فريد بن بلقاسم: ادعاء "النهضة" القطيعة مع "الإخوان" دعاية سياسية انتخابية‎

فريد بن بلقاسم: ادعاء "النهضة" القطيعة مع "الإخوان" دعاية سياسية انتخابية‎


10/09/2019

أجرى الحوار: عيسى جابلي


قال الباحث في الفكر الإسلامي والحركات الإسلاموية، فريد بن بلقاسم، إنّ حركة النهضة فقدت الكثير من رصيدها الانتخابي منذ العام 2011، وإنّ حظوظ مرشّحها للرئاسيات "ضعيفة"، مؤكداً أنّ تماسك قاعدتها الانتخابية، كما يزعم قادتها "صورة متوهمة".

حركة النهضة فقدت منذ انتخابات 2011 إلى الانتخابات المحلية في 2018 ما يقارب المليون ناخب

وأضاف بن بلقاسم، في حواره مع "حفريات"؛ أنّ حركة النهضة كانت مجبرة على المشاركة في الانتخابات الرئاسية رغم تركيزها بالأساس على مجلس النواب "الذي يمكنها من التحكم في السلطة التنفيذية والمناورة في الرئاسية"، مؤكداً أنّ المراجعات التي تروج لها الحركة "مسألة فيها نظر، في ضوء الظروف المحلية والإقليمية التي تمّت فيها، مرجِّحاً أنّها مدرَجة إلى الآن في خانة "صناعة الصورة".
وأوضح، الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس؛ أنّ مسألة قطيعة حركة النهضة مع الإخوان حولها "أسئلة كثيرة"، وهي داخلة في "باب الدعاية السياسية الانتخابية"، على حد تعبيره، متوقعاً ألا تفرز الانتخابات التونسية القادمة قوّة سياسية متفوّقة على الآخرين بشكل كبير.

اقرأ أيضاً: إما تونس أو النهضة
وفريد بن بلقاسم باحث في الفكر الإسلامي والحركات الإسلاموية، له مقالات في قضايا الهوية وفي الإسلام السياسي، وصدر له، العام 2019، كتاب "الإسلام السياسي ومفهوم المخاطر" عن دار الجنوب في تونس، وشارك في الكتاب الجماعي "ميراث النساء ووهم قطعية الدلالة"، ببحث عنوانه "في علم الفرائض دراسة تحليلية نقدية".
وهنا نصّ الحوار:
حظوظ حركة النهضة الانتخابية


نبدأ بالحديث عن حظوظ حركة النهضة في الانتخابات التشريعية والرئاسية، كيف تراها؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال؛ ينبغي أن نشير إلى أهمية هذا الموعد الانتخابي فيما أطلق عليه مسار الانتقال الديمقراطي في تونس؛ فهذه الانتخابات ستوضّح بنسبة كبيرة مدى النجاح في إقامة نظام حكم مبني على قواعد الديمقراطية، وخصوصاً على مبدأ التداول السلمي للسلطة.

المراجعات في أدبيات الإسلام السياسي ليست أمراً جديداً كلّما وجدت حركاتها نفسها في أزمة

والمتابع للمواعيد الانتخابية في تونس، منذ 2011، يلاحظ التطوّرات الحاصلة؛ على مستوى المشاركة في الانتخابات، ومستوى قدرة القوى السياسية على المحافظة على رصيدها الانتخابي، وفي هذا المضمار نلاحظ أنّ حركة النهضة فقدت الكثير من قدراتها، وخسرت الكثير من خزّانها الانتخابي، ولكنّ حظوظها في هذه الانتخابات ليست مرتبطة فقط بهذا العنصر، وإنّما بعنصرين آخرين، هما: حجم المشاركة في الانتخابات القادمة، الرئاسية والتشريعية، من ناحية، وقدرة الأحزاب الأخرى على أن تكون بديلاً قوياً للطبقة الحاكمة اليوم من ناحية أخرى. وأعتقد، في ظلّ الواقع الراهن؛ أنّه من الصعب التكهّن بنتائج الانتخابات، لا سيما الانتخابات التشريعية، في ظلّ كثرة الترشّحات والضبابية، وتشتّت العائلة المحسوبة على التيار الحداثي في تونس، أمّا في الانتخابات الرئاسية فالأمر مختلف، وأعتقد أنّ حظوظ مرشّح حركة النهضة ضعيفة حتى في بلوغ الدور الثاني.
ولكنّ كثيراً من المحللين يرون أنّ "تماسك" قواعد النهضة مقابل تشتت أحزاب منافسيها قد يقوي حظوظها بالفوز؟
في رأيي؛ ينبغي أن نحدّد مَن هم قواعد النهضة؟ وهل هم يشكّلون كتلة متراصّة متماسكة كما يزعم قادة النهضة أنفسهم؟ أعتقد أنّ الأمر لا يعدو أن يكون صورة متوهّمة: هناك حزام قاعدي حول النهضة متماسك وقوي مبني على نوع من الولاء العقائدي، إضافة إلى روابط عائلية متينة، وهو حزام محدود العدد، ولا يجعل من النهضة قوّة سياسية معتبرة، وهناك حزام انتهازي يعتمد على المصالح السياسية والاقتصادية، وهذا الحزام متحرّك يبحث دوماً عمّن يحمي مصالحه، والنتيجة الماثلة بين أعيننا.

زعم قادة النهضة القطيعة مع الإخوان يدخل في باب الدعاية السياسية الانتخابية

إنّ حركة النهضة فقدت، منذ انتخابات 2011 إلى الانتخابات المحلية في 2018، ما يقارب مليون ناخب، وهي نفسها شهدت في الأعوام الأخيرة صراعات داخلية، ظهرت بشكل بارز أثناء إعداد القائمات الانتخابية هذا العام، وهناك تململ داخل قواعدها الوسطى والصغرى، يضاف إلى ذلك مسؤوليتها في ما تشهده البلاد من أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وهذا كلّه يلقي بظلاله على حظوظها في الانتخابات التشريعية القادمة، أمّا الحديث عن تشّتت القوى الحداثية واليسارية؛ فهذا أمر لا يمكن إنكاره، رغم أنّها تمثّل، في رأيي، القوّة المجتمعية الأكبر في تونس، ولها إمكانية الحكم دون حاجة إلى ما يسمّى التوافق مع حركة النهضة.
لماذا برأيك أصرّت حركة النهضة على المنافسة على انتخابات النواب والرئاسة معاً؟
أعتقد أنّ وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، رحمه الله، وتقديم الانتخابات الرئاسية على التشريعية، وقرب الموعدين من بعضهما (أقلّ من شهر)، جعل حركة النهضة في مأزق؛ فهي إن لم تشارك في الرئاسية ستفقد الكثير؛ أوّلاً من صورتها التي تحاول ترويجها باعتبارها الحركة السياسية الأقوى، وثانياً من الزخم الذي ستوفّره المشاركة في هذا الموعد الانتخابي، فوجدت نفسها مجبَرة على المشاركة.

اقرأ أيضاً: ساعة "الحقيقة" تقترب: "الجهاز السري لحركة النهضة" في برامج مرشحي الرئاسة
وفي رأيي؛ إنّها لم تكن تريد ذلك؛ لأنّ تركيزها الأساسي على مجلس النواب مصدر السلطة الرئيس، الذي يمكّن من التحكّم في تشكيل الحكومة والإمساك بأغلب مفاصل السلطة التنفيذية، ثمّ بعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية يمكنها أن تناور في الرئاسية، لكنّ هذا المخطّط سقط ووجدت نفسها في وضع يفقدها المناورة وهو التكنيك السياسي الذي تتقنه جيداً.
حقيقة مراجعات "النهضة"


ماذا عن المراجعات التي تقول "النهضة" إنّها أقدمت عليها بعد الثورة؟ هل هي مراجعات جذرية برأيك؟

المراجعات في أدبيات الإسلام السياسي ليست أمراً جديداً، كلّما وجدت هذه الحركات نفسها في أزمة لجأت إلى القول إنّها بصدد إجراء مراجعات.

المساواة بين الرجل والمرأة كما هي مطروحة اليوم غير مفكَّر فيها في الرؤية الإسلاموية

أعود إلى سؤالك حول حركة النهضة: أعتقد أنّه ينبغي أن نضع ما تقوله في إطار ما يمكن تسميته بصناعة الصورة، والمهمّ في هذه الصناعة ليس الحقيقة كما هي وإنّما قدرتها التأثيرية في المتلقّي؛ أمّا معرفة إن كان الأمر جدّياً أم لا؟
هناك في رأيي معطيان يجب أن يؤخذا بعين الاعتبار: معطى السياق: في أي ظروف وأحداث أعلنت حركة النهضة هذه المراجعات (تنبغي العودة إلى منتصف عام 2013 وما جرى فيه إقليمياً، بسقوط حكم الإخوان في مصر، ووطنياً باعتصام الرحيل بعد الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية ضدّ الأمن والجيش، يضاف إلى ذلك انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة)؛ فهي إذاً، معطيات ضاغطة شعرت فيها الحركة بالخطر.

اقرأ أيضاً: هل تنوي "النهضة" التغوّل في الساحة السياسية التونسية؟
والأمر الثاني؛ هو إخضاع هذه المراجعات لاختبار النزاهة والمصداقية، معرفياً وأخلاقياً، وفي هذا المضمار ثغرات كثيرة عن مدى استقامة الجمع بين الإسلام باعتباره ديناً، والديمقراطية باعتبارها نظاماً لإدارة شؤون المواطنين، وعن مدى قدرة دعاة حركة النهضة على مراجعة لأصول الإسلام السياسي من قبيل "شمولية الإسلام"، و"الإسلام دين ودولة"، و"حاكمية الشريعة"، وعن مدى قدرتهم على استيعاب القيم الحديثة، وخصوصاً قيمة المساواة وقيم حقوق الإنسان، كما تنصّ عليها المواثيق الدولية.

اقرأ أيضاً: النهضة بين وجهها القبيح وأقنعتها الزائفة
إضافة إلى احتكام هذه المراجعات لمبدأ الحقيقة في الكشف عن الماضي والاعتراف به، إلى غير ذلك من الأسئلة العالقة التي تجعل هذه المراجعات تصبّ إلى الآن في خانة صناعة الصورة، وفي خانة التلاعب من أجل المحافظة على الموقع، وهذه الازدواجية هي التي تخلق الهواجس والشكوك في التعامل مع ما تعلنه الحركة.

من هذه المراجعات؛ ما أعلنه مورو مثلاً، بخصوص قطع علاقة حركة النهضة بالإخوان منذ أواخر السبعينيات.
ما قاله السيد مورو يدخل في باب الدعاية السياسية الانتخابية، طبعاً إذا كان يقصد العلاقة التنظيمية؛ فهذه في الحقيقة حولها أسئلة كثيرة، أمّا الروابط الفكرية والإيديولوجية؛ فهي لا تحتاج إلى جهد لإثباتها، فيكفي أن نستحضر مثلاً ما كان يقوم به الاتجاه الإسلامي سابقاً (حركة النهضة اليوم)، ومورو أحد أبرز قيادييه؛ من تلخيص ونشر لكتب سيد قطب مثلاً، والبيان الذي وقّعه مورو شخصياً ضدّ وزير التربية الأسبق، محمد الشرفي، وفيه شحنة تكفيرية ضدّ توجّهاته في الإصلاح التربوي، وغيرها من الأحداث التي تبين أنّ خزّان النهضة الأيديولوجي هو خزّان إخواني.
يلاحظ أنّ الأغلبية الساحقة في قوائم حركة النهضة من الرجال، كيف تصف موقف حركة النهضة من المرأة؟
بالنسبة إلى موقف حركة النهضة من قضية المرأة فهناك نقطتان مهمّتان؛ الأولى على المستوى السياسي، وباعتبار المرأة مواطنة، وهنا لم تعد الحركة تجد حرجاً في الدعوة إلى مشاركة المرأة في الحياة السياسية، فتبنّيها للديمقراطية الانتخابية يحتّم عليها أن تستثمر في الصوت النسائي، وأن تحاول الاستفادة منه، ولكن دون أن تقطع مع الموقف الذكوري، الذي يرهن ذلك الصوت لصالح الدعوة والحركة التي يسيطر عليها الرجال.

اقرأ أيضاً: سطوة الغنوشي تُفاقم الخلافات داخل حركة النهضة
والنقطة الثانية على مستوى المرأة، باعتبارها امرأة لها حقوق خاصّة بها، أقرّتها العهود والمواثيق الدولية، وحرّرتها من منزلة الدونية والتبعية للرجل؛ فحركة النهضة، وحركات الإسلام السياسي عموماً، تتشبّث بموقف أصولي رافض لهذه المنظومة الحقوقية.
"مدنية" الحركة

رفض حركة النهضة لمسألة المساواة في الميراث متوقَّع
كيف تقرأ رفض "النهضة" لقانون المساواة في الميراث وأسبابه في ظل تأكيها أنّها حركة "مدنية"؟

رفض حركة النهضة لمسألة المساواة في الميراث متوقَّع؛ فهي بذلك منسجمة مع مرجعيتها الإسلامية المعلنة في نظامها الأساسي، ومع روافدها الإخوانية المعتمدة على الموروث الأصولي والفقهي، وهو موروث يرى أنّ مسألة الميراث محسومة بما يسمّيه علم الفرائض، إذاً المساواة، كما هي مطروحة اليوم، غير مفكَّر فيها في الرؤية الإسلاموية، يضاف إلى ذلك أنّ حركة النهضة خسرت كثيراً من قاعدتها الانتخابية، ولم يبقَ لها غير نواتها "الجماهيرية" الصلبة، وهي غير مستعدّة من الناحية السياسية لأن تخسر المزيد.
إذاً، ما مدى جدية الزعم بأنّ الحركة قد تحوّلت إلى حزب مدني؟
مدنية حركة النهضة تحتاج إلى أن نحدّد المقصود بالمدنية، إن كان الأمر يتعلّق بأنّ هذه الحركة غير عسكرية، فهذا أمر واضح، وإن كان غير محسوم تماماً في ظلّ الحديث عن جهاز سرّي تابع لها، وإن كان المقصود حركة غير دينية، فهي فعلاً حركة غير دينية؛ فهي حركة سياسية بمرجعية إسلامية، بحسب نظامها الأساسي، دون أن توضّح لنا المقصود بالمرجعية الإسلامية.

اقرأ أيضاً: وفاة السبسي تخلط أوراق النهضة قبل الانتخابات
أعتقد أنّ مسار تحوّل حركة النهضة في تونس إلى حركة مدنية، بمعنى حركة سياسية تؤمن بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، يحتاج إلى جهد كبير، تنظيري وعملي، وعلى مستوى القمّة والقاعدة، وهو عمل يمكن أن تكون النهضة قد شرعت فيه بضغط الأحداث والظروف، وكلّما ازدادت الضغوط ستبذل الحركة جهوداً أكبر للسير قدماً في هذا المضمار، ونحن اليوم نسمع أصواتاً منفردة، لكنّها مهمّة، في هذا الاتّجاه.
الانتخابات التونسية القادمة لن تفرز قوّة سياسية متفوّقة على الآخرين بشكل كبير

على ذكر الجهاز السرّي؛ هل قدمت النهضة حججاً مقنعة تثبت عدم ارتباطها به وبالاغتيالات السياسية؟
امتلاك الحركات الإسلاموية أجهزة سرّية أمر تؤكّده شواهد كثيرة من داخل هذه الحركات نفسها (راجع ما كتبه قادة النظام الخاصّ التابع لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، مثل: علي عشماوي، ومحمود الصبّاغ، وغيرهما)، وفي وقت سابق؛ امتلك الاتّجاه الإسلامي في تونس مجموعة أمنية وعسكرية تابعة له ضالعة في التخطيط لانقلاب على نظام الرئيس، الحبيب بورقيبة، عام 1987، وهو ما أكّده المنصف بن سالم، الذي أشرف على المجموعة في كتابه "سنوات الجمر".

مسار تحوّل "النهضة" إلى حركة مدنية يحتاج إلى جهد كبير تنظيري وعملي وعلى مستوى القمّة والقاعدة

أمّا اليوم؛ فقد أعادت هيئة الدفاع عن الشهيدَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إثارة هذا القضية، في أيلول (سبتمبر) 2018، وأصبحت قضية رأي عام، وطرحها الرئيس الراحل، قائد السبسي، في مجلس الأمن القومي، ويبدو أنّنا في تونس في حاجة ملحّة إلى إماطة اللّثام على هذه القضية، والحسم فيها قضائياً؛ حفاظاً على سلامة المناخ السياسي، واستكمالاً لشروط الانتقال الديمقراطي؛ وليس هناك من سبيل سوى التحقيق القضائي، فالقضاء هو الكفيل، في تقديري، بأن يكشف الحقيقة.
كيف تتوقع مستقبل حركة النهضة إذا فازت بالانتخابات وتعاملها مع محيط تونس الإقليمي والدولي؟
هذا سؤال سابق لأوانه، واعتقادي أنّ الانتخابات القادمة لن تفرز قوّة سياسية متفوّقة على الآخرين بشكل كبير؛ هناك تقارب كبير بين القوى المتنافسة في هذه الانتخابات، وربّما قد لا تستطيع تشكيل حكومة مستقرّة، أمّا مستقبل حركة النهضة فتتحكّم فيه عدّة عوامل: وجود قوى سياسية قادرة على المنافسة بقوّة قد يدفعها إلى مواصلة نهج المراجعات، وربّما قد يؤدّي إلى انقسامها تنظيمياً، إضافة إلى موقف القوى الدولية الفاعلة من الإسلام السياسي.
حركة النهضة ليست في وضع مريح يسمح لها بحرّية الاختيار، وبأن تكون المتحكّم في المشهد السياسي في تونس، هناك متغيرات كثيرة والأمور لم تستقرّ بعد، وهو ما يجعل كلّ الاحتمالات واردة.

الصفحة الرئيسية