هل حسمت عملية البغدادي الصراع الاستخباري بين التكنولوجيا والبشر؟

داعش

هل حسمت عملية البغدادي الصراع الاستخباري بين التكنولوجيا والبشر؟


07/11/2019

الآن؛ وقد تم القضاء على زعيم تنظيم داعش الإرهابي، أبو بكر البغدادي، بعد عملية مطاردة ومتابعة استخبارية وأمنية حثيثة استغرقت حوالي خمس سنوات انتهت السبت 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، بقيام البغدادي بقتل نفسه من خلال تفجير حزامه الناسف. فما هي الدروس الاستخبارية والأمنية من هذه العملية؟

الحديثُ عن الصراع بين البشري والتكنولوجي ليس جديداً ويتجسد في خوف الإنسان من أن تأتي لحظة تأكله فيها التكنولوجيا والآلة

من نافلة القول إنّ العملية برمّتها مازالت تثير الكثير من الأسئلة والتحليلات والتعليقات في كافة الدوائر والمؤسسات، وعلى كافة المستويات في العالم، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، في نفس الوقت الذي شغلت فيه أخبار وتفصيلات العملية وسائل الإعلام العالمية خاصة في الغرب، بزخم ٍتجاوز كثيراً حجم التغطية في العالم العربي والإسلامي؛ ربما لأنّ عالمنا العربي في جلّه مشغولٌ ومنغمس حتى أخمص قدميه في راهنه المتردي بعمق على كافة المستويات، وهو يحاول بإصرارٍ اليوم في العراق ولبنان والجزائر والسودان أن يتلمّس طريقه في عتمة هذا الخواء الحضاري الذي تلبّسنا ردحاً من الزمن.

اقرأ أيضاً: صحيفة تكشف علاقة تركيا بشقيق البغدادي
نقول هذا لكننا لا ننسى أو ننكر أنّ ما ابتلي به عالمنا العربي من فوران مراجل التطرف الديني العنيف وظهور الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، لا ينفصل بحالٍ من الأحوال عن حالة التردي العربي وجموده الحضاري والفكري في الحقبة الحالية من سيرورة العولمة، خاصة إذا علمنا أنّ أحد أهم فرضيات مدراس "ما بعد الحداثة" و"اليسار الجديد" المناهضة لسيرورة العولمة تُحاججُ بأنّ ظاهرة الإرهاب العالمي بشكلٍ عام، والإسلاموي بشكلٍ خاص، ما هي إلا صرخة للضعيف في وجه طغيان العولمة.

الصراع بين التكنولوجيا والبشر
الحديثُ عن الصراع بين البشري والتكنولوجي ليس جديداً، وتم تناوله وبحثه باستفاضة في كافة مجالات الحياة العامة والأفكار ابتداء من الفلسفة حتى اللغة اليومية، ولعلي لا أغالي إذا قلت إنّ هذا الصراع يتجسد في خوف الإنسان من أن تأتي لحظة "تأكله" فيها التكنولوجيا والآلة، وتسلبه شرطه البشري فيصبح بلا فائدة. هذا الحال هو مدخلنا هنا للحديث عن الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من عملية مقتل البغدادي.
كما أسلفت فإنّ الصراع بين التكنولوجيا والإنسان ليس جديداً في الحياة، بل هو في تسارعٍ مذهل يتجلى في كافة مناحي الحياة من الطب الى الهندسة الى اللغة والأفكار والفن والموسيقى، وصولاً إلى الحرب والجيوش والمؤسسات الأمنية والاستخبارية من خلال تطبيقات "الذكاء الصناعي" والرقابة والمراقبة للاتصالات والمواصلات، والطائرات بدون طيار.

اقرأ أيضاً: هل البغدادي ميتاً أخطر منه حياً؟
إنّ ما جرى خلال العقود الأخيرة من سيرورة العولمة خاصة بعد التسعينيات هو أنّ الأجهزة الاستخبارية في الغرب خاصة في أمريكا وبريطانيا (رونالد ريغان، مارغريت تاتشر) قامت بعملية انقلابٍ كبرى؛ مرتبطة بمنظومة معرفية جديدة تجلت في إيديولوجيا "الليبرالية المتوحشة" القائمة في أحد جوانبها الفكرية على ما يسمى تخليق جانب العرض (Supply Side) بالمعنى الاقتصادي في النظرية الكلاسيكية، ومحاولة التخلص/ أو التقليل من استخدام العنصر البشري (المصدر البشري بعلم الاستخبارات) لمصلحة إحلال التكنولوجيا واستخدام الأجهزة والآلات الإلكترونية بمختلف أشكالها وأنواعها، سواء في القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية والاستخبارية.
تبع هذه الاستراتيجية عملية تقليل وترشيد لاستخدام الجنود ورجال الأمن والاستخبارات في ساحات القتال الحقيقية، وتقليل ميزانيات الدوائر والمؤسسات المرتبطة بالشق البشري لمصلحة الشق التكنولوجي.
وبناء عليه توسّعت أمريكا في عهد الرئيس السابق باراك أوباما في استخدام "الطائرات بدون طيار" في عمليات مكافحة الإرهاب واغتيال القيادات في الجماعات الإرهابية في مختلف دول العالم، خاصة في أفغانستان والباكستان واليمن والصومال، فحسب إحصائيات "مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية"، نُشرت العام 2017، بلغ عدد الهجمات 563 هجوماً، مقارنة بـــ 57 هجوماً في عهد سلفه جورج بوش الابن.

اقرأ أيضاً: مقتل البغدادي .. هل هو حقاً ضربة قاتلة لداعش؟
وكانت إدارة أوباما تدّعي أنّ استخدام تكنولوجيا الطائرات بدون طيار "دقيقة وأهدافها محددة وتقلل من إصابات المدنيين"، لكن هذا الادعاء لم يكن دقيقاً؛ لأنّ أحد الهجمات في اليمن في بداية عهد أوباما تحولت الى كارثة؛ إذ أصابت مدنيين في الجبال؛ حيث قُتل 55، منهم 21 طفلاً و12 امرأة، ومنذ أن تولت أمريكا قيادة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش في شهر آب (أغسطس) 2014 نفذت 13501 هجوم داخل سوريا والعراق.
لقد نجحت أمريكا من خلال هذا الأسلوب بالقضاء على عدد من القياديين في تنظيم القاعدة وغيرها من الجماعات، من أهمهم الأمريكي من أصول يمنية أنور العولقي، القيادي في القاعدة الذي قتل في اليمن بتاريخ 30 أيلول (سبتمبر) 2011، والسعودي إبراهيم العسيري، صانع القنابل البارز في تنظيم القاعدة، الذي تأكد مقتله بغارة أمريكية في اليمن قبل عامين حسب تصريحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
 حقق استخدام آليات العولمة التكنولوجية فوائد كثيرة للجيوش والأجهزة الاستخبارية

أهمية العنصر البشري
إنّ العنصر البشري لا يمكن الاستغناء عنه في العمل الاستخباري مهما بلغ التطور التكنولوجي في الرقابة والمراقبة والمتابعة الحثيثة للأهداف الإرهابية، ولقد أثبتت عملية ملاحقة أسامة بن لادن خلال عقد من الزمن منذ 2001 حتى مقتله في مدينة أبوت آباد الباكستانية في 2 أيار (مايو) 2011، وملاحقة البغدادي منذ 2014 حتى القضاء عليه هذه الحقيقة.

خلال العقود الأخيرة تم التقليل من استخدام العنصر البشري لمصلحة إحلال التكنولوجيا بمختلف أشكالها وأنواعها

فبعد عام من مقتل بن لادن صرّح وزير الدفاع الأمريكي، ليون بانيتا، في مقابلة تلفزيونية أجريت معه في 28 كانون الثاني (يناير) 2012 في برنامج 60 دقيقة على قناة "سي بي إس" نيوز التلفزيونية، أنّ الطبيب الباكستاني المدعو (شيكال أفريدي)، كان يعمل لحساب الاستخبارات الأمريكية (مصدر بشري) تحت غطاء إجراء تحقيقات حول الوضع الصحي في مدينة أبوت آباد، قد ساعد الولايات المتحدة كثيراً في العثور على أسامة بن لادن.
أما في عملية القضاء على البغدادي، فقد بدأت التسريبات عن دور المصدر البشري في عملية المتابعة والقضاء عليه عقب تأكيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقتله في مخبئه في قرية بريشا التابعة لمحافظة إدلب شمال غرب سوريا، وأنّ هذا المصدر كان من ضمن الحلقة الضيقة المقربة من البغدادي، وتم تجنيده من قبل "قوات سوريا الديمقراطية"، مستغلين غضبه من التنظيم الذي قام بقتل أفراد من عائلته، وأنّه تلقى لقاء خدماته مبلغ 25 مليون دولار أمريكي قيمة الجائزة التي كانت على رأس البغدادي.

اقرأ أيضاً: الصور الأولى لشقيقة زعيم داعش "أبو بكر البغدادي" وزوجها
لقد حقق استخدام آليات العولمة التكنولوجية فوائد كثيرة للجيوش والأجهزة الاستخبارية والأمنية في العالم خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب؛ في نفس الوقت استفادت الجماعات والمنظمات الإرهابية من هذه التكنولوجيا باعتبارها محايدة، وربما استفادت منها الجماعات الإرهابية أكثر من الدول خاصة في مجال سهولة الحركة وعمليات الدعاية والتجنيد والوصول الشبكي وفعالية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
إنّ الدرس الأهم الذي على كافة جهات إنفاذ القانون والأجهزة الأمنية والاستخبارية في العالم أن تتعلمه وتعيد الاهتمام به هو: إنّ العمليات الكبرى في مكافحة الإرهاب العالمي المعاصر تمت من خلال الاعتماد الأوّلي على استخدام "العنصر البشري" في المتابعة والتنفيذ، وفي هذه الحالات كان العنصر التكنولوجي هو المساعد في العملية، وأنّ هذا الوضع سيستمر مستقبلاً، وأنّ أفضل معادلة ممكنة في مكافحة الإرهاب هي تلك التي تدمج بين الاستخدام الرشيد بين العنصرين؛ البشري والتكنولوجي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية