"العراق الجديد" إذ ينقطع عن جذوره ويكره الموسيقى

"العراق الجديد" إذ ينقطع عن جذوره ويكره الموسيقى


08/02/2018

يكاد رئيس حكومة بلاد المتنبي والسياب وناظم الغزالي، في لقاء أجراه معه رئيس قناة "العربية"، تركي الدخيل، يفزع من سؤال محاوره عن بيت شعر يحفظه؛ بل يكاد يقول رداً على سؤال يتعلّق بما يسمع من موسيقى وغناء: أعوذ بالله!

ويفخر رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، في اللقاء الذي بثّه موقع "العربية" في 29 كانون الثاني (يناير) الماضي، بأنّه لا يقرب الغناء والموسيقى؛ بل هو بالكاد يعرف بيتاً من الشعر له علاقة بمكائد الآخرين، ناسياً أنّه يرأس بلداً يمثّل، في جذوره الثقافية والتاريخية، ذخيرة من هذين النوعين من النتاج الروحي العذب.

يفخر رئيس الحكومة العراقية بأنّه لا يقرب الغناء والموسيقى وينظر حزب العدالة إليها على أنّها رجس من عمل الشيطان

الحقّ أنّ الرجل كان صادقاً كلّ الصدق، مع نفسه، ومع نهجه الفكري السياسي والديني، الذي يتبع نهج "حزب الدعوة"، الحاكم للبلاد منذ عام 2005؛ إذ ينظر إلى الآداب والفنون عامة، خاصّة المعاصرة منها، على أنّها "رجس من عمل الشيطان"، ونهج دنيوي وعلماني من الواجب التصدي له، فخصّص الميزانية الأقل لوزارة الثقافة، من بين كلّ المؤسسات الحكومية، وضيّق على كثير من الأنشطة الفنية، الموسيقية منها على وجه التحديد، في محافظات وسط العراق وجنوبه.

فيظهر جلياً؛ أنّ العراق الذي أُقيم وفق مؤسسات الفساد والحرب الطائفية، منذ عام 2003، وعبر تهديم أركان الدولة المعاصرة، التي أقيمت منذ العام 1921، يسعى بقوة حاكمية من الإسلاميين، إلى الانقطاع عن جذوره، فربّما يعرف العبادي والدعاة في حزبه، أو لا يعرفون، أنّ بلاد الرافدين التي ورثها العراق اليوم، شهدت أول أغنية حبّ في التاريخ البشري.

يقتلون الفنّ والتاريخ في موطنهما

قدّم عازف القانون والملحّن والمؤلف والباحث الموسيقي العراقي، الراحل سالم حسين الأمير، عبر محاضرة في "دارة الفنون"، التابعة لمؤسسة شومان، في أواخر تسعينيات القرن الماضي، تمهيداً نظرياَ عن الموسيقى في بلاد الرافدين، وعبر مراحل حضارتها السومرية والأكدية والبابلية، كشف خلاله عن نصّ غنائي عدّه "أول أغنية حبّ في التاريخ"، تولّت ترجمته وغناءه وعزفه على القيثارة، السومرية البروفسورة آن كيلمر، الأستاذة في جامعة شيكاغو الأمريكية، التي أمضت وقتاَ طويلاَ في تعلم النوتة الموسيقية المعاصرة، لمقارنتها بالنوتة الموسيقية المكتوبة بالحروف المسمارية، كذلك تعلّمت العزف على آلة القيثارة السومرية؛ حيث صنعت كيلمر مثل تلك القيثارة، بحجمها وأوتارها، وغنّت بصوتها أغنية صارت "أول أغنية حبّ في التاريخ".

لم تكن الموسيقى والفنّ والأدب الجذر التاريخي الوحيد الذي يسعى العراق الجديد إلى الانقطاع عنه

لم تكن الموسيقى والفنّ والأدب الجذر التاريخي الوحيد الذي يسعى "العراق الجديد" إلى الانقطاع عنه؛ بل حتى تاريخه الإسلامي، خاصة ما يتعلق بالتاريخ الأموي والعباسي، وبذريعة طائفية، وإن لم يُعلَن عنها رسمياً، تعود إلى أنّ خلفاء العصرين؛ الأموي والعباسي، ذبحوا وسمّموا، ونفوا، وسجنوا، أئمة آل بيت الرسول المقدَّسين عند الشيعة.

مظلمون كالجحيم

ومن هنا، لا غرابة في أنّ العبادي ونظراءه في الحكم، غير معنيين بكون بغداد العباسية، كانت عاصمة المعرفة في العالم، وإليها جاء أهل العلم والمعرفة والشعر والموسيقى من كلّ بقاع الأرض، وفيها تحديداً وضع أبو نصر الفارابي "كتاب الموسيقى الكبير"، الذي صار أهم كتب الموسيقى في تراثنا العربي والإسلامي.

اللّافت أنّ السيد العبادي، يوصَف بأنّه يمثّل "الخط الليبرالي" في حزب الدعوة وحكّام العراق اليوم، لينهض السؤال: إذا كان "الليبرالي" على هذا النّحو، فما بالك بالأصولي، والمحافظ في الحزب الحاكم؟ وكيف سيتم التعامل مع إرث العراق وبلاد الرافدين الضخم في الآداب والفنون؟

ما ينفع هنا، في باب الردّ على مأثرة العبادي ورهطه، هو وصف رهيب مثل "اللاموسيقي... عواطفه مظلمة كالجحيم"، الذي لم يتردّد شكسبير في إطلاقه، حين كتب في "تاجر البندقية" وبحسب ترجمة الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا:

"كلّ امرئ خلت من الموسيقى نفسه

ولا يحرّكه وئام العذب من النغم

خليق بالخيانات والمكائد، والغدر بضروبه"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية