أثيوبيا: الخروج من أسر النبوءة

أثيوبيا

أثيوبيا: الخروج من أسر النبوءة


11/04/2018

كان ذلك العام 1029 ميلادية، وقيل قبلها؛ حيث كان مزمار المُرتل ومؤلف المزامير، (يارد) الأثيوبي، يجعل الكلّ يرقص ويضحك ويبكي، فالتفّ الناس حوله وأصاب جمهوراً عظيماً، فيما أُصيب الملك بالذعر والرهبة جراء ذلك، ويُحكى أنّ الملك ذهب إليه حيث يُقيم المُرتل العظيم، الذي كان غائباً عمّا حوله من كائنات، وجلس الملك قبالته يصغي، فاهتزّت نفسه وسربلت جسده الرعشة من فرط عذوبة الألحان وجلال المقامات، لكن أخذته عزّة الملوك، فغرس سيفه في قدم (يارد)؛ الذي كان مُستغرقاً في عالمه الخاص، فلم يشعر بالسيف المغروس في قدمه، فخشيه الملك، وانتظره حتى انتهى من ترنّمه واعتذر إليه، وسأله أن يطلب ما يشاء، فقال: اعتزلني وأعتزلك، فغادر الملك، بينما واصل يارد أنشودته:

لم يبدأ التاريخ السياسي لأثيوبيا بانقلاب الضباط الماركسيين على سلطة الإمبراطور هيلي سلاسي المطلقة العام 1974

"ستظلين يا بلاد الجبال محكومة بالقساة، رهينة الدم والموت، أسيرة الفقر والحرب، لكنّ شعبك لن يترك النشيد وحيداً، ولن يتخلّى عن الرقص المحموم، وحتى حين يأتي زمن ينتهي فيه الجور والظلم، سيكون الغناء هادئاً والرقص حالماً، والناس أقل جنوناً".

أزمنة متشابهة

لم يبدأ التاريخ السياسي لأثيوبيا بانقلاب الضباط الماركسيين على سلطة الإمبراطور هيلي سلاسي المطلقة، العام 1974، ولا بانهيار سلطتهم المستبدة واعتلاء الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الأثيوبية، المعروفة اختصاراً بـ (الإهودق)، بقيادة الراحل مليس زيناوي، عرش الزهرة الجديدة (أديس أبابا)، العام 1991، كما لن ينتهي باستقالة رئيس الوزراء السابق هيلي ماريام ديسالين، في 15 شباط (فبراير) الماضي، وتعيين أبي أحمد علي خلفاً له في 17 آذار (مارس) الماضي؛ إذ يبدو أنّ نبوءة السنسكار والمرتل القديس (يارد)، ظلّت وما تزال قيد التحقّق، رغم مرور ما يقرب من 1000 عام على إطلاقها؛ إذ لم تنجز الجبهة الثورية التي تهيمن عليها أقلية نخبوية من ثوار إقليم تيغراي (شمال أثيوبيا)، منذ إطاحتها بنظام منغستو، حتى لحظة تسمية أبي أحمد رئيساً للوزراء إلّا القليل مما وعدت به الأثيوبيين؛ حيث فشلت في إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية، فحتى المؤشرات الإيجابية عن أداء الاقتصاد الأثيوبي، التي تقدمها المؤسسات الدولية متصلة بالاقتصاد الكلي، وليس لها أثر واضح في تحسين مستوى الحياة المعيشية اليومية للمواطنين الفقراء، فضلاً عن الانتهاك المستمر لحقوقهم المدنية والسياسية، وما الإعلانات المتكررة عن "حالات الطوارئ"، وقمع الجيش والأجهزة الأمنية للمتظاهرين السلميين حدّ إزهاق أرواحهم دونما هوادة، إلّا دليل واضح على استمرار سياسية "غرس  السيف في القدم"، التي مارسها ذاك الملك مع القديس يارد.

يبدو أنّ نبوءة السنسكار والمرتل القديس ماتزال قيد التحقّق رغم مرور ما يقرب من 1000 عام

النخبة القامعة

بطبيعة الحال، كان لا بُدّ أن تثير استقالة رئيس الوزراء السابق، هيلي ماريام ديسالين، وما نجم عنها من إعلان جديد ومتكرر لحالة الطوارئ، قلق الدول الغربية والإقليمية والدول العربية المحيطة القريبة من منطقة القرن الإفريقي، التي تتأثر إيجاباً وسلباً بما يحدث هناك، كما من الطبيعي أن تثير دهشة واستغراب المراقبين والخبراء في الشأن الأثيوبي؛ إذ لم يحدث منذ أن خلق الله هذه البقعة من العالم، أن استقال أحد حكامها أو تخلّى عن السلطة سلمياً؛ فالعرش الأثيوبي ظلّ دائماً ملازماً للدم والموت.

نصّ الدستور على حقّ المواطنين في اختيار حكومتهم بشكل سلمي لكنّ أبسط الحقوق منتهكة باستمرار

تناسلت الأحداث وتلاحقت بوتيرة متسارعة في أثيوبيا ما بعد نظام الجنرال "منغستو"، عقب وفاة زعيم أقلية التيغراي المهيمنة على الائتلاف، الذي يحكم أثيوبيا منذ أكثر من ربع قرن، ورئيس الحكومة الأثيوبية الأسبق، ميلس زيناوي، العام 2012، وإحلال ديسالين المنتمي إلى إثنية (صغيرة) من جنوب أثيوبيا، لم تكن تحلم بوزير في عهود سابقة، مكانه، الأمر الذي عدّه كثيرون مبادرة جريئة للتخلص من هيمنة قوميتي الأمهرا والتيغراي (بالتناوب)، على مقاليد الحكم ومُقدرات البلاد منذ آلاف السنين، لكن يبدو أنّ ما كان يخطط له زيناوي لم يرق لآخرين من أبناء جلدته، فأعاقوا خطط (ديسالين)، حليفهم في الائتلاف، حتى يبقوا على سيطرتهم المطلقة على البلاد، لكن كلّ ذلك ذهب أدراج الريح، حين اندلعت المظاهرات الشعبيِّة العارمة في إقليم أروميا، الذي تُشكّل شعوبه نحو40% من إجمالي عدد سكان أثيوبيا، البالغ أكثر من 100  مليون نسمة، علاوة على تمتعه بموارد وثروات طبيعية لا توجد في أيٍّ من الأقاليم الأثيوبية الأخرى، هذا إلى جانب موقعة الإستراتيجي وتبعية العاصمة له، وامتداده إلى كينيا المجاورة. 

تفاقم الضغط الشعبي بانضمام شعب إقليم الأمهرا إلى الاحتجاجات العارمة، فصارت حكومة الائتلاف الهشّ تعاني ضغوطاً شعبية متزايدة، من أجل العدالة المتمثلة في حقوق سياسية ومدنية واقتصادية متساوية، وتفكيك هيمنة النخبة (التيغراوية)، وبسط ديمقراطية حقيقة في أقدم وأعرق وأهم بلد إفريقي جنوب الصحراء.

الإمبراطور هيلي سلاسي

ماركسيون بصيغة ليبرالية

والحال، أنّ حكومة الائتلاف الحاكمة في أديس أبابا لم ترقَ إلى مستوى الأحداث المتسارعة، فبدلاً من تلبية مطالب المحتجين، والنظر إليها بحكمة، وبسط المزيد من الحريات وتطوير نظام ديمقراطي حقيقي، لجأت إلى الأساليب القديمة ذاتها التي ظلت تنتهجها الحكومات الأثيوبية المتعاقبة، من قبضة أمنية حديدية، وقمع، واعتقالات، وقتل، فكان أن فرضت حالة الطوارئ في العام 2016، بما يتيح للجيش والأجهزة الأمنية قمع الاحتجاجات بعنف مبالغ به، غير أنّ ذلك لم يغير من الأمر شيئاً، إن لم يضاعف منه، فاتسعت دائرة الاضطرابات لتشمل مناطق واسعة من البلاد بما فيها  العاصمة أديس أبابا، الأمر الذي أدّى في بعض المراحل إلى تدمير  مشروعات استثمارية أجنبية بالكامل، وأسفر، في الوقت ذاته، عن مقتل ما يربو على 1000 شخص، واعتقال حوالي 22 ألفاً آخرين، بحسب مصادر متطابقة.

تهيمن قوميتا الأمهرا والتيغراي بالتناوب على مقاليد الحكم ومُقدرات البلاد منذ آلاف السنين

واقع الأمر، أنّ الائتلاف الثوري اليساري الحاكم بصبغة (نيو ليبرالية)، لم يتغيّر بما يكفي ليواكب ادعاءه المستمر بتبنّي نظام حكم ديمقراطي ليبرالي، فسرعان ما نكص وعده بالإصلاح السياسي بعيد الانتخابات البرلمانية الأخيرة (العام الماضي)؛ حيث لم يسمح لمعارض واحد بالفوز، فيما سمح العام 2016 للمعارضة بمقعد برلماني واحد.

ضاع في الترجمة

وفي هذا السياق؛ يشار إلى أنّ المادة (13) من الباب الثالث للدستور الأثيوبي، الساري منذ آب (أغسطس) 1995، نصّت على أنّ جميع أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، على كافة المستويات، لديها مسؤولية وواجب احترام وتطبيق أحكام الدستور، فيما يتعلق بحقوق الإنسان، كما أنّ تلك الحقوق والحريات قد صيغت بطريقة تتفق مع مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونصت المواد (14، 15، 16) على الحقّ في الحياة والأمن الشخصي، وعدم حرمان أيّ شخص من حياته، وحقّ الحماية من الإيذاء الجسدي، وعدم الحرمان من الحرية ومنع الاعتقال التعسفي، دون اتهام أو إدانة، والحق في المثول أمام المحكمة خلال 48 ساعة من  لحظة القبض على متهم ما، كما لا يجوز إجبار الأشخاص على الإدلاء باعترافات يمكن استخدامها أدلة ضدّهم، والحقّ بإطلاق سراحهم بكفالة.

تحجب السلطات من وقت لآخر مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وكذلك المواقع الإخبارية

كما نصّ الدستور على حقّ المواطنين في اختيار حكومتهم بشكل سلمي، في انتخابات دورية حرة ونزيهة قائمة على الاقتراع العام والمتكافئ.

لكن كل ذلك "ضاع في الترجمة"، كما يقولون، فأبسط الحقوق منتهكة باستمرار؛ حيث يتعرض المواطنون والصحفيون الذين ينتقدون الحكومة  للإيقاف والاعتقال والتعذيب والتنكيل والاختفاء القسري، أما انتهاك الخصوصية؛ فهو أمر تمارسه السلطات الأثيوبية، وكأنّ شيئاً لم يحدث، فشركة الاتصالات الأثيوبية الحكومية تحتكر بشكل مطلق خدمات الإنترنت في الدولة، وتفرض قيوداً  صارمة على إمكانية الوصول  للعديد من المواقع، بما في ذلك بعض المدونات الشخصية، وتحجب من وقت لآخر مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر)، وكذلك المواقع الإخبارية، بما فيها موقع "بي بي سي"، علاوة على مراقبة المكالمات الهاتفية والرسائل النصية والبريد الإلكتروني.

أحلام القديس

كل تلك الأوضاع جعلت إحدى أهم الدول الإفريقية، ومقرّ الاتحاد الإفريقي، في وضع لا تحسد عليه؛ فهي الآن في مفترق طرق، إمّا أن تمضي في الإصلاحات الديمقراطية والحقوقية إلى النهاية، أو تتمزق أشلاءً، ولو بعد حين، فتعيين رئيس وزراء من إقليم أروميا، ينتسب إلى أبٍ مسلم، ونائب له من مسلمي إقليم أمهرا، لن يقدّم أو يؤخّر شيئاً، طالما ظلّت السلطات والمقدرات كلّها بيد نخبة (تيغراي) المتهمة بالقمع والفساد، فما لم تطلق الحريات وتبسط العدالة، وتبنّي  دولة للقانون، فإنّ هيمنتها على السلطة واحتكارها للثروة لن يكون وبالاً عليها فحسب، حيث إنّ الكلّ متربِّص بها؛ بل وعلى أثيوبيا برمتها. 

إلى ذلك، ما يزال الأثيوبيون ينتظرون زمناً ينتهي فيه الجور والظلم؛ حيث سيكون الغناء هادئاً، والرقص حالماً، والناس أقل جنوناً، إنّه زمن السينسكار والمرتل، القديس يارد، الذي لا يأتي إلّا في الحلم.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية