لماذا ثار العراقيون؟

لماذا ثار العراقيون؟


08/10/2019

يتيمة بلا أب، ولا أم. هكذا وُصِفت المظاهرات التي اندلعت الأسبوع الماضي في بغداد ومدن عراقية أخرى. لا قائمة مطالب واضحة، ولا أولويات محدّدة للمتظاهرين. ولا تيارات ولا أحزاب سياسية داعمة. مظاهرات عنوانها الغضب؛ الغضب من كل شيء، أطلقها فتيان وشبّان محبَطون، واجهوا بصدور عارية الرصاص الحي، والغازات المسيلة، وحتى "قذائف الآر بي جي"، فسقط بضعة آلاف منهم بين قتيل وجريح.

اقرأ أيضاً: قواعد الاشتباك تتغير في العراق: الحشد الشيعي مقابل الحشد الشعبي
رفض المتظاهرون بشكل عنيف، مشاركة الأحزاب والتيارات المشاركة في البرلمان وخاصة "تحالف سائرون" المدعوم من التيار الصدري، باعتبارهم جزءاً من الطبقة الحاكمة. علّق التيار الصدري مشاركة عناصره في المظاهرات. الشمال الكردي بدا أنّه ليس معنيّاً بما يجري. والمناطق السُّنية نأت بنفسها تماماً، ربما خشية التعرُّض للاتهام بوجود دوافع طائفية، أو مواجهة تهم الإرهاب و"الدعشنة" التقليدية، وربما بسبب حالة الضياع والصدمة التي تعيشها هذه الأقاليم بعد فظاعات "داعش". تنظيم "الإخوان المسلمين" المتحالف مع السلطة، والممثل في البرلمان العراقي دعا إلى وقف المظاهرات فوراً استجابة -كما قيل- لطلب من أنقرة، ومن خلفها طهران. أما "الحزب الشيوعي العراقي" الذي قاد مظاهرات البصرة السابقة فغاب عن هذه المظاهرات. وكما كان متوقعاً، رفع "حزب الدعوة"، وحتى التيار الحكومي المقرب من الرئيس عادل عبد المهدي العصا والبندقية في وجه المتظاهرين، قبل أن يتراجع بسرعة، نتيجة احتدام المواجهات، وارتفاع أعداد القتلى والمصابين، بشكل أوحى بخروج الأمور عن السيطرة.

العراقي ثار على نفسه، على خياراته الخاطئة المتكررة عبر أربع زيارات كبرى لصناديق الاقتراع، بانتخاب قوى الإسلام السياسي الشيعي

ولعل السؤال الملحّ، لا يتعلق بمعرفة ماهية المتظاهرين بكل هذه القوة، فقط، وما إذا كانت هناك قوى منظمة خلفهم. بل بمعرفة الخصم الحقيقي للمتظاهرين، أو الطرف الذي يمكن اعتبار هذه الثورة موجهة ضده؛ فلا يمكن القول بأنّ الشباب الشيعي العراقي ثار ضد حكومة عادل عبد المهدي التي جرى انتخابها بطريقة ديموقراطية، ففي الأنظمة الديموقراطية لا تحتاج لثورة حتى تعبر عن غضبك من طريقة إدارة البلاد. كل ما تحتاجه انتظار موعد الانتخابات المقبلة، وتغيير خياراتك، أو على الأكثر الدعوة إلى انتخابات مبكرة. ولم يعد صالحاً القول إنّ الشباب العراقي الشيعي اليوم يثورون ضد المحاصصة الطائفية؛ لأنها ببساطة لم تعد موجودة، بعد هيمنة القوى السياسية الشيعية المطلقة على القرار في العراق. لقد جرى تحييد الأكراد إلى حدّ كبير، بعد فشل محاولة الانفصال التي قادها مسعود برزاني عبر الاستفتاء على استقلال كردستان العراق في 25 أيلول (سبتمبر) 2017. واستُكملت عملية إخضاع السنة تماماً بعد الانتصار على "داعش"، وعمليات التدمير الممنهجة للحواضر السُّنية في الموصل والأنبار، وعمليات التجريف الديموغرافي. ولا يمكن القول كذلك إنّ ثورة الغضب هذه، موجهة ضد الأمريكان، فلا وجود في المظاهرات لأي شعارات ضدهم. لقد انهارت الرواية التقليدية التي كانت تتحدث عن "الغزو الأمريكي لنهب ثروات العراق"، بعد عمليات النهب التاريخية التي قادها الساسة العراقيون أنفسهم، والتي تفوقت على عمليات النهب التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي. ويعرف العراقيون جيداً بأنّ النفوذ الأمريكي في العراق انحسر كثيراً، ولم يعد بأي حال من الأحوال مُكافئاً للنفوذ الإيراني الطاغي. كما يدرك شيعة العراق جيّداً أنّهم مدينون للولايات المتحدة بإسقاط نظام صدّام حسين، وأنّهم ثابروا على مدار سنوات عدّة، لاستدراج هذا التدخل الأمريكي، ولولاه، لربما بقي العراق سنين عديدة أخرى تحت حكم البعث وصدّام. فعلى من قامت الثورة؟

اقرأ أيضاً: مَن يدفع ثمن القتل في العراق؟

الزعيم الشيعي مقتدى الصدر حاول توجيه بوصلة الثورة ضد الحكومة الحالية، ومن ورائها "حزب الدعوة" برمتّه. وكذلك فعل الرئيس السابق حيدر العبادي، مع فارق بسيط أنّ العبادي حصر الإشكالية -من وجهة نظرة- في ضعف إدارة الفريق الحكومي الحالي. بينما طالب الصدر باستقالة الحكومة (شلع قلع) على حدّ تعبيره، ودعا إلى انتخابات مبكّرة. لكنّ الشارع كان له نبضٌ آخر؛ فالانتخابات الجديدة لن تحل المشكلة، و(الشلع قلع) تمت تجربته من قبل، في عملية اجتثاث البعث، ولم ينجح، بل قاد البلاد إلى المأزق الحالي.

لعلّ من أشد ابتلاءات المنطقة أنه تعيّن عليها أن تُفاضل وتختار في حالات كثيرة بين الاستبداد والإسلام السياسي

المشكلة أعمق بكثير مما تحاول القوى السياسية العراقية تصويره، ولعلها تعرف ذلك، لكنها لا تريد مواجهة الحقيقة. لا يمكن بناء دولة ومجتمع بمنطق الغلَبة، والإقصاء الطائفي، والقومي/الاثني، والجندري. كيف يمكن بناء العراق والسُّنة "مكتنزون بالمهانة"، والأكراد "ممتلئون بالحرَد"، والقوى المدنية والوطنية والعلمانية والشيوعية الشيعية كلها "تحت الحجر"؟ لا بد من مصالحة وطنية شاملة، ولا بد من الاحتكام إلى منطق الدولة ومصالحها، وليس منطق الطائفة، وهواجسها. ولا بدّ قبل ذلك من الإقرار بأنّ تعريف الطبقة السياسية المهيمنة للهوية ضيق، ولا يتسع للعراق، وأن رؤيتهم للدولة، والمؤسسات لا تزال تحكمها معتقدات لا تنسجم مطلقاً معها.

إنّ متابعة مواقع التواصل الاجتماعي العراقية التي ينشط من خلالها هؤلاء الشباب الذين يتحركون بلا رأس، أو قيادة معروفة، تُشير بوضوح إلى أنّهم يدركون هذه الحقائق جيداً، على الأقل، أفضل من القيادات السياسية القائمة التي جاء معظمها من معسكرات التدريب في طهران بعد الغزو الأمريكي. هؤلاء الشبّان في الواقع ثاروا ضدّ أنفسهم. قبل أن يثوروا ضد أي طرف آخر.

اقرأ أيضاً: لماذا اعتبرت إيران احتجاجات العراقيين الشيعة "مؤامرة"؟!

نعم، الشيعي العراقي ثار على نفسه، على خياراته الخاطئة المتكررة عبر أربع زيارات كبرى لصناديق الاقتراع، بانتخاب قوى الإسلام السياسي الشيعي، تحت تأثير عوامل الفرز الطائفي، وأوهام الاستهداف الوجودي للشيعة التي جعلته يظن بأنّ إيران صديق، بل أنّها السند، والحامي. وليس من المبالغة القول أيضاً إنّه -على نفس المنوال- لو قُدِّر لمصر أن تبقى تحت حكم "الإخوان المسلمين"، لوصل الحال هناك إلى ذات المصير، مع فارق بسيط فقط، هو استبدال الهيمنة الإيرانية بالهيمنة التركية. ولعلّ من أشد ابتلاءات هذه المنطقة، في هذا العصر العسير، هو أنه تعيّن عليها أن تُفاضل، وتختار في حالات كثيرة، بين الاستبداد والإسلام السياسي فقط، ودون خيارات أخرى.

الخبر المحزن هو أنّ التيار السياسي الحاكم في بغداد، ومن خلفه أطراف عدة مُتّهمة بأنّها متورطة حتى النخاع في منظومة الفساد المتنفذة والمقربة جدّاً من طهران، لا تزال تُصرّ على ممارسة لعبة الإنكار، ومحاولة تصدير أزمتها مع شعبها، عبر توزيع الاتهامات على دول الخليج والسعودية. وهذا الاتجاه يعني ببساطة أنّهم لا يريدون مواجهة لحظة الحقيقة، وأنّه لن يكون هناك مراجعة، بل هروب للأمام.

مصلحة العراقيين بكل أطيافهم تكمن في دولة مدنية مستقلة وديموقراطية والفرصة لبناء هذه الدولة لا تزال قائمة

أما الخبر المفرح، فهو أنّه خلف دخان هذه المواجهات القاسية، هناك صعود كبير لتيار وطني عراقي قوي، ومبشّر. وهناك إرادة شعبية واسعة، لحماية هذا التيار، والدفع به إلى واجهة الحكم والسلطة. وهو ما يفسر إلى حدّ كبير تحول "الجيش العراقي"، وتضحياته، وقياداته، خاصة الجنرال عبد الوهاب الساعدي إلى أيقونة لهذه الثورة، في مقابل فوضى الميليشيات. ولعل هذا أهم بواعث القلق الإيراني مما يجري في عاصمة الرشيد. فقد حضّ القائد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي، كبار قادة الحرس الثوري على "الجاهزية لمواجهة الأحداث الكبرى، وعدم الخوف من الأعداء، والتمسك بالنظرة الواسعة العابرة لحدود إيران، وتوسيع جبهة المقاومة". وهو كلام خطير، إذا ما جرى استيعابه في إطار الاتهامات المتعددة الموجهة للحرس الثوري الإيراني بالإشراف على عمليات قمع وقتل المتظاهرين في العراق.

لا شك أنّ مصلحة العراقيين، بكل أطيافهم تكمن في دولة مدنية مستقلة وديموقراطية. والفرصة لبناء هذه الدولة لا تزال قائمة، على الرغم من محاولات الشدّ العكسي الإيراني. المخاطر داهمة، وكبيرة، لكن العراق أكبر، فهو بلد متنوع جداً، ولا يمكن أبداً اختزاله في منافسة طائفية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية