لماذا يعادي الإسلامويون الموسيقى؟

لماذا يعادي الإسلامويون الموسيقى؟


08/03/2018

 

"إنّ للموسيقى إلهاماً يسمو فوق كلّ ما للحكمة والفلسفة من سمو"، بهذه الكلمات القليلة أجمل الموسيقار "لودفيق بيتهوفن"، أهمية الموسيقى في تحضّر الفرد والشعوب، وقد يجد المرء، مصداقاً لكلام ذلك العبقري الألماني، أنّ معظم من تهذّبت مشاعرهم، ورقّت أحاسيسهم، بدراسة الموسيقى وسماعها وتذوّقهم لها، قد غدا من أكثر الناس توازناً انفعالياً، وثقة بالنفس، وإدراكاً للجمال، وانسجاماً مع الطبيعة، بل وانطلاقاً في عالم الإبداع والابتكار.

 

ولم نسمع، أو نقرأ، يوماً أنّ مؤلفاً موسيقياً، أو عازفاً للبيانو، أو الكمان أو متذوقاً جيداً للموسيقى، اندفع يوماً -بسبب ذلك الفنّ الراقي- لاقتراف جرمٍ، أو ليؤذي إنساناً آخر، أو ليخرق قانوناً، أو ليتلف ممتلكات عامة أو خاصة. وإن دلّ هذا على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ الموسيقى رافعة حضارية، تستخدمها الأمم لجعل شعوبها أكثر نظاماً، ومدنية، واحتراماً للقوانين، بل وتساهم الموسيقى في زيادة التفاهم بين الشعوب، وتمدّ جسوراً للتواصل تتخطى حواجز اللغة، والثقافة، والدين. ومثال ذلك أنّه قد يأنس قلبك بالثقافة والحضارة اليونانية، عندما تستمع للحن جميل بآلة "البوزوكي" الإغريقية، مصحوباً بغناءٍ عذبٍ يخلب الألباب.

معظم من تهذّبت مشاعرهم بدراسة الموسيقى وسماعها وتذوّقهم لها غدوا من أكثر الناس توازناً انفعالياً، وثقة بالنفس

ورغم أنّ للعرب إرثاً موسيقياً وغنائياً عريقاً، يرجع إلى أيام إبراهيم الموصللي-الذي طرب له الخلفاء، هارون الرشيد والمهدي، وصلّى عليه الخليفة المأمون بعد وفاته– ومن بعده زرياب، وصولاً إلى سيد درويش، ورياض السنباطي، وأم كلثوم، وفيروز والرحابنة، وبليغ حمدي، وغيرهم كثير من المبدعين والفنانين، إلّا أنّ كثيراً من هؤلاء المبدعين الذين ألهموا وأسعدوا الأمة العربية والإسلامية لقرون، يواجهون حملة شعواء من رموز الدعوة السلفية والإخوان المسلمين.

وهذا الهجوم الدائم يتّهم كلّ من يتعامل بالموسيقى والغناء، بالفسق والابتذال؛ بل ويصل بهم التجنّي على الموسيقى، والعاملين بها إلى اتهامهم بأنّهم هم -وليس الخلافات والتمزق السياسي- السبب الذي أدّى إلى ضياع الأندلس وفلسطين.

ويقرّ كثير من علماء الشرع، من أمثال: ابن حزم، والدكتور محمد الغزالي، أنّه لا يوجد أي نصّ في القرآن الكريم أو السنة النبوية، يحرّم عزف الموسيقى أو ينهى عن الغناء، وأنّ الأصل في الأشياء الإباحة؛ بل يقول الدكتور مصطفى محمود، في معرض ردّه على تحريم التيارات الدينية المتشدّدة للموسيقى وكافة أنواع الفنون: "إنّ الفنون الجميلة هي ما يصنع الذوق، وترتقي بها المشاعر، وتتهذّب بها الأخلاق والطبائع، وإنّ الفقه الخاص بها هو أنّ حسنها حسن، وقبيحها قَبيح".

الدكتور مصطفى محمود ينتقد تحريم السلفية والإخوان للفنون والغناء (فيديو):

 

 

وتحرص التيارات التي تمتهن الإسلام السياسي، كلّ الحرص، عند مشاركتها السياسية في أيّ تشكيل وزاري، أن تكون وزارة التربية والتعليم من نصيبها، أو أن يسمح لها، على الأقل، بإلحاق رجالها بقسم إدارة المناهج والكتب المدرسية؛ ذلك لأنّ التربية والتعليم، وإعداد المناهج، تبني شخصية الأطفال، وهؤلاء، هم وهنّ، رجال ونساء المستقبل.

وأكثر ما تهدف إليه هذه التيارات المتشددة، من تغييرها للمناهج المدرسية، هو غرس بذرة التشدّد الديني، كي يكون النشء يوماً ما، إمّا أتباعاً أو أنصاراً لهم، ودائماً يصرّ مصمّمو المناهج من الإخوان المسلمين والسلفيين على استبعاد الفلسفة والرسم، والتمثيل، والنّحت، والتصوير الفُوتوغرافي، والسينما، والفنون من مقرّرات الطلاب في أيّة وزارة تربية عربية، تكون لهم اليد الطولى في صياغة مناهجها، ومثال ذلك: ما فعلوه في عهد الوزير الإخواني الدكتور إسحاق الفرحان في الأردن، أو تأليبهم  لطلاب المدارس، والأهالي ضدّ التعديلات التي أجريت على المناهج الأردنيّة في 2016.

يصرّ مصمّمو المناهج من الإخوان والسلفيين على استبعاد الفلسفة والفنون من مقرّرات الطلاب في أيّة وزارة تربية عربية

ويعمل الإسلامويون، أثناء إدارتهم التربوية، دائماً على إقصاء وتغييب مقرّر الموسيقى والغناء، الذي يعدّ مقرّراً أساسياً في أغلب مدارس العالم تقريباً، وكذلك ازدراء أيّة قيادات تربوية تطالب بجعل هذا المقرّر جزءاً من البرنامج التعلمي للطالب، والسؤال هنا: لماذا يناصب الإسلامويون، بكلّ أطيافهم، الموسيقى وتدريسها العداء، ويضمرون لها البغضاء؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول:

أولاً:  تهذّب الموسيقى المشاعر، وترتقي بالأحاسيس الإنسانية من حبّ ولطف وعطف ورحمة، وهذا يتعارض جذرياً مع ما ترتجيه السلفية الجهادية، وأخواتها من التعليم؛ حيث يريدون أن يصبح الطفل الدارس لمناهجهم عند بلوغه، ذبّاحاً لا تأخذه رأفةٌ ولا رحمة، في كلّ من يخالف أفكار تنظيمه، أو لا يتفق مع أميره.

ثانياً: تمدّ الموسيقى جسور التفاهم والتواصل بين الأمم، من غير أن تلقي بالاً للمعتقدات والثقافة والمواقف السياسية، لكنّ القائمين على المناهج من الإسلامويين، لا يريدون للناشئة أن يستمعوا لموسيقى صينية أو يابانية أو روسية مثلاً؛ لأنّ تلك الدول، في اعتقادهم، هي دول بوذية، أو شنتوية، أو مسيحية كافرة، ولا يجب أن نتعامل معها إلّا من مبدأ دار الحرب ودار الإسلام، الذي صاغه فقهاؤهم من الخوارج عبر التاريخ الإسلامي.

يريدون أن يصبح الطفل الدارس لمناهجهم  ذبّاحاً لا تأخذه رأفةٌ في كلّ من يخالف أفكار تنظيمه حين يكبر

ثالثاً:  ترتبط الموسيقى، والغناء المصاحب لها، بنشاطات تتعلّق بها أفئدة طلاب المدارس، هي: اللعب، والرقص، والحركات الإيقاعية، وهذه العلاقة بين الموسيقى والغناء والرقص واللهو، تصيب مُعدَّ المناهج من الإسلامويين بالذعر، وحتى الرعب؛ لأنّه يريد أن تكون ثمرة جهده شخصاً انتحارياً، يقدّم روحه على مذبح الجماعة، ولا يتورع عن الإتيان بأي فعل إرهابي، إعلاءً لكلمة تنظيمه.

رابعاً: يتعاظم حبّ الإنسانية والحياة في قلب أيّ طفل يقبل على تعلّم الموسيقى وسماعها، وتمتلىء روحه بالأمل والحبور، وتسكن الشفقة والرحمة تجاه البشرية جمعاء وجدانه، وهذا الهدف التربوي يتعارض مع ما تطمح لتحقيقه حركات الإسلام السياسي، التي تقول أدبياتها إنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، والموسيقى –كعادتها- تطلق طاقات التفاؤل والعاطفة والانعتاق من أيّ قيود، وهذه المحصلات التربوية تتعارض مع حبّ الموت الذي يعدّ مؤشراً دالاً على قوة الإيمان، وانعدام الوهن في قلب ونفس أيّ تكفيري انتحاري، يحرص على الموت كحرص الإنسان السويّ على الحياة.

خامساً: يعجز الإرهاب والإرهابيّون عن فهم كنه وسرّ الموسيقى، وقدرتها الهائلة على إعادة أيّ شاب أو شابة -يريدون استدراجهم لمستنقعات التطرف والتكفير- إلى إنسانيته من جديد، بل وتعطي كلّ متذوّق لها – أي الموسيقى– القدرة، والشجاعة أن يصدع بـ "لا" قوية، في وجه أيّة وسوسة، أو استمالة إرهابية إلى ميادين الموت والتفجير؛ لأنّ الموسيقى تعلي من قيم الحياة، وتحترم التنوع الإنساني، وهذه أمور يستشيط كلّ إرهابي من ذكرها غضباً، لأنّها تبطل سحره الأسود، وتقلبه عليه.

وخلاصة القول: إنّ من الخطوات الواجب اتّخاذها لإصلاح المناهج الدراسية في مدارسنا، وبعد عقود طويلة من تأثير تيارات التشدد والتطرف، عليها أن تضع وزارات التربية والتعليم في البلاد العربية موضع التنفيذ، التوصية التي تنصّ على جعل مقرّر الموسيقى مقرراً إلزامياً في جميع المراحل الدراسية، وأن تعدّ وتدرّب الكوادر التعليمية الموسيقية على يد أكفأ المدربين، وتقدّم لهم غرفاً متخصصة، وآلات موسيقية حديثة، تعينهم على القيام بواجبهم التربوي المهم في إعداد أجيال جديدة من العرب، تتذوّق الموسيقى، وتعلي من شأنها، ممّا يغرس في نفوسهم، مع كلّ لحن أو أغنية، حبّاً وعطفاً، ورحمة تجاه أمتهم، وشعوب الأرض كافة.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية