لا داعي للتفلسف!

لا داعي للتفلسف!


22/09/2019

يمكن للقراءة المتأنية في تعريف "أرسطو": "التفلسف هو الدهشة" أن تجنّبنا سوء الفهم الناتج عن علاقتنا مع الفلسفة، كما بإمكانها هدم الكثير من التصورات الجاهزة عنها؛ فالدهشة التي تُطلق التفلسف، كما يراها أرسطو، تنتج بالضرورة عن غياب الأحكام القبلية وتعليقها، وبمعنى ما إنّها تنتج عن البراءة، عن السؤال الحرّ الذي يتقصّى الماهيّات، إنّه السؤال الذي يحاول أن يتعرّف الوجود من داخله، في هذه اللحظة تنفصل المعرفة عن الحقيقة، وتتصل بالحياة، لتصبح أيّ مرحلة عمرية مناسبة للتفلسف.

الأنماط الثقافية التي ينتجها المجتمع تتحمّل المسؤولية كاملةً عن  قمع السؤال

فإذا كان أبيقور يرى أنّ الأطفال ينضجون بالتفلسف، فذلك باعتقادي يعود إلى البراءة التي تتولد عنها الدهشة، الوجود الطازج الذي لم تلوثه المسبقات والأحكام؛ حيث تضع الطفل وجهاً لوجه أمام العالم، ولكن عندما نقول في مجتمعاتنا: بريءٌ كالأطفال، قد لا تشير هذه الصفة إلى فهمنا للبراءة، إنّها تحيل إلى تصورٍ عام يغذي مركزه الالتباس، فما يظهر كمديحٍ يخفي في أعماقه الذمَّ، وبينما نحن نتغنى بها نعمل في الحقيقة على تجفيفها داخل أطفالنا وخنقها.
في كتاب "الدولة في الفلسفة السياسية" " يشير علي صبيح التميمي إلى أنّه "في مرحلة الطفولة يكون الإنسان أشدَّ رغبة في المعرفة، وأكثر قدرة على الاندهاش، بيد أنّ هذه القدرات تتلاشى بفعل التعود والعادة"، بالطبع هذا التعود تمليه ثقافة الإجابة الجاهزة، والتي تقف حجرَ عثرةً أمام إطلاق التساؤل، أو بالأحرى أمام تفلسف أطفالنا ونضجهم، لذلك فإنّ الأنماط الثقافية التي ينتجها المجتمع، تتحمّل المسؤولية كاملةً عن  قمع السؤال؛ فالتفلسف الذي يأخذ صفة سلبيةً في الذاكرة العامة، هو مؤشر على الاستخفاف بالعقل واحتقار للتفكير؛ فجملة:(لا داعي للتفلسف)، تحتل حضوراً مميزاً في جدالاتنا التي تفضي إلى النفي والتعصّب.   

اقرأ أيضاً: خلدون النبواني: الفلسفة اليوم ليست بخير
فما يمنع تعليم الفلسفة قبل المرحلة الثانوية في مجتمعاتنا، ليس في الحقيقة مبنياً على استعداد أو عدم استعداد أطفالنا لها، فلن يحدث أي فارق إن كنا نؤيد نظرية "جان بياجيه" التي تقول إنّ الأطفال لا يمكنهم امتلاك ملكة التفكير الفلسفي (التفكير داخل التفكير), إلا بعد سن12، أو نؤيد نقيضها كما جاء عند "جاريث ماثيوز" الفيلسوف المتخصص في تدريس الفلسفة للأطفال: "إنّ الطفل في سنٍّ صغيرة قادر على بناء حجج جديدة، وصياغة تساؤلات مهمة عن القيم واللغة والميتافيزيقا وحتى نظرية المعرفة"؛ لأنّ هذا الخلاف برمّته يغدو ثانوياً وهامشياً أمام القمع الذي يتعرض له السؤال في مجتمعاتنا.

التفلسف الذي يأخذ صفة سلبيةً في الذاكرة العامة مؤشر على الاستخفاف بالعقل واحتقار للتفكير

وحتى لو سلّمنا مع جان بياجيه بعدم إمكانية تعلّم الفلسفة في عمرٍ مبكر، فوصول أطفالنا إلى عتبات المرحلة الثانوية ليس إشارة كافية لجاهزيتهم لولوج عالم الفلسفة، فلا يمكننا أن نغفل المقدمات التي رافقت نموهم وأغلقت عقولهم؛ فالأيديولوجيات التي مارست على الفرد الإقصاء والتهميش، أنتجت الفرد المُذعِن، الذي لن يجد في كتاب الفلسفة سوى كتاب مبهم لا يمكن فك شيفرته، فيلجأ للحفظ عن "ظهر قلب" من أجل درجة ستنقله إلى مرحلةٍ أخرى لا أكثر، كما بقية المواد الدراسية، أليس هذا جلّ ما تريده سلطةٌ تعتبر أنّ الأفكار الحرة التي يخلقها التفلسف هي أفكارٌ مضادة وهدّامة؟
تتوقف الأسئلة دائماً عند حدود المطلق؛ فالمطلقات التي يتربى عليها الفكر تصبح حدوداً عليه، كما أنّه لحظةَ يعتاد عليها لن يستطيع رؤية العالم خارجها، ومن ثم ستكون هناك إجابات نهائية لكل شيء، إجابات مهمّتها إعفاء التساؤل من دوره الحيوي في إيقاظ الوعي، هذه العملية التي تنتهجها السلطة تلمّع الشكل بينما تهمل الجوهر؛ فالمنظومة القمعية التي تَخرّج منها المعلم، جعلته ناقلاً للمعرفة بدل أن يكون محرضاً لها، والطفل بدل أن يصبح صانعاً للمعرفة، أصبح وعاءً أجوف يُفرغ كلما امتلأ.

جملة "لا داعي للتفلسف" تحتل حضوراً مميزاً في جدالاتنا التي تفضي إلى النفي والتعصّب

عندما كان أوشو طالباً في المرحلة الثانوية طلب من أستاذه أن يعلّمه كيف يصنع التاريخ، لا أن يلقنه ماذا فعل جنكيز خان وتيمورلنك "لقد جئت إلى المدرسة لأتعلم كيف أكون أنا وليس ببغاء أردد ما تمليه علي"، ربما هذه القصة توضّح لنا ما يعنيه إدخال الفلسفة على المناهج المدرسية في عمرٍ مبكر فالفيلسوف الأمريكي، ماتيو ليبمان، وضع برنامجاً لتدريس الفلسفة للأطفال في عمرٍ مبكر، حين لاحظ أنّه "من الصعوبة تعديل أو تطوير فكر الطلبة بعد وصولهم إلى المرحلة الجامعية"، ومن يطّلع على برنامجه سيجد أنّ الأمر لا يتعلق بتدريس تاريخ الفلسفة أو الأنساق الفلسفية، إنما من خلال قصص ذات مضامين فلسفية تساعد الطفل على تشكيل ذاته وإنضاجها.
فالنضج من خلال التفلسف، بحسب ليبمان، يؤدي إلى "وعي الذات وتقديرها، وبلوغ الفكر النقدي الإبداعي المستقل، وحرية التفكير واحترام الغير"، والذي سيفضي إلى عقولٍ حرة تمتلك الروح النقدية للتفكير الفلسفي، هذه الروح، بتعبير التميمي، "ستنأى بالفرد عن الامتثالية والخضوع للوصاية والدوغماتية"، فإذا كانت الدوغمائية بتعبيره "طريقاً معبداً إلى التعصب وإقصاء الآخر وإلغاء الاختلاف، فإنّ عقلانية ونقدية التفكير الفلسفي دعوة دائمة للحوار والإنصات والاعتراف بالآخر المختلف.

اقرأ أيضاً: ما هي أبرز سمات العقل الفلسفي في الإسلام؟
إذا سلّمنا جدلاً أنّ الظلال تدلّ على وجود الضوء، وليس على غيابه، هذا يعني أنّ الضوء موجودٌ في الاتجاه المعاكس للظلال، ولكن البداهة المفترضة لهذا الحكم، تصبح غير ذلك لمن قرأ قصة "الكهف" لدى "أفلاطون"؛ فسلطة البديهيات التي تمكنت من إغماض عيون الأسئلة، جعلت من المعرفة عمياء وفقيرة، ورغم أنّ أغلبنا تخرّج من جملة (العلم نور)، لكنّ الأفق الذي يلوح فوق رؤوسنا ينذر بالظلمة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية