عودة روسيا العظمى عبر بوابة القرن الإفريقي

روسيا وإفريقيا

عودة روسيا العظمى عبر بوابة القرن الإفريقي


15/04/2018

خلال فترة الحرب الباردة كان القرن الإفريقي أحد المناطق الأكثر سخونة في تنافسية النظام العالمي الثنائي القطبية. وتلا ذلك فترة ما بعد الحرب الباردة، الذي أفسح فيه تفكك المعكسر الإشتراكي المجال أمام الولايات المتحدة للهمينة على قضايا المنطقة، والتفرد بسياسات ما سمته "الحرب على الإرهاب".
يرى الدارسون لسياسة روسيا الخارجية أن تحولاً قد طرأ في مفهوم السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين، وأنها بدأت الظهور كقوة عظمى في إفريقيا مرة أخرى. يتضح ذلك من ارتفاع تجارة روسيا مع أفريقيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة. كما تشارك قوات روسية في عمليات حفظ السلام في أفريقيا، فضلاً عن أن روسيا لم تعد تقتصر على إمداد السلاح للدول التي يحظر عنها الغرب، مثل السودان وإرتريا، بل أدت التطورات الأخيرة في خليج عدن والبحر الأحمر إلى أن تبدي روسيا اهتماماً بإنشاء قواعد عسكرية في القرن الإفريقي، مما يشير بحجم التحول في السياسات الخارجية الروسية تجاه إفريقيا.

فترة الحرب الباردة
لم تجد روسيا القيصرية مكاناً في السباق الاستعماري على افريقيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها بدلاً من ذلك، وجدت فرصة في دعم النضال من أجل التحرر الوطني، من خلال دعم المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، الذي  اعتبر حركات التحرر الوطني، وقتذاك، متصلةً بالنضال العالمي المناهض للإمبريالية.

يرى الدارسون لسياسة روسيا الخارجية أن تحولاً قد طرأ  في عهد بوتين، وأنها بدأت الظهور كقوة عظمى في إفريقيا

بدأ النمو الكبير والسريع لعلاقات موسكو مع البلدان الأفريقية في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، عندما كانوا يحققون الاستقلال الوطني. وقدمت حركة عدم الانحياز زخماً لتشجيع المجتمعات الأفريقية على الاستقلال، وبالتالي، أظهر الاتحاد السوفياتي دعمه لقرارات مؤتمر باندونغ (1955) باعتبارها مناهضة للإمبريالية ومناهضة للاستعمار.
وفي فترة خلال الحرب الباردة، أعطت موسكو وزناً كبيراً لأفريقيا من حيث المنافسة العالمية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق، استخدم الاتحاد السوفياتي المساعدات العسكرية باعتبارها أكثر الوسائل فعالية لكسب النفوذ والتعاون. ففي عام 1962 ، منحت موسكو 32 مليون دولار للصومال من أجل رفع أفراد الجيش إلى 14000 وتحديثه. وفي عام 1965، قدم الاتحاد السوفييتي مساعدة تقنية وعسكرية لبناء البحرية الصومالية، وجاء ذلك في فترة كانت تفرض الدول الغربية قيوداً صارمة على الصومال من أجل منع تأسيس جيش صومالي قوي، خشية مطالبته بالأراضي الصومالية الملحقة بالجارتين؛ إيثوبيا وكينيا.
إتساقاً مع ذلك، قدم الاتحاد السوفيتي مساعدات  للقوات المسلحة الوطنية الإثيوبية. كما لعب الزعيم الاشتراكي منغستو هيلي مريم دوراً نشطاً في تعزيز المساعدات على إثيوبيا. ففي عام 1976 تم توقيع اتفاق عسكري سري بقيمة 100 مليون دولار بين الجانبين. كما تم تدريب ما يقدر بنحو 20 ألف إثيوبي في الاتحاد السوفييتي، وتخرج الآلاف من المدارس العسكرية والسياسية الروسية. وفي عام 1977، أوقفت الولايات المتحدة كل مساعداتها العسكرية لإثوبيا، وانسحبت منها، مما أفسح المجال للسوفيت التفرد على شؤون القرن.
من الحرب البادرة إلى الحرب على الإرهاب
لعبت الصراعات بين الصومال وإثيوبيا دوراً مهماً لموسكو لتحديد سياساتها حول هذه البلدان. ففي البداية، دعم الاتحاد السوفياتي الدولتين المتنافستين، الصومال وإثيوبيا على حدّ سواء. وفيما يتعلق بهذه المنافسة الجيوسياسية، حققت الكتلة الاشتراكية نتائج مهمة. ومع ذلك ، فإن حرب أوغادين بين الصومال وإثيوبيا غيرت التحالفات في المنطقة، بعد أن تدخلت الصومال عسكرياً في إيثوبيا، وكان من نتيجة ذلك أن أمر الاتحاد السوفيتي بتدمير الجيش الصومالي، مستخدماً حلفاءه في اليمن الجنوبي وكوبا.
بعد ذلك، تحولت الصومال إلى المعسكر الغربي، وبدأت  الولايات المتحدة تقدم مساعادتها للصومال، في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي وكوبا يساعدان إثيوبيا. وانتهى الأمر بسقوط النظامين العسكريين في كل من الصومال وإيثوبيا، في مطلع التسعينات. وتزامن ذلك بتفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة.

من وسائل القوة الناعمة الروسية، إعفاء الديون التي لم تستطع البلدان الأفريقية استردادها بقيمة 16 مليار دولار

لم يفقد القرن الإفريقي أهميته الجيوستراتيجية بعد انتهاء الحرب الباردة بأي حال من الأحوال، لكن الولايات المتحدة لم تلحظه فعلياً. واقتصر تفاعلها مع ملفات القرن على محاربة "الإرهاب" بالأساس، وتزايد ذلك عقب تدخلها الفاشل في الصومال في عام 1993، وتفجيرات أغسطس عام 1998 للسفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا من قبل القاعدة، وكان تركيز الولايات المتحدة حينها منع أن يصبح الصومال مكاناً يلوذ به زعماء القاعدة.
وبعد هجمات 11 سبتمبر، أعطت الولايات المتحدة الأولية في سياساتها تجاه القرن الأفريقي، محاربة ما يسمى "الإرهاب"، وبذلك انتهت التصورات الأمنية للحرب الباردة، وأصبحت حجة مواجهة "الإسلام المتطرف" هي التهديد الجديد والمحرك الأساسي للسياسات الأمريكية تجاه القرن.

عهد بوتين
على الرغم من اختفاء مكانة روسيا العظمى بعد تفكك الإتحاد السوفياتي، إلا أن هناك إجماعاً ملحوظاً أن روسيا كانت، وما زالت، قوة عظمى على الساحة العالمية بسبب وضعها الجيوسياسي وموارد الطاقة الغنية والقوات المسلحة ذات القدرات النووية، فضلاً عن عضويتها الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وفي المقابل، ارتفعت مكانة إفريقيا في النظام الجيوسياسي الدولي بشكل كبير، منذ نهاية الحرب الباردة، وخاصة خلال العقد الماضي. وفي حين تم إيلاء اهتمام كبير للدور الناشئ للصين، والهند، والقوى الجديدة الأخرى في إفريقيا، لم يلحظ إلا نزر قليل من الدراسين العودة الروسية إلى مسرح نشاطها في الحرب الباردة.
يمكن اعتبار تطوير العلاقات القوية بين روسيا  وأنظمة القرن الإفريقي، خصوصاً إرتريا والسودان وإلى حد ما الصومال، تحدياً لإعادة التأثير الجيوسياسي في منطقة البحر الأحمر / قناة السويس الحرجة كما كان الحال في تنافسية الاتحاد السوفييتي الأمريكي في خلال الحرب الباردة. وبمعنى أدق، فإنّ هدف السياسة الخارجية طويل الأمد لموسكو هو نظام دولي متعدد الأقطاب يرمي إلى مواجهة التأثير غير المقيد للقوى العالمية في أفريقيا، وخاصة الولايات المتحدة والصين.
تستخدم روسيا في علاقتها مع أنظمة القرن الإفريقي الفيتو الروسي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإعتباره القوة الرئيسية لروسيا في الشؤون الدولية، وتدعم موسكو تلك الأنظمة في مجلس الأمن من خلال تصويتها ضد فرض العقوبات وحظر الأسلحة عليها.

بوتين والبشير

وبالمعنى ذاته، تعتبر روسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة، وتستخدم بيع الأسلحة كنقطة انطلاق في سياستها الخارجية. وقد استخدمت موسكو هذا النموذج من تصدير الأسلحة في العديد من البلدان الأفريقية مثل السودان وإريتريا. وفي 19 أبريل 2016، عقد رئيس الوزراء الصومالي السابق عمر عبد الرشيد علي شرماركي اجتماعاً ثنائياً مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. وطلب مساعدة روسية لتعزيز قدرة الجيش الصومالي على القتال ضد حركة الشباب.
بالإضافة إلى التعاون العسكري الروسي مع السودان وإريتريا في منطقة القرن الأفريقي، اتفقت روسيا مع مصر باستخدام قواعدها العسكرية، وهي حليف قديم آخر للاتحاد السوفييتي. ونظراً للأثر المتصاعد للقوات العسكرية الروسية في سوريا بالتعاون مع القوات المسلحة المصرية والسودانية والإريترية، يتضح أنّ روسيا في طريقها إلى بناء وجود قوي في قناة السويس والبحر الأحمر.

رئيس الوزراء الإثيوبي السابق يستقبل وزير الخارجية الروسي

القوة الناعمة كبديل لتصدير الأيديولوجيا الشيوعية
إلى جانب بيع الأسلحة، تمثل المصالح الاقتصادية خاصة في الموارد الطبيعية الجزء الرئيسي من العلاقات بين روسيا ودول القرن الأفريقي. وفي هذا السياق، وقعت شركة الطاقة النووية الروسية - Rosa tom ومجلس الطاقة النووي الكيني مذكرة تعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وذلك في 30 مايو 2016، خلال المنتدى الدولي الثامن للطاقة النووية الذي عقد في موسكو. الأمر نفسه فعلته مع إثيوبيا، ففي زيارته الأخيرة إلى إثيوبيا دشن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافرورف مركزاً مشتركاً للتكنولوجيا النووية لتوليد الطاقة السلمية في إيثوبيا، في شهر مارس من هذا العام.

وزيرا خارجية روسيا وإيرتريا

كما تعتبر إحدى وسائل القوة الناعمة الروسية، إعفاء الديون التي لم تستطع البلدان الأفريقية استردادها في الحقبة السوفياتية، حيث أعفت روسيا ديوناً بقيمة 16 مليار دولار في عام 2008 عن دول إفريقية، وفي عام 2012 أعلنت مرة أخرى إلغاءها ديوناً بقيمة 20 مليار دولار عن بلدان إفريقية عدة.
وفي مجال التعليم، تلقى في الحقبة السوفياتية 50.000 أفريقي تعليمهم في الجامعات السوفيتية من الستينات حتى عام 1991 ، وأعطي 200.000 أفريقي مختلف أنواع التدريب في القارة. واليوم توفر روسيا تعليم أكثر من 8000 طالب أفريقي نصفهم يحصلون على منح دراسية كاملة. ومع ذلك، تعتبر المحاولة الروسية لاستخدام القوة الناعمة في المنطقة محدودة، مقارنة مع اللاعبين الدوليين الآخرين مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وحتى تركيا.

عودة القواعد العسكرية الروسية
وفقاً لتقرير صادر عن موقع fort-russ، أعلنت وزارة الدفاع الروسية في أكتوبر 2016 أنها تدرس عودة القواعد العسكرية الروسية إلى عدد من الدول بما فيها كوبا وفيتنام.
وفي القرن الإفريقي، أعلن الرئيس الإرتري إسياس أفورقي موافقته بناء قواعد بحرية وجوية روسية في ميناء عصب الجنوبي على ساحل البحر الأحمر. هذا الاتجاه الروسي إلى إفريقيا يوازي حصول روسيا على موافقة لإقامة قاعدة عسكرية في سوريا، حيث أقامت قاعدة جوية في حميم، كما وسعت ميناء طرطوس البحري لاستيعاب السفن الحربية الروسية الكبيرة.

خريطة القاعدة العسكرية الروسية ويظهر في قربها القاعدة العسكرية الصينية المقامة في جيبوتي

وفي الصومال، حيث يوجد إرث قديم للوجود العسكري الروسي من الحقبة السوفياتية، وهو القاعدة البحرية والجوية في بربرة في الصومال (صوماللاند حالياً). أشارت مؤخراً مصادر إخبارية عن نبأ محادثات روسية-صوماللاندية لإقامة قاعدة بحرية روسية في صوماللاند، تحديداً في مدينة زيلع المطلة على البحر الأحمر. وتشير ذات المصادر أن القاعدة ستضم 1500 جندي وتسمح بنيتها التحتية بخدمة مدمرتين وأربع فرقاطات وغواصتين. ويأمل الطرف الصوماللاندي حصوله على الاعتراف الدولي من قبل الروس مقابل هذه القاعدة العسكرية.

وفد روسي في صوماللاند

إذا حدث ذلك، فإنّ موسكو، التي اعترفت بزعامة فلاديمير بوتين الجمهوريات الانفصالية في الفضاء السوفياتي السابق، والتي لم تتوانَ عن تشجيع الحركات الانفصالية في أوروبا، سترسل إشارة قوية إلى أنها مستعدة لإعتراف جمهورية صوماللاند، التي انفصلت عن الصومال من جانب واحد في مطلع التسعينات.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية