الإسلاميون وفكرة "السلف الصالح"

الإسلاميون وفكرة "السلف الصالح"


15/05/2018

 

رغم عمق التباينات والاختلافات بين التنظيمات الإسلامية المتعدّدة، ثمة منطلقات أساسية تجمع بينهم، ومنها استلهام أو اتّباع "منهج السلف الصالح". فهذه النقطة، وإن أصرّ البعض على حصرها بالتيار السلفيّ، إلا أنّها تشكّل عمق الوعي الذي يصدر عنه مجمل كلام الإسلاميين على اختلاف مشاربهم؛ إذ تخيّم على تصوّراتهم وتزيّن مشاريعهم للعامّة؛ حيث ترتبط بها مقولات من قبيل "الحياة الإسلامية" أو "تطبيق الشريعة" أو "الحكم بما أنزل الله"، وطبعاً إقامة "الخلافة الإسلامية".

 

هذه الفكرة المركزية تستتبع ما لا حصر له من التفاصيل والمسائل التي تفرض نفسها على أيّ مشروع إسلاميّ، لذلك كان لا بدّ لاختلاف طرائق الإسلاميين في تفسيرها وبناء مقارباتهم عليها، أن يؤدّي إلى تعدّدهم وتنوعّهم فقهياً وتنظيمياً، على أرضية تباين المواقف إلى حدّ التناقض حيال العديد من القضايا السياسية والاجتماعية وحتى الشرعية والفقهية. هكذا، فضّل بعضهم الاستثمار في السياسة وشؤونها على مهل، بما يخدم الهيمنة على الفضاء الاجتماعي والثقافي العام تمهيداً لتحقيق هدفه، فيهادن السلطات أو ينأى عنها دون صخب. وانخرط آخرون مباشرةً في المجال السياسي حتى الأذنين، محوّلين "الإسلام" إلى أيديولوجيا سياسيّة  أو "برنامج انتخابي". وصولاً إلى من يقفون على تضادّ مع الأنظمة والحكومات المعاصرة (وبعضهم يضيف المجتمعات أيضاً)، فيكفرون بها ويكفّرونها، ويعتقدون أنّ "الجهاد" ضدّها فرضٌ دينيّ واجب من أجل تحقيق الهدف المرتجى، بالعودة إلى ما كان عليه "السلف الصالح"، على نحو ما تذهب مختلف تنظيمات "السلفية الجهادية".

فضّل بعضهم الاستثمار بالسياسة على مهل بما يخدم الهيمنة على الفضاء الاجتماعي والثقافي تمهيداً لتحقيق هدفه

وعبارة "السلف الصالح"، في أدبيات عموم الإسلاميين، تحيل إلى "صحابة الرسول وتابعيهم وتابعي التابعين"، وهذا يشتمل على فترة القرون الهجرية الثلاثة الأولى، استناداً إلى الحديث النبوي: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (البخاري 2652، ومسلم 2533). والنسبة إلى "السلف الصالح"، عند السلفيين عموماً، "ليست نسبة إلى شخص ولا إلى عشرات الأشخاص بل نسبة إلى العصمة، لأن السلف الصالح يستحيل أن يجتمعوا على ضلالة"، وفق ما أكّد الشيخ ناصر الدين الألباني (1914 - 1999)، أحد كبار رموز الدعوة السلفية.

إنّ النظرة التي تبجّل الأسلاف وتفترض الطهرانية في زمانهم فلا تتوانى عن إسباغ العصمة على بشر عاديين يخطئون ويصيبون، تنطوي على تجاهل صارخ للوقائع التاريخية المرتبطة بتلك المرحلة، بمعطياتها السياسية والاجتماعية المعقّدة، وفقاً لما دوّنه مؤرخون مسلمون بعضهم لم يكن ببعيد عنها زمنياً. إنها وقائع جرت في السنوات والعقود الأولى التي تلت وفاة الرسول، وهي تتناقض بجلاء مع الصورة الوردية التي يرسمها الإسلاميون عن عصرٍ ذهبيّ متخيّل، تسوده التقوى والمودة والتراحم، بين من يعدّون في الموروث الإسلامي "خير الناس" بعد النبي -عليه السلام- أي أهله وأصحابه وتابعوهم من المسلمين الأوائل. وهي تستوجب التمييز بين المكانة الدينية للأشخاص وبين مراميهم السياسية ومصالحهم الدنيوية؛ أي الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي في سلوكهم، وتالياً في مجرى التاريخ الإسلامي الذي هو من صنع المسلمين أنفسهم.

النظرة التي تبجّل الأسلاف وتفترض الطهرانية في زمانهم تنطوي على تجاهل للوقائع التاريخية المرتبطة بتلك المرحلة

كانت أولى تلك الوقائع عقب وفاة الرسول -عليه السلام- مباشرة حين اختلف كبار الصحابة، من المهاجرين والأنصار، على الأحقّية بالخلافة؛ حيث جرى تدافع وتلاسن بين بعضهم، وفق الرواية الشهيرة لما حدث في "سقيفة بني ساعدة". هناك بالطبع من يقلّل من أهمية حادثة السقيفة وينظر إليها بوصفها لا أكثر من خلاف في الرأي بين الصحابة، وأنّ ذلك جاء نتيجة لما أصابهم من ارتباك واضطراب حزناً على وفاة نبيّهم وقائدهم. لكن، ماذا عن "الفتنة الكبرى" التي وقعت خلال ما يعرف بالخلافة الراشدة، واستمرّت طيلة سنوات بلغ فيها العنف مبلغه؛ إذ وقع المسلمون الأوائل في دماء بعضهم بعضاً في حروب "الخلافة"، ومن محطاتها الأبرز معركتا "الجمل" و"صفّين". فالأولى بين علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول وصهره، وبين عائشة بنت أبي بكر، زوجة الرسول و"أم المؤمنين"، والثانية بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، وكانت النتيجة إزهاق أرواح آلاف المسلمين في صراع سياسيّ يجهد الإسلاميون إلى تبرئة أطرافه الفعليين، وإحالته إلى طرف ثالث لتحميله مسؤولية "الفتنة". هذا مثال فقط عما شهده ذلك الزمن، والمراجع التاريخية متوفّرة لمن يريد، فلا حاجة لسرد مزيد من "الفتن" والمآسي التي ألمّت بالمسلمين في عزّ دولتهم خلال "القرون الهجرية الثلاثة الأولى"، وهذا يدحض رواية الإسلاميين، أقلّه من الناحية الدينية والروحية، عن ذلك "العصر الذهبي" المتخيّل.

الأساس النظري الذي يتّكئ عليه الإسلاميون ليس "التراث" فحسب، بقدر ما هو قراءات له من كتّاب معاصرين

قصارى القول، إنّ الأساس النظري الذي يتّكئ عليه الإسلاميون ليس "التراث" فحسب، بقدر ما هو قراءات له من كتّاب معاصرين، أعادوا إنتاج مختارات من التراث واجتهدوا فيها بصورٍ شتّى. لقد عاش معظم هؤلاء في القرن العشرين وأرادوا التصدّي لمشكلات واقعهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كالاستعمار والاستبداد والتخلف والفقر، وافترضوا أنّ سبب تردّي أوضاع المسلمين هو الابتعاد عن أحكام الإسلام، وأنّ الحل إنما يكون بالعودة إلى الحكم الإسلامي ونظام الخلافة. صحيح أنّ بينهم مصلحين ودعاة أخلاقيين ودينيين، لكنّ من سادت أفكارهم لاحقاً وشكّلت العدّة النظرية للتنظيمات الإسلامية، هم في الواقع طلاّب سلطة وأصحاب مشاريع سياسية تتلطّى بالدين. وعلى هذا الأساس، أعادوا تكييف كثير من النصوص الدينية على نحو مختلف، وأحيوا عدداً من الفتاوى والتفاسير المتشددة والأحاديث الإشكالية التي تختزنها بطون كتب التراث، فانتزعوها من سياقها التاريخي وأرادوا إسقاطها على الواقع قسراً، بعدما زادوا عليها وكيّفوها بما يخدم مشاريعهم التسلّطية، ثم اجتهد على اجتهادهم من فاقهم تشدّداً وهكذا. فأين "السلف الصالح" من هذا كلّه؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية