على من تقع مسؤوليّة التجديد الدّيني؟

على من تقع مسؤوليّة التجديد الدّيني؟


11/02/2018

ربّما لم يتكرر مفهوم على ألسنة العلماء أو الباحثين أو المفكّرين، وأخيراً الإعلاميين والسياسيين، كما تكرّر مفهوم التجديد الديني الذي يشير له السياسيون، في الغالب، باختزالٍ، عبر مفهوم مرتبط به هو "إصلاح الخطاب الديني"، الذي هو، في النهاية، نتاج معارف وعلوم دينية لم تتجدّد في الغالب، ولم تتصالح مع العصر وما يطرحه من فرص وتهديدات.

دائماً ما نطرح سؤال: من سيجدّد الدين؟ هل هم علماء الدين؟ فيقودنا السؤال إلى آخر: أيّ علماء نعني؟ هل نعني علماء المؤسسة الدينية الرسمية، أم المحسوبين على الكيانات الحركية أو الجماعات الإسلامية، أم العلماء المستقلين عن الأنظمة السياسية أو الحركات؟

هل الشعوب هي المعنيّة بالمهمّة، وقد دفعت الأثمان الباهظة نتيجة إيمانها بنسخ محرَّفة أو مؤوَّلة أو مبدَّلة لهذا الدين؟

ساهم التوظيف السياسي الضّار للأزهر في إضعاف بنيته العلمية من جهة وإضعاف تأثير خطابه بالمجتمع من جهة أخرى

هل الأنظمة السياسية هي المعنية بالإصلاح؟ وقد تكرر في خطابها أنّها تعاني آثار الانقطاع الطويل لمسيرة التجديد الديني؟ ما أفضى إلى ذيوع تلك النسخ المتداولة للدين، التي أنتجت داعش والقاعدة والإخوان، وغيرها من الجماعات التي اختطفت الدين، واختطفت معه نفوس وآمال وأحلام الشعوب في الرفاه والاستقرار، وهدّدت بُنى الدّول ذاتها.

تبدو دوافع التجديد لدى الأطراف الثلاثة ملحّة، لكنّ تصوّر علماء الدين حول التجديد، يتباين بين مؤسسة دينية رسمية، أتحدّث عن الأزهر مثلاً، تسيطر عليها نزعة محافظة، تتمسّك بالأطر القديمة، فكراً وفقهاً، وتقاوم التجاوب مع دعاوى الإصلاح التي تنطلق من داخلها، إلّا ما تعلّق منها بأساليب إبراز الخطاب الديني، أو الوسائل، دون أن تبذل جهداً مكافئاً في تحرير المصطلحات، والانتصار لخطاب المقاصد على حساب الخطاب الملتصق بالنصّ وشروحه القديمة.

لم تخلُ مسيرة الأزهر، بالطّبع، من علماء مجدّدين، حاولوا تجديد المياه الراكدة منذ قرون.

برز منهم الإمام محمد عبده، الذي حاول أن يشقّ طريقاً للتجديد، عبر إيمانه بعملية التربية والتزكية، معتقداً أنّه بالإمكان إنجاز التحديث أو التجديد، بمعزلٍ عن السياسة ومعاركها، وأنّه من الأصوب للأمّة وقواها الحيّة، أن تنشغل بعملية التّأسيس الفكري والتربوي، وبناء الوحدة الفكرية والشعورية لشعوبها، كطريق وحيد للنجاة، فقدّم اجتهاده الذي لخّصته نظرية الهدايات الأربعة في حياة المسلم، التي تبدأ عنده بالعقل، الذي جعله الهداية الأولى الحاكمة على الهداية الثانية "النقل"؛ قرآناً وسنّةً، وقد قدّم العقل على النقل، فقطع خطوةً جبّارةً في هذا المجال، مضيفاً الوجدان كهداية ثالثة، هذا الوجدان الحي سليم الأذواق، الذي يتربّى على غذاء صحيح، ينهل من الفنون والعلوم والآداب، فتستقيم بوصلته الوجدانية، ويعتدل مزاجه وطبعه؛ حيث يبقى إدراك المسلم نتاجاً لما يتلقّاه عقله ووجدانه، وهو في الهداية الرّابعة، ينتصر للتجربة البشرية المفتوحة، التي أهدتنا نظم التحديث والتنمية والعمران البشري، وهي تراث إنساني مشترك، ضربت كلّ أمّةٍ وجنسٍ فيه بسهم عبر التاريخ، يبقى الهداية الرابعة في كلّ السّاحات والمساحات، يتشارك الجميع ثمراته النافعة.

حاول الإمام محمد عبده شقّ طريق للتجديد عبر إيمانه بعملية التربية والتزكية معتقداً بإمكانية التجديد بمعزلٍ عن السياسة

جسّد محمد عبده فاصلاً استثنائياً لم يحتضنه أحد، وربما لولا الموقف السياسي الذي اختاره، وغضّ الطّرف أو الرّضا من سلطات الاحتلال البريطاني، ما وصلتنا تلك الرؤية التقدمية. 

عادت الأمور إلى ساحة الجمود من جديد في مسيرة الأزهر، الذي ساهم التوظيف السياسي، الضّار له، في إضعاف بنيته العلمية من جهة، وإضعاف تأثير خطابه في المجتمع من جهة أخرى، وفي تقديري لأسباب متعدّدة، لا يستطيع الأزهر النّهوض بمهمة التجديد ببنيته الحالية؛ حيث تسرّبت لتلك البنية التي نالت حظّها من الترهّل، الذي أصاب كلّ مؤسسات الدولة، عناصر سلفية وإخوانية وجهادية، ظلّت تعتقد أنّ مهمتها داخل الأزهر، متمّمة لمهمة الكيانات التي تنتمي لها في حماية الأزهر من الانطلاق نحو التجديد، الذي يهدّد حضورهم، وتأثيرهم، ومشروعاتهم السياسية، ومن ثم تبدو تلك الكوابح عظيمة الأثر في إثناء الأزهر عن أي تجديد حقيقي.

نأتي لعلماء الجماعات الإسلامية، الذين أسهم انحيازهم السّافر لجماعاتهم وانخراط بعضهم في تبرير الكراهية والقتل باسم الدين، إلى حدّ كبير في إسقاطهم في عيون الكثيرين.

بقي العلماء المستقلّون، وهؤلاء لا يحظون بدعم الأنظمة أو الجماعات؛ حيث لا يرتاح الطرفان لمسألة الاستقلال العلمي أو الذاتية، رغم أنّ التنسيق مع هؤلاء ودعمهم في المشترك، يخدم الدول والمجتمعات.

مهمّة التجديد الديني تشغل الجميع، وعلى الأنظمة الراشدة ألا تتأخر في البدء بالإصلاح بينما تدهسنا تطوّرات متسارعة

أتصوّر، لو تحدّثنا عن نهوض العلماء بالمهمة، فلن يتأتّى ذلك إلّا عبر مجالس علمائية مشتركة، بين علماء المؤسسات الدينية، والعقلاء ممن كانوا محسوبين على الجماعات الإسلامية، قبل أن يكتشفوا أجنداتها الخفية، والمستقلين من العلماء، برعاية دول تدرك أهمية أن تبدأ مهمّة التنمية بهذه الخطوة، التي تهيّئ الضّمائر والنفوس، قبل أيّ شيء آخر، وهي الخطوة التي لا ينبغي أن تسبقها خطوة أخرى في مسيرة تحديث الدّول والمجتمعات.

الشعوب تستطيع أن تشكّل قوّة دفع عبر احتضان تلك المحاولة، ودعمها، والالتفاف حولها، متى استشعرت إخلاصها وصدقها، وقد عوّدتنا حكمة الشعوب الجمعية أنّها لا تعطي ثقتها إلّا لمن تستشعر إخلاصه.

أتصوّر أنّ مهمّة التجديد تشغل الجميع، وترتب أدوار الجميع، لكنّ رأس الحربة فيها، هي الأنظمة الراشدة، التي لا تريد أن تحرث في البحر، بل تنخرط في أفعال جادّة، تستثمر في صناعة المستقبل، عبر هذا التدبير الذي لا ينبغى أن يتأخر أكثر من ذلك، بينما تدهسنا تطوّرات متسارعة، قد تفوت معها اللحظة المناسبة للبدء.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية