علم الكلام الجديد وإشكالية التسمية

علم الكلام الجديد وإشكالية التسمية


08/09/2019

يحرص باحثون أشدّ التصاقاً بالتراث على استعمالِ مصطلح "علم الكلام الحديث"، وغيرِ ذلك من تسمياتٍ تستبدل كلمةَ "الجديد" بما يوازيها في محاولةٍ منهم للخلاص من الحمولةِ الدلالية لمصطلح "علم الكلام الجديد"، وما تشي به من قطيعةٍ مع معظم كلاسيكيات علمِ الكلام القديم، ودعوةٍ لإعادةِ بناءٍ شاملة لعلم الكلام، تتخطى المنطقَ الأرسطي لتنتقل للمنطق والفلسفة الحديثَين، والتحرّرِ من سطوةِ الطبيعياتِ والرؤيةِ القديمة للعالَم، بتوظيفِ مكاسب العلومِ والدراساتِ الإنسانية والرؤيةِ الجديدة للعالم، وتبعاً لذلك يتحوّل منهجُ علمِ الكلام وبنيتُه، وتتبدّل كثيرٌ من مسائله، بل يحدث تحوّلٌ في طبيعة وظيفته، فبدلاً من انشغالِه في الدفاع عن العقائد، تصبح وظيفتَه الجديدة شرحُ وبيانُ وتحليلُ المعتقدات، والكشفُ عن بواعث الحاجة للدين، ومختلف الآثار العملية لتمثلاته وتحولاته في حياة الفرد والجماعة، تبعاً لأنماطِ الثقافةِ وطبيعةِ العمران والاجتماعِ البشري. وبتعبير آخر تنتقل مهمةُ علم الكلام من كونها أيديولوجية، تنطلق من مسلّمات ثابتة، لا غرضَ لها سوى التدليلِ على المعتقدات، ونقضِ حجج الخصوم، إلى مهمةٍ معرفية لا تنشغل بنقض حجج الخصوم، بل يتمحور غرضُها حول تعريفِ المعتقدات وتوصيفِها وتحليلِها، بالاعتماد على الفلسفة والعلوم والمعارف الجديدة، والتعرّف على منابعِ إلهامِ المعتقدات، ومجالاتِ اشتغالها، وأشكالِ فعلها في سلوك الفرد والجماعة.

"الوحي" هو الموضوع المحوري في علم الكلام الجديد والـ "كلام" الإلهي مبحث أساسي في بيان حقيقة الوحي

   في ضوءِ ذلك يتضح أننا أمامَ عِلمين: "علم الكلام القديم"، و"علم الكلام الجديد"، وليس عِلماً واحداً، فعلى الرغم من اشتراكهما بالاسم، لكنّ توصيفَ "الجديد" يجعله مفارقاً للقديم بشكلٍ كبير، فهو وإن كان يشترك معه في بحثِ جملةٍ من الموضوعات نفسِها، لكنه لا يضيف موضوعاتٍ جديدةً لم يعرفها علمُ الكلام القديم فحسب، بل إن طريقةَ بحثه ونتائجَه ومراميَه مختلفةٌ، ذلك أنّ كلاً منهما له مقدماتُه المعرفية، ومنهجُ بحثه، وأدواتُ تفسيره، ومفاهيمُه المفتاحية، وكيفيةُ رؤيته للعالم.
التسمية تفرض سلطتها على التفكير
   ربما يُقال إنّ الاصرار على تسميةٍ دون أخرى لا يغيّر من المحتوى شيئاً، لكن هذا الكلام غير دقيق؛ لأن كلَّ تسمية تفرضُ سلطتها، التسميةُ بوصلةٌ ترسمُ خريطةَ الطريق التي يسلكها الباحث. "علم الكلام الجديد" هو التسميةُ التي أتبنّاها (علمُ الكلام الجديد مصطلحٌ تداولت استعمالَه وأشاعته بالعربية مجلةُ قضايا إسلامية معاصرة، وخصّصت له ولموضوعاته تسعة أعداد، هي 14-22 للسنوات 2001-2003، وواصلت هذه المجلة دراسة مختلف موضوعاته في بعض أعدادها حتى العدد الجديد 69-70 الذي صدر عام 2018. ومن قبلها أشار لمصطلح الكلام الجديد بعض الباحثين العرب، وبعد ذلك اتسع استعمالُه، حتى بدأ يتوطن المجالَ التداولي العربي بالتدريج)، ويتبنّى هذا الاستعمال كلُّ من يعتقد بعجزِ علم الكلام القديم، ويعرفُ قصورَه عن الوفاء بالمتطلبات الاعتقادية للمسلم اليوم، ومن يدعو لمفارقةِ ذلك العلم، وبناءِ علم كلامٍ بديل يكون جديداً في مقدماتِه المعرفية ومعناه ومبناه ونتائجه.

اقرأ أيضاً: شبلي النعماني لم يؤسس علم الكلام الجديد
  لا أستعمل تعبير "علم الكلام الحديث"؛ لأنّ "علم الكلام الجديد"، الذي مضى على استعماله أكثرُ من قرن في كتابات الباحثين المسلمين في الهند وإيران والبلاد العربية، صار مصطلحاً مستقراً في اللغات الأردية والفارسية والعربية ينطبق على هذا العنوان لا على غيره، ومضمونه لا يتطابق مع مضمون "علم الكلام الحديث"، وإن كان يشتركُ معه في بعض دلالاته.
   إنّ تعبيرَ "علم الكلام الحديث" يلجأ إليه من يذهب إلى أنّ تجديدَ علم الكلام يتحقّق برفده بمسائل وحجج جديدة، مع الاحتفاظ ببنيتِه التراثية، وطرائقِ تفكيره، ولغتِه الخاصة. لذلك لجأ هؤلاء إلى استعمال كلمة "الحديث" حذراً من الدعوةِ للخروج على علم الكلام القديم، واستبدالِه بعلم يستجيب لإشباع حاجة المسلم الى رؤية توحيديةٍ لا تكرّر أكثرَ المقولات والجدالات المعروفة عند المتكلمين قديماً.

عمل الحضورُ الواسع لأهل الحديث وتفشي التيار السلفي على ترك استعمال "علم الكلام" واستبداله بـ "أصول الدين"

   يشعر البعضُ بالقلق من تسمية "علم كلام جديد"، ولا أريد أن أتحدثَ كثيراً عن ضرورة هذه التسمية؛ لأنها صارت بحكم الأمر الواقع، بعد أن كُتِب فيها عددٌ كبير من البحوث والمؤلفات، واستقرت كمقرر دراسي في عدة معاهد وجامعات لعلوم الدين، وصارت تخصصاً معروفاً كتب فيه التلامذة في الجامعات الاسلامية وغيرها رسائل متنوعة في الدراسات العليا.
   ولولا شيوع مصطلح "علم الكلام الجديد" في الاستعمال، لكان الأجدر استعمال مصطلح "اللاهوت الجديد"، علماً أنّ مصطلح "الالهيات" متداول في الفلسفة الإسلامية منذ فلاسفة الإسلام المتقدمين، ومازالت كليات علوم الدين في إيران وتركيا وغيرهما تسمى بـ "كلية الإلهيات".

اقرأ أيضاً: وليُّ الله الدهلوي والإسلام التعددي الهندي 

وملخص الكلام في هذا الموضوع أنّ "علم كلام جديد" هو محاولة للاجتهاد في علم الكلام اليوم، كما اجتهد مؤسسو الفرق الكلامية في الماضي، فدونوا تصوراتِهم ومفاهيمَهم لأصول الدين المشتقة من عقلانية وعلوم ومعارف عصرهم، فلماذا لا يجوز أن يجتهد علماء الإسلام في عصرنا لإنتاج تصوراتهم في التوحيد والمعتقدات. لكنّي لا أستغرب ذلك ممن يصر على غلق باب الاجتهاد في الفقه ومازال لا يجرؤ على الخروج على فتاوى أئمة المذاهب وفقهاء الأمس المعروفين، إذ إنّ من ينكر الاجتهاد في فروع الدين كيف يقبل الاجتهاد في أصول الدين الذي هو أبعد مدى وأعمق من ذلك بكثير؟
من أصول الدين إلى علم الكلام
   عمل الحضورُ الواسع لأهل الحديث وتفشي التيار السلفي في عالم الإسلام، على ترك استعمال "علم الكلام" واستبداله بـ "أصول الدين"، أو "العقيدة" أو "العقائد"؛ لأنّ أهل الحديث كانوا ومازالوا مناهضين لعلم الكلام، على الرغم من أنّ استعمال "علم الكلام" أدق، بوصف "العلم" و"الكلام" كلمتين محايدتين، مضافاً إلى الحضور التاريخي لهذا المصطلح منذ نشأته، واستقلاله كعلم من علوم الدين في وقت مبكر. أما ترك تسمية علم الكلام واستبداله بمصطلحات: "أصول الدين"، أو "العقيدة" أو "العقائد"، ففرضته عوامل بعيدة عن الروح العلمية؛ لأنّ كلَّ هذه التسميات تحيل إلى مفاهيم تشي بمعنى ديني، والديني هنا يحيل إلى المقدس المتعالي على التاريخ. لذلك لا يكون موقف الباحث عند استبعاد تسمية علم الكلام واعتماد تسمية تشي بمعنى ديني محايد، كما ينبغي أن يكون عليه موقف كل باحث علمي بالنسبة إلى موضوع بحثه، بل يتحدد موقفه في إطار معتقدات مقررة سلفاً، وليس له من موقف إلا الدفاع عنها والتشبث بها بمختلف الحجج والمجادلات. وذلك يعني وضع "أصول الدين"، أو "العقيدة" أو "العقائد"، خارج الأسئلة والنقاشات العلمية، وتلقينه وكأنّ مفاهيمه حقائق نهائية. لذلك أمسى تلميذ "أصول الدين"، أو "العقيدة" أو "العقائد" في معاهد التعليم الديني والجامعات الإسلامية يتلقى اليوم اجتهادات مؤسسي الفرق بوصفها القول الفصل في "معرفة الله وصفاته وأسمائه والوحي والنبوة" وما يتصل بذلك من مباحث.

اقرأ أيضاً: السؤال الميتافيزيقيّ الجديد يفرض علينا بناء علم كلام جديد
  إنّ نشأة علم الكلام اقترنت بوظيفة دفاعية في ما مضى، لكن كان أثر "علم الكلام" بالغ الأهمية في أن يصبح أفقاً مفتوحاً للتفكير، وولادة مختلف التساؤلات والإجابات المتنوعة، تبعاً لاختلاف المجتهدين في علم الكلام، وتنوع أزمنتهم وثقافاتهم ومواطنهم، والأطر المرجعية لتفكيرهم ومسلماتهم. فمثلاً كان فخر الدين الرازي "544-606 هـ" ذا أثر كبير في تحفيز الذهنية الكلامية على إثارة الأسئلة الصعبة والانفتاح على آفاق رحبة للتفكير في مسائل بالغة الدقة، حتى لقّب بـ "إمام المشككين".
    ينطبق معنى "علم" على "علم الكلام الجديد"، كما ينطبق عليه معنى "كلام"، ومعنى "الجديد". فهو "علم" لأنه يعتمد مناهج البحث العلمي، ويوظّف كل ما يحتاجه الباحث من مكاسب المعرفة البشرية، بلا ارتياب أو حذر. وهو بحث علمي في الـ "كلام" الإلهي؛ لأن موضوعه "الوحي" كما تقدم ذلك. "الوحي" هو الموضوع المحوري في علم الكلام الجديد، والـ "كلام" الإلهي مبحث أساسي في بيان حقيقة الوحي، وإمكانية تواصل الله مع الإنسان بلغة بشرية. وهو علم "جديد" بوصفه لا يستنسخ مناهج الكلام القديم، ويتحرر من كثير من مسائله وجدالاته المكررة، ويتسع لمسائل جديدة تتصل بأسئلة ميتافيزيقية توالدت في ذهن إنسان اليوم ولم يعرفها إنسان الأمس، خاصة الأسئلة المتصلة بمعنى وجود الإنسان وحياته ومصيره.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية