من البنا إلى البغدادي مروراً ببن لادن.. صناعة "الإمام الشهيد"

من البنا إلى البغدادي مروراً ببن لادن.. صناعة "الإمام الشهيد"


29/10/2019

عبدالجليل الشرنوبي

إن محاولة البحث عن إجابة على سؤال تأثر التنظيم الهيكلي لداعش بعد إعلان واشنطن عن مقتل زعيمه أبوبكر البغدادي، بدأت منذ صيف عام 1991 بمدينة دمنهور في شمال غرب القاهرة، بعد أكثر من أربعة عقود على قتل مؤسس تنظيم الإخوان حسن البنّا، حيث دورة الاعتماد التربوي لكاتب هذه السطور في رحلة الصعود داخل تنظيم الإخوان، كان ذلك بعدما اجتزتُ مرحلة المؤيد ثم المؤيد القوي.

في هذه الدورة يضع العضو قدمه على أولى درجات الترقي التنظيمي بعدما تتم مُصارحته أنه عضو في تنظيم الإخوان، وتُوّجت الدورة بمحاضرة لقياديّ من الرعيل الأول للتنظيم، وفي حضرة من عايش البنّا، حيث يكون العضو التنظيمي في حالة احتشاد نفسي وعاطفي وإيماني، ترقى لدرجة الاستنفار.

حكى الرجل كثيرًا عن حال البنّا، وذكر أن سيّد قطب كان يوم مقتل البنّا في إحدى مستشفيات الولايات المتحدة، ولم يكن حينها سوى أديب، وفجأة سمع أجراس الكنائس تدق في غير وقت الصلوات، فسأل عن السبب وكانت الإجابة: هذه دقات احتفال بموت حسن البنّا في مصر، الرجل الذي كان يُعِد لإعادة الخلافة الإسلامية من جديد، ساعتها قرر قطب العودة ودخول جماعة الإخوان.

عبر سنوات تلت هذا التاريخ، تواتر داخل التنظيم ذكر هذه القصة بصيغ مختلفة في سرد التفاصيل وإن اتفقت في الجوهر. وعبر مشهد سينمائي تنظيمي الإخراج، ينسكب في وعي كل عضو في تنظيم ديني ما يروي إنبات شخصية الأخ المجاهد عبر ترجمة عملية لتوصيف مؤسس التنظيم بالإمام (الشهيد)، وتحويل عملية مقتله إلى وقود يُجَدد دماء التنظيمات ويُطوِّر من الأداءات العنيفة للأعضاء، كلما عايشوا معنى الشعار الأساسي للتنظيم “الجهاد سبيلنا– الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.

من مصر إلى تركيا
تطوَّر الاستثمار التنظيمي الأسطوري لقتل الزعيم، عبر تعميم النموذج السابق، حيث الأحداث تنقلنا من مصر إلى تركيا في 28 أغسطس 2016، وهُناك يقيم رجل الأعمال وعضو المكتب السياسي للتنظيم الإخواني أحمد مطر الذي كتب على صفحته الشخصية “في مثل هذا اليوم من 50 عاما، فوجئ المهندس التركي نجم الدين أربكان باحتفالات في ألمانيا، سأل عن سببها، فأجابوه تم اليوم إعدام إرهابي في مصر اسمه سيد قطب، فسأل عن كتبه وأحضرها جميعا وقرأها، فاقتنع بالفكر وتبني الفكرة، وكانت بداية ولادة الحركة الإسلامية في تركيا، وأصبح تلاميذه رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان والحزب الحاكم”.

دقت الكنائس في الغرب لمقتل البنّا فكانت الإشارة لأن يستلم رايته سيد قطب وهو في أميركا، فيما يتم إعدام الأخير في مصر فتدق نفس الكنائس، لكن في ألمانيا هذه المرة، لتكون الإشارة التي ينتظرها نجم الدين أربكان ليحمل الراية في تركيا.

هذا السيناريو يُمكن عبر استقصاء صحافي الوصول إلى تنويعات تنظيمية تحمل جنسيات مختلفة وبيعة واحدة، بما يضمن أن تحفُل سير قيادات التنظيم في الأقطار المُختلفة بهكذا أساطير تربط بين الزُعماء التاريخيين، حيث يُسلم راية القيادة زعيم شهيد لزعيم مُجَدِّد الموت في سبيل تنظيمه هو أسمى غاياته.

إنها الحاضنة العقدية الرئيسة التي تُنتج المُجاهد، عبر أوعية تربوية شعارها الرئيس (وأعدّوا) وأركانها الأساسية، وهي الأصل الذي تنبت عنه كل مناهج تنظيمات الدين السياسي بتنوع قياداتها ومرجعياتها سنية وشيعية.

ولذا لا يجب أن نندهش حين نكتشف كل أدبيات هذه التنظيمات أمثال: جهاد، حزب الله، جماعة إسلامية، الحرس الثوري، التكفير والهجرة، الحوثي، القاعدة، داعش، وقبلهم الإخوان، جميعها لا تربط العضو الجديد بمنهج أو حتى بتدريب على سلاح، وإنما بدايات التجنيد (الدعوة) تكون عبر الطرق على وتر مآسي المسلمين والحرب على الإسلام، بهدف إيقاظ الإيمان المخدر سعيًا لإيقاظ الهمة بما يدفع للبحث عن الموت باعتباره السبيل لأن توهب لكم الحياة.

في مطلع عام 2006 كنتُ المسؤول عن لجنة الإنترنت بإعلام تنظيم الإخوان، وكان أن تم استدعائي صباحًا عبر نائب المرشد الثاني (خيرت الشاطر) لمكتب الإرشاد، في الاجتماع الذي ضم النائب الأول للمرشد محمد حبيب، وأمين عام التنظيم حينها محمود عزت، ومعهم عضو المكتب الراحل محمد مرسي، كانت القضية العاجلة تتمثل في أن مُنتدى الإخوان على الإنترنت، وكان يُدار من قبل شباب تنظيميين متواجدين بين مصر وقطر، قام بنشر مُشاركة لأحد الأعضاء وصّف فيها أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة بعباراتٍ تحمل الكثير من التقدير كان منها “الشيخ المجاهد العالم العامل”.

حاولت وقتها شرح طبيعة المنتدى ومساحات التعبير المفتوحة فيه، والفرق بينها وبين الموقع الرسمي، غير أن قرار الاجتماع كان تكليفي بالتواصل مع شباب المنتدى لإبلاغهم بقرار مكتب الإرشاد حذف هذه المادة من الموقع حتى لا يتم اتخاذها ذريعة للربط بين الإخوان والقاعدة، وكان أن نفذتُ التكليف واستجاب الشباب غير أني حين راجعت ما سطرته التدوينة اكتشفت أنها تحمل رأي القاعدة العريضة من أبناء التنظيم.

مطلع شهر مايو 2011 كُنتْ أنتظر اللحظة التي أعلن فيها استقالتي من التنظيم والتي كانت نهاية ذات الشهر، وفي صباحٍ مُشابه لصباح مؤتمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خرج الرئيس السابق باراك أوباما ليُعلن عن قتل أسامة بن لادن وإلقاء جثته في المُحيط، كان هذا الصباح مختلفًا عن صباح 2006 الذي شهد رفضًا قاطعًا من مكتب الإرشاد لتوصيف أسامة بن لادن بصفة الشيخ في منتدى عام يحمل اسم الإخوان، حيث أن صباح مايو 2011 كان قد أتى وإخوان مصر على أعتاب التمكين، وهو ما يستدعي أن يصطف كل أبناء مشروع الدين السياسي (التنظيمات الإسلامية)، حول تصدر التنظيم الإخواني للمشهد.

قبل مقتل البنّا بـ4 أعوام، تحديداً عام 1945، وقف مؤسس التنظيم موجهاً رسالة إلى رؤساء المناطق ومراكز الجهاد حملت عنوان (رسالة الجهاد) رسخت هذه الرسالة معاني أساسية عليها تقوم عملية صناعة الجهادي أيًا كان تنظيمه.

عبر هذه المعاني تطورت آليات صناعة الجهادي، خلال المسافة الزمنية بين مقتل البنّا والبغدادي، وبات حصد أرواح القادة عملية دفع مستمرة، ضامنة لبقاء المنهج الأصيل وتطور أدوات تحققه، وهو ما عبر عنه سيد قطب بقوله “إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها، دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة”.

ظل أداء الجيل الأول من الجهاديين في حالة ثبات حتى كان مقتل البنّا، ليبدأ دبيب الروح في مناهج الجهاد، ويغدو “الإمام الشهيد” هو السابق إلى الجنة، ويظل هذا الجيل في طوره الأول إلى أن يُصدر سيد قطب أولى الترجمات لمنهج الجهاد المُعاصر في إطار ما وضعه البنّا من أسس، وبإعدام قطب المصحوب بعالمية التغطية تبدأ روح جديدة تسري في الجيل الثاني من جهاديي السبعينات الذين يسوقهم تنظيم أممي يحتشد على أرض أفغانستان برعاية صراع قُطْبَي العالم، لتؤسس للحاضنة الجهادية الأممية القاعدة بزعامة إمام خرج من حاضنة البنّا الفكرية.

وأصبح المُجدّد للأجيال الجهاد الثالثة، والتي تستمر في تطوير عنفها عالميًا تحت راية بن لادن الذي ظل ينتظر الموت حتى أتاه على يد قوات أميركية في 2011، ليطوي قتله مرحلة الجهادي التقليدي، وليبزغ نجمُ جيل جهاديي القرن الحادي والعشرين، يتزعمهم أبوبكر البغدادي الذي نما وعيه على مناهج البنّا وقطب وبن لادن، ونما تنظيمه في ساحات جهاد مفتوحة بالعراق ثم سوريا.

وتطورت مناهجه لتتجاوز تقليدية البناء التنظيمي لخلايا الجهاد، وتُفرز أداءات إعلامية رسالتها الانتصار بالرعب، ولتتحول ساحات السيطرة على الأراضي في العراق وسوريا إلى حواضن إعداد متعددة الجنسيات تعمل على مشروع إنتاج “المجاهد المسلم العالمي”، والمعروف إعلاميًا بـ”الذئب المنفرد”.

خلال قرابة تسع سنوات، استطاع البغدادي أن يبني مُجتمعًا للجهاديين، كوّنته أسر، أنتجت أطفالًا لا يعرفون لهم دينًا إلا دين (الخلافة).

وحسب إحصاءات نُشرتْ في صحيفة “الإندبندنت” في أغسطس 2018، فإن عدد المقاتلين الأجانب ستة آلاف في العراق وسوريا، ومعهم 53781 فردا من 146 دولة سجلت السلطات التركية أسماءهم كمشتبهين في محاولة الانضمام إلى المقاتلين في القُطريين، وكان بينهم 1680 من مقاتلات الخلافة، المُدربات على القتال والتجنيد وتنفيذ العمليات الانتحارية وعمليات القتل بالأسلحة البيضاء.

علاوة على جيش من الأطفال (أشبال الخلافة) وتشير الإحصائيات إلى أن منهم 900 طفل من مصر، الإمارات، الكويت، الأردن وتونس، وجميع هؤلاء الجنود بتصنيفاتهم يحملون تكليفًا تأمينيًا أصدره البغدادي “لا يتمكن عدوٌ منكم”.

كانت هذه التوصية الدرس المُستفاد من قتل أسامة بن لادن، وجعلت الضابط الذي بات حاكمًا لحركة كل مُجاهد عالمي، لا يتحرك إلا مرتديًا سترته الناسفة، وهو ما التزم به الإرهابي الحسن عبدالله الذي فجر نفسه بمجرد توقيفه من قبل رجال الأمن المصري أثناء سيره بحي الأزهر بالقاهرة في فبراير 2019، كان فعل الحسن اتساقًا مع تكليف البغدادي الذي يستوي في الالتزام به من بايعه مباشرةً، مع من بايع على الجهاد في المُطلق.

عند هذه النقطة يُمكن أن يعود بنا مشهد الواقع لحديث الرئيس ترامب الذي قال فيه “البغدادي فجّر سُتْرة ناسفة كان يرتديها بعد أن حُشر في نفق وكان يصرخ وينوح، البغدادي مات ميتة الكلاب والجبناء”. بعيدًا، عن أداء ترامب الاحتفالي بمقتل البغدادي، يلزم العالم أن يتوقف لإعادة النظر في إستراتيجية مكافحة الإرهاب عالميًا، ليس باعتباره مجرد مادة للدعاية السياسية أو ذريعة لحضور أصحاب المصالح في مشهد مناطق الثروات والنفط، وإنما باعتباره تهديدًا للمصير الإنساني، بعدما باتت ساحاته مفتوحة على كل حدود الدنيا.

تفسير التزام البغدادي
خلال 18 شهرا مضت، بدأت حالة تأهيل إلكتروني للجيل القادم من “جند الفزع” عبر إصدار دوري في صورة مجلة، إنه الإصدار الذي وصلت أعداده حتى كتابة هذه الأسطر إلى 28 عددا، تتجاوز في مناهجها فعل التأهيل العقدي التقليدي، لتتعداه إلى خطاب متكامل البنية ومُتعَدِد المستويات ومتنوع المُتَلقي جنسًا وجنسية وعمرًا، إنه حديث إلى مواطني دولة الخلافة الذين أجبرتهم المواجهات العسكرية في الساحات المفتوحة على الهجرة إلى كل الدنيا، والكمون إلى حين امتلاك القدرة على الفعل أي فعل، ويصل إليهم التنظيم شيوخًا في كل تخصص عبر الفضاءات الإلكترونية حاملين كل جرعات التأهيل.

وفي مايو 2011، حين قتلت القوات الأميركية بن لادن، أعلنت السلطات وقتها أنها صادرت وثائق وأقراصا مُدمجة وأجهزة كمبيوتر تحوي معلومات تخص القاعدة، وهو نفس الإجراء الذي أشار إليه ترامب في كلمته عن قتل البغدادي.

غير أن الواقع في حالة بن لادن لم يُشر إلى أن هذه الوثائق غادرت أحضان أجهزة الاستخبارات الأميركية، وهو ما يشي بأن مصير أوراق البغدادي سيلحق بسابقتها المصادرة عن القاعدة، وفي الحالتين اعتبر العقل الأمني الحاكم للمعركة أن الوثائق غنيمة معلوماتية له وفقط، وهو ما يُفسر السبات العميق الذي استيقظ منه العالم على أعلام داعش ترفرف في بقاع عدة من الأرض.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية