التديّن والأزمات العربية

التديّن والأزمات العربية


02/04/2018

هل من تأثير للأزمة السورية في أنماط التدين وموقع الدين في المجال العام وتدشين أي مشاريع للنهوض والتنوير؟ سؤال يكتسب راهنيته من أنّ اكتشاف عورات الأحزاب الإسلاموية في سوريا ولبنان ومصر وليبيا وغيرها لم يفرز حالة أنضج من التديّن، كما لم يُصعّد جدلاً وحواراً عامّين حول ضرورات تثقيف التديّن والقطع مع "الجهل المقدس"، بتعبير أوليفييه روا.  وفي مقابل هذه الرؤية غير المتفائلة والمتحفظة ثمة من يتبنّى رؤية ثانية تقول إنّ تجربة السنوات الماضية من عهد الثورات العربية  خلقت بذور وعي ديني أكثر تساؤلاً، وقد يمهّد الطريق لتدين أكثر نضجاً واعتدالاً وتسامحاً؛ وذلك بالتعلّم من التجارب التي وضعت الأحزاب السياسية والأنظمة السياسية على المحك.

الرؤية الأولى المتحفظة تعتقد أنّه لا مؤشرات في الأفق إلى أنّ ثمة مناخاً من التعقل والتحرر يتوطّن حيال النظر في الدين والتديّن ومجمل النسق القيمي والثقافي؛ بل على العكس، يُخشى من أنّ استمرار فشل الثورات على الأنظمة الفاسدة الفاشلة من شأنه أنْ يكرّس الحالة القدَرية لدى المجتمعات العربية ويضعف في وعيها العام أكثر فأكثر التعويل على الإرادة الإنسانية في صناعة الحياة والمصير والمستقبل. هنا تستعاد شعارات الثورة السورية مثل "ما إلنا غيرك يا الله" في سياق أجواء أشدّ سلبية وهشاشة، ويغدو الدين معها كملجأ نفسيّ من ويلات الحروب والنزاعات، وينكمش بالتالي دوره التنويريّ في تحرير الإرادة الإنسانية والتحريض على استقلالها.

ثورات المنطقة، وعلى رأسها السورية، لا يبدو أنها تتغلب على جمود الهياكل العقلية والاجتماعية والاقتصادية القائمة

ثورات المنطقة، وعلى رأسها السورية، لا يبدو أنها تتغلب على جمود الهياكل العقلية والاجتماعية والاقتصادية القائمة، والتجربة تقول إنّ التديّن لا ينضج وينتعش ويتحرر ويتعقلن إلا في حالة كسر هذا الجمود. فالتديّن يتقدم في ظلّ مجتمعات متقدمة تتعالى فيها الهوية الوطنية المشتركة على الهويات الصغرى، التي تجعهلها الحرية مصدر غنى للهوية المشتركة، وليس تفتيتاً لها. بهذا المعنى، كما يقول عبد الجواد ياسين، تُمثّل الحداثة، على الدوام، تهديداً محتملا للتدين، ولكنها تتحول إلى المواجهة عند نقطة التغيّر الجذري في الهياكل الكلية (العقل ـ اجتماعية)، حيث لا يعود بمقدور النظام الديني إشباع حاجات النظام الاجتماعي، أو لايعود بإمكان النظام الاجتماعي تحمّل إلزامات النظام الديني.

إنّ حالة الانقسام والاستقطاب الحادّتين في مجتمعات الثورات تعرقل إفراز جدل ثقافي وطني حقيقي يسائِل الفكرة الدينية، ويطرح بصراحة ووضوح كيف أنّ التدين الخشن المغلق المسلّح بالعنف والإقصاء كان عاملاً مانعاً لنجاح الثورة السورية. فقد كان المفروض، أمام ضريبة الدم الباهضة واللجوء والتشريد لملايين السوريين، أن تنهض حالة وطنية تتجه، من ضمن ما تتجه إليه، إلى تبنّي تصوّر جديد لنظام التديّن يتم فيه التخلص من المكونات التديّنية التي تشكّل منبعاً للهزيمة أمام البطش والاستبداد ومعوّقاً أمام النهوض والتقدّم. هذه الحالة على النقيض من الفهم الشعبي الراسخ والشائع الذي يحيل أسباب الهزائم إلى التقصير بحق الدين.

حالة الانقسام والاستقطاب الحادّتين في مجتمعات الثورات تعرقل إفراز جدل ثقافي وطني حقيقي يسائِل الفكرة الدينية

الرؤية الثانية يعبّر عنها الأكاديمي المصري نصر عارف، من خلال اعتقاده أنّنا نعيش مرحلة "نهاية محاولات التوظيف السياسي للإسلام"، وأنّ محاولات جماعة "الإخوان المسلمين" لأن تكون بديلاً عن المجتمع في مصر وغيرها فشلت، وأنّ ثمة وعياً باسترجاع الدين من ملكية الجماعة إلى مسؤولية أفراد المجتمع؛ بحيث يكون كل إنسان حرّ في تديّنه، وحرّ في التعبير عن تديّنه، متحرراً من حالة النفاق الاجتماعي الذي صاحب نمط التدين الذي رعته جماعة "الإخوان"، الأمر الذي من شأنه تحرير الإنسان من الخديعة باسم الدين أو شعاراته، وفي هذا تخفيف من عقلية القطيع في مسألة التصويت الشعبي لكل من يرفع شعار الإسلام.

هاتان الرؤيتان، وغيرهما بالطبع، بحاجة إلى النقاش باتجاه إنتاج نماذج مثقفة وواعية من التدين ترتكز على ترسيخ العقلانية وحرية الإنسان واستقلال إرادته. مثل هذا الهدف سيعالج واحداً من العوامل الداخلية الأساسية التي جعلت نتيجة الثورات العربية غير مشجعة، فعنصر الاستبداد والقمع السلطوي، على أهميته الكبرى، لا يختزل وحده تلك النتيجة وسنبقى بحاجة إلى مزيد من النقد للاستفادة مما جرى ويجري، والتحلي بالجرأة والعمق في الفهم والتحليل.

 

الصفحة الرئيسية