا يتكلم العربية الواضحة ولا العبرية الجارحة: من أنت يا سيد؟ فأجاب: أنا من كيبوتس (يسعور) قلت أين كيبوتس (يسعور)؟ قال: هنا، قلت هنا: البروة". قال: ولكنني لا أرى شيئاً ولا حتى حجارة، قلت: وهذه الكنيسة.. ألا تراها؟ قال: هذه ليست كنيسة، هذا اصطبل للأبقار، هذه بعض آثار رومانية ويستدرك الشاعر موجهاً الحديث لصديقه، لاحظ المعاني العكسية، الانقلابية، الاستبدادية للكلمات، نحن في أحسن الأحوال حراس آثار روماني"!!

فيلم "هانا ك" .. غافراس الفلسطيني
في دلالة النص أعلاه نجد مقاربة في أحد حوارات الفيلم بين المحامية وإحدى نساء المستعمرة، فتخبرها نحن سكان المنطقة، لكن بيت الفلسطيني ووثائق ملكيته ونسخة الصورة الموجودة مع تلك الوثائق والأصل المعلّق على جدار البيت وصوت ذلك الراعي العربي والأشجار الوفيرة قديمة الإنبات، توفر عند المحامية قناعة كاملة مناقضة لكل ما تقوله ألسنة الكذب في المستعمرة.

ذات الحقائق التي قُبلت من غافراس في (المفقود) لم تقبل منه في (هانا ك) عندما عرّى جرائم الاسرائيليين

إنّ قناعاتٍ كهذه تتصاعد بهدوء وبانتقالات كاميرا مدير التصوير الإيطالي (ريكاردو أرونوفيش) التي تنوعت بين البحث عن الجمالي المجرد في مكونات المشهد وتسجيلها للوقائع، لكنها ناقشت المكان بهدوء بالغ ما وفّر فرصةً اعتبرها البعض شيئاً من التخلي عن الجرأة التي عرف بها غافراس حين يتصدى لقضية تحمل في طياتها أزمةً اجتماعية، لكن ما فعله الفيلم يبقى مهماً على الرغم من اختلاطات وعي كاتب السيناريو والمخرج.
تطور الأحداث في الجزء الأخير من الفيلم أعطى التفاصيلَ للمشهد الحقيقي لواقع الاحتلال: غلاة الإسرائيليين لا يترددون في تهديد المحامية لأنّها تعرض حقيقة الشاب الفلسطيني العائد؛ الذعر من عملية فدائية وهو يقطع إيقاع الحياة في كل شيء، الضغط المتواصل من هيئة المحكمة على المحامية لترك الموضوع نهائياً، فنجاحها يعني أنّ ملايين الفلسطينيين سيمتلكون الحق منطقياً في العودة لبلادهم المحكومة وفق منطق الاحتلال الاستعماري لا بـ"أوهام العودة التاريخية" كما تراها المحامية في أيام وجودها الأولى هناك.

مشهد من فيلم غافراس الأخير "بالغون في غرفة"
جيل كلايبورغ، الممثلة الأمريكية وبطلة "هانا – ك" و "بعطرها" الخفي الذي يتحسسه الفلسطيني (محمد بكري) وهي تراقبه عن بعد توقعاً منها، قيامه بعمليات "تخريبية"، تبدع في تجسيد شخصية المحامية، وفي مشهد طردها للعشيق والزوج، والطفل الفلسطيني الصغير حين يتم اتهامه بمسؤوليته عن (عملية تفجير). وحمل لنا ذلك المشهد براءةً تحاول الوصول إليها عبر التخلص من كل تلك القذارات والأوهام التي خاضت فيها !

اقرأ أيضاً: أمير العمري: الكاميرات الرقمية خلصت المخرجين الشباب من التبعية، ولكن...
المخرج غافراس كان هو الآخر ممتازاً في صنع مشاهد القدس، على الرغم من بعض الإطالة والجو السياحي الذي اتسمت به بعض المشاهد، غير أنّ جمالية التعبير العالية في موسيقى الفيلم التي وضعها اللبناني الأصل (غبريال ياريد) صاحب الموسيقى التصويرية لفيلم يوسف شاهين "وداعاً بونابرت" والتي اعتمد في تنفيذها على الإيقاعات العربية والتراتيل وأصوات الأذان، منحت تلك المشاهد حيويتها وجمالها الرفيع ومشاعر الحنين الناعمة، ويظل ذلك الفيض من الضوء الساطع الذي التقطته الكاميرا في أسواق القدس القديمة وظلال الناس والأشياء وضباب الفجر في المشهد الأول، ولمعان الذهب في قبة المسجد الأقصى، ترانيم تتلاعب بمشاعرنا وتمتلكها دون تردد.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية