هل يرحل الشعراء: عن الكتابة الحيّة لأمجد ناصر في لحظة الاحتضار

أمجد ناصر

هل يرحل الشعراء: عن الكتابة الحيّة لأمجد ناصر في لحظة الاحتضار


04/11/2019

عندما نسمع عن أديب ما يحتضر، غالباً ما يتوارد إلى أذهاننا سؤال من هذا القبيل؛ ماذا يفكر هذا الأديب حيال فكرة الكتابة في أيامه الأخيرة؟ هل اقترابه من الموت عطّل انشغاله عن النصوص أو القصائد التي لم يعمل عليها ولم تنتهِ بعد، أم إنّه يكتفي بما هو منجز، وينهي علاقته تماماً مع الكتابة؟

وفائي ليلى: لن نستطيع تجاوز أثر أمجد ناصر، لأنّه حاول أن يرى نفسه بالمرآة تماماً كما كان يرى مجتمعه

لطالما مرّتَ في حياتنا نوعية فريدة من كتّاب وأدباء ممن يكون دافع الكتابة بالنسبة إليهم يشبه تماماً دافع الإنسان للاستمرار بالحياة، وهذا الدافع الأخير لا تتعلق أسبابه بانتظار شيء ما، إنما الدافع للحياة هو، ببساطة، حبّ الحياة، وتقدير عظمة أن يحيا الإنسان، وأن يحبّ، وأن يعشق، وأن يعمل، وأن يتزوج، وأن ينجب أطفالاً، أن يحارب من أجل حياة كريمة وجميلة، وتلك النوعية من الكتّاب، تمتهنُ الكتابةَ حباً بالكتابة، لا تراهن على انتظار شيء من الكتابة.
ولذلك؛ أكبر فخّ تنصبه الكتابة للكاتب هو وقوعه في متاهة انتظار تقدير ما، سواء جاء هذا التقدير عن طريق منحه جائزةً أدبية، أو تحقيقه لشهرة ما. أما عند المراهنة على فعل الكتابة، بوصفها صلة الكاتب الوحيدة في العالم، تتحوّل الكتابة بين يديه إلى عملية مستمرة في إعادة تكوين هذا العالم، وإعادة تكون الكاتب لنفسه أيضاً، هكذا جرت الأمور عندما تحوّل الشاب الأردني، يحيى النميري النعيمات، إلى الشاعر أمجد ناصر، وهذا الشاعر لم يغّير اسمه فحسب، إنما سيعيد تكوين التفاصيل التي حوله من خلال كتاباته في الشعر والأدب وكتابة المقالات في الصحف العربية.
أمجد ناصر بصحبة الشاعر السوري سليم بركات والشاعر الفلسطيني محمود درويش

قناع المحارب
في شهر أيار (مايو) من العام الجاري؛ نَشَرَ الشاعر أمجد ناصر، الذي رحل عن عالمنا يوم الأربعاء 30 تشرين الأول (أكتوبر)، عن عمر يناهز 64 عاماً، في صفحته على الفيسبوك، قصيدة رثى بها نفسه، ونعى نهاية حياته التي باتت في أيامها أيامها الأخيرة، وأسماها "قناع المحارب"، وفي هذه القصيدة رفع أمجد الراية البيضاء، يقول: "في آخر زيارة إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن، كانت صور الرنين المغناطيسي عنده، ومن علامات وجهه شعرت بنذير سوء، قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت، للأسف، تقدماً للورم، وليس حدّاً له أو احتواء، كما كنّا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.

اقرأ أيضاً: يا أمجد ناصر: الإنسان لا يفنى وإن فني الوجود بأسره
كان مساعده، الدكتور سليم، ينظر إلى وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف ردّ فعلي.
قلت: ماذا يعني ذلك؟
قال: يعني أنّ العلاج فشل في وجه الورم.
قلت: والآن ماذا سنفعل؟
ردّ: بالنسبة إلى العلاج، لا شيء؛ لقد جرّبنا ما هو متوافر لدينا.
وفيما يخصّني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتّب أوضاعك وتكتب وصيتك!
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة إلي".
كان أكثر شيء يشغلُ بال أمجد كتاباته التي ما تزال قيد الانجاز، وسأل طبيبه إن كان بإمكانه تحديد الوقت المتبقي له في الحياة بشكل دقيق، يقول: "لديّ أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت"، وكأنّ أمجد لا توجد لديه مشكلة في أن يتوقف كلّ شيء في حياته إلا الكتابة.
أمجد ناصر مع الروائي حيدر حيدر بعدسة المصورة الإيطالية باولا كروتشياني بيروت 1981

فدائياً حيناً وشاعراً حيناً
يقول الشاعر المصري، إسلام نوّار لـ "حفريات": "ولِدَ أمجد ناصر قبل أن يُولد أبواي أصلاً، كتبَ أول أعماله، خطا على الأرض، فدائياً حيناً وشاعراً حيناً، لم أكن قد خطوت خطوتي الأولى بعد، كيف تسابقنا هكذا لصبغ المعاني على هذا الوجود العابث المؤلم؟ لا يمكنني أن أفعل هذا، لا أحبّ، ولا يمكن لأيّ تقاطع أن يحدث بيننا.
ما الذي يحفره "الحكي عن داخلي"؟ قد لا يحفر شيئاً".

اقرأ أيضاً: اغتيال محمود درويش
ويتابع نوّار كلامه: "كتاب "مملكة آدم" لأمجد ناصر، هو بمثابة نَفَس وحيد وصلني منه، هل يدمج جحيماً داخلي بجحيمه؟ لا أريد ادّعاء أنني لا أريد هذا العالم بجحيمه، "أخاطبك أيّها العالم بجحيمك أن تخرج من مكمنك إليّ، إن كنت رجلاً"؛ هكذا خاطب أمجد ناصر في مرثيته "قناع المحارب" نفسه، قائلاً: "إن كنت رجلاً أخرج إليّ من مكمنك... تعال لنلتقي في أيّ جبانة تريد... وجهاً لوجه... لسوف ألقنك مواثيق الرجال... كما لقّنتي إياها الصحراء والغدران الجافة"، عذراً، لم يكن بيني وبينك إلا هذا النصّ، ولا أريد ادّعاء أكثر من هذا.

اقرأ أيضاً: بيت الشعر يحتفي بمحمود درويش في الرباط
يروي إسلام نوّار تفاصيل علاقته المرتبكة مع أمجد ناصر، فيقول: "كنتُ في المستشفى، أنا طبيب بالمناسبة، أمامي طفل مصاب بسرطان في الكبد، تمّ استئصال الورم منه، ثمّ أتى إليَّ في الرعاية المركزة، أتى لأحافظ على استقرار حالته بعد الاستئصال، وكان أمجد خارجاً من عملية استئصال ورم في دماغه، وأبلغه الطبيب بفشل العلاج الكيماوي والإشعاعي في السيطرة على الورم، فقال له: اكتب وصيتك، وأنا بدوري كنتُ أقول لأب الطفل إنّ الورم تمدّدت خلايا منه للرئة، وفي طريقنا لعملية بسيطة في الرئة".
الطفل لا يكتب وصية يا أمجد
يُخاطب إسلام نوّار أمجد بعد رحيله: "الطفل لا يكتب وصية يا أمجد، كنتَ كتبتَ شعرك الأخير، كنتُ أقرأه قبل دخولي العملية مع الطفل، كنتُ أعرف أنّك ستموت، وأنّ الطفل سيموت، كنت صراحة أبكي، كأنّ هذا الطفل الذي سيموت بعد قليل هو الذي كتب النصّ، كيف عرف هذا الطفل هنري مور؟ كيف عرف إيثاكا ورحلات التائهين؟ كان هذا الطفل في صمته جميلاً وشاعراً مثلك تماماً في كلامك، ما إن فتحنا صدر الطفل بالمشارط حتى توقف قلبه، لمست هذا القلب بيدي وضغطت عليه ضغطات متتابعة في محاولة لإرجاعه للحياة بلا نفع، دقائق وانتهى كلّ شيء، خرجنا وقلنا لأهله إنّه مات، كأنّنا أمجد ناصر، عدت لغرفتي، قرأت مرة أخرى مرثيتك على فيسبوك، ضغطت على الكلمات من فوق شاشة الموبايل كأنّها قلبك، لم تعد يا أمجد للحياة".
أما الروائي والكاتب الفلسطيني، سليم البيك، فيقول لـ "حفريات": "قد يقتصر معظم الحديث عن أمجد ناصر كشاعر، وذلك طبيعي لمكانته الشعرية، لكنّه كذلك كاتب مقالة مهمّ، ومحرّر ثقافي مهمّ كذلك، وحين كان محرّر الصفحات الثقافية لجريدة "القدس العربي"، كانت تلك من أقوى الصفحات الثقافية العربية، أكثرها جرأة وتجريباً ومنحاً للأقلام الشابة (آنذاك) مساحة يصعب "اقتحامها" في صحف أخرى، أنا من هؤلاء الذين بدؤوا مشوارهم الصحفي مع تلك الصفحات، من هؤلاء الذين كانوا ينتظرون مقال أمجد ناصر كلّ أسبوع، يتعلمون منه (ومن غيره) كتابة المقال الصحفي (أو المقال الأدبي)، ويمارسونه كذلك في الصفحات الثقافية نفسها، ومن هؤلاء الذين أحبّوا قصائد النثر، وانحازوا لها بقراءة شعراء من بينهم أمجد ناصر".
الشاعر الراحل أمجد ناصر مع الشاعر العراقي سعدي يوسف

مقالات ذاتية بحرية تامة
ويتابع البيك كلامه: "بالصفحات الثقافية تلك أسّس أمجد ناصر حالة خاصة، من خلال المساحة المفتوحة لكتّاب يتلمّسون طريقهم بين صفحات الجرائد، كنت أحدهم، وقد انتقلت، عام ٢٠٠٦، من صفحة "بريد القرّاء" إلى الثقافية، بحرّية تامّة في اختيار الموضوعات، والأسلوب وهذا الأهم؛ إذ تطور الأسلوب لديّ بشكل طبيعي دون قمع من الخارج (كما قال لي محرّر صفحة ثقافية لجريدة أخرى مرة: انسَ نفسك وقلّل من الذاتية في المقالة، فلم أعد أكتب لجريدته)، مع أمجد ناصر كانت المقالات مبنية أساساً على الذاتية، والصوت الخاص، وهذا ما حاولتُه مع تأسيس مجلة "رمان الثقافية"؛ إذ اهتممت أكثر بذاتية الكاتب وصوته الخاص".

سليم البيك: بالصفحات الثقافية التي أشرف على تحريرها أسّس أمجد حالة خاصة من خلال المساحة المفتوحة لكتّاب يتلمّسون طريقهم

ويختم البيك كلامه بقوله: "أخيراً، أذكر أنّني سألت أمجد مرة، قبل عشر سنين ربما، إن كانوا سيحذفون عبارة "حل عن ربي"، التي كانت في إحدى مقالاتي آنذاك، فكان جوابه بأنّها عبارة نستخدمها في الحياة اليومية، وأنّه بالتالي لن يحذفها.
إضافة إلى قصائدك ومقالاتك، شكراً أمجد على تلك المساحة التي شكّلتُ مواضيعي وأسلوبي الكتابي فيها، وما يزال تشكيلها مستمراً".
أما الشاعر السوري وفائي ليلى، فقد قال لـ "حفريات": "منذ بداية معرفتي بالشاعر أمجد ناصر، كوّنت فكرة عنه، وهي؛ أنه كائن أشبه بـ "ذئب متفرد" (لأمجد ناصر كتاب مختارات شعرية بعنوان "وحيداً كذئب الفرزدق")، ولديه تجربة مختلفة عن باقي الشعراء العرب، كان أمجد شاعراً غير مدجّن، إذا صحّ الوصف، على اعتبار أنّه خرج عن قبيلته (النعيمات) بالأردن من بداياته، وانخرط بالعمل الفدائي مع الفلسطينيين، على الضدّ من شعراء آخرين كثيرين ينتمون لقبائل بدوية موجودة في الأردن".
كان لديه صوت مختلف
ويضيف ليلى: "إذاً أمجد ناصر من البداية كان لديه صوت مختلف، كشاعر ينتمي إلى جيل السبعينيات، الذي كانت لديه حساسية ورغبة بالتجديد، والتعامل بشكل مختلف مع قصيدة النثر، والتي كانت جديدة في العالم العربي آنذاك، واستطاع أمجد أن يُحدث اختراقات على هذا المستوى.
أصدر بعض المجموعات الشعرية التي لفتت نظر كثيرين، منهم الشاعر اللبناني عباس بيضون، الذي رأى أنّ عمله على قصيدة النثر، التي كانت تقترب من السّرد، عملاً مختلفاً ومتميزاً".

اقرأ أيضاً: محمود درويش متحالفاً مع الخلود... منقباً عن فلسطين الأعماق
يقول ليلى أيضاً: "ما لفت انتباهي أيضاً، مواقف أمجد ناصر السياسية، ومواقفه من الواقع العربي عموماً، وخصوصاً بعد الثورات العربية؛ كان أمجد ناصر مؤمن بأنّ الشاعر لا يجب أن يصطفّ إلى جانب الطغاة، حتى عندما يدّعي البعض منهم أنّهم يحاربون الفكر الديني المتطرف، وكان يرى أنّه يجب على الشاعر أن يكون مستقلاً ومختلفاً، وأن تكون له رؤية مختلفة عن أيّ نظام سياسي شمولي، يدّعي أنّه يحارب الفكر الرجعي".
ويرى ليلى؛ أنّ أمجد ناصر كان مؤمناً في دور الكلمة وتأثيرها، كما كان مؤمناً أيضاً بأنّ العالم العربي لا يمكن أن يتغير إلا عبر الثورة، والثورة هنا تكون مرتبطة في فهم الأفكار، التي تأتي من داخل الفكر الديني نفسه، ولا يمكن أن تتخلص من منظومة القيم البالية إلا من خلال فهمها والثورة عليها من داخلها، وهذه الرؤية مختلفة عما يراه كثيرون من مثقفين عرب"، بحسب تعبيره.
يقول ليلى أيضاً: "موقف أمجد ناصر لا يختلف عن نشأته المبكرة، كما وصفته، كذئب متفرد، وكان يرى دائماً أنّ عملية التغيير تحتاج إلى وقت طويل، ولا بدَّ من هذا التغيير أن يكون اجتماعياً وثقافياً في آن واحد، وهذه المهمة صعبة جداً، لكنّها ضرورة لمجتمعاتنا، حتى تستطيع عمل نهضة وتتخلص من مشاكلها، ويرى أمجد ناصر أنّ الشاعر عنده قوة ما أو سلطة أخلاقية تفرض عليه أن يكون مستقلاً عن السلطة حتى يواجه الإرهاب والتطرف، ويجب أن تكون دوافعه مختلفة عن أولئك الذين يتولون السلطة، كما يقول.
أمجد لم يكن مثقفاً حيادياً
وأضاف: "أمجد لم يكن أبداً مثقفاً حيادياً، كان يقول دائماً نحن لا نردّ على التطرف والإرهاب إلا في الحجة والمنطق والعلم والأدب والتنوير، وليس ذلك فقط، بل نردّ عليه أيضاً بالدين نفسه، ويرى أمجد أنّ اللغة هي وعاء لنقل المعنى، لكنّها أيضاً تعبير عميق عن الوجود ذاته، ومن هذا المنطلق يرى أنّ اللّغة العربية أحد أكبر المشكلات التي تواجه الكتّاب العرب والمبدعين لتغيير الواقع، وبالتالي يجب عليهم أن يمتلكوا لغة جديدة تساعد على إحداث تغيير، وربما نصّه الشعري، في مجموعاته المختلفة، يحتمل هذا؛ إذ إنّ أمجد اعتنى بالتفاصيل، وكتب في طريقة مغايرة عن المتوقع لأبناء جيله وبعيداً عن الأيديولوجيا. كان أمجد يكتب كتابة حيّة وحقيقة أكثر، وبالتالي هذا ما كان يميّزه".
ويتابع ليلى كلامه: "لاحقاً، عند إصابته بمرض السرطان، دفعته لكتابة مجموعته الأخيرة، إضافة لبعض النصوص المتفرقة التي يرثي وينعي فيها نفسه، هذه الحالة التي تذكرنا بالشاعر المصري، أمل دنقل، بكتابه "أوراق الغرفة رقم 8"؛ الذي كتبه وهو على فراش الموت.
كان الشاعر أمجد ناصر في هذه اللحظة أيضاً أكثر نقاء، وأكثر حقيقيةً من جميع نصوصه، ومن خلالها امتلك القدرة على صياغة وفلسفة فكرة الموت بطريقة مغايرة، وبالتالي وصلتنا، كما توقّعنا منه، حساسية جديدة في فهم الذات والموضوع، ولذلك اعتُبر أمجد ناصر من الكتّاب القلائل في العالم العربي الذين يمتلكون حسّ الحرية. وباعتقادي؛ أنّنا لن نستطيع أن نتجاوز أثر اسم أمجد ناصر بسهولة، لأنّه شاعر وكاتب حقيقي، حاول أن يرى نفسه بالمرآة تماماً كما كان يرى مجتمعه".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية