كيلا تكون الاحتجاجات الشعبية زوبعة في فنجان

كيلا تكون الاحتجاجات الشعبية زوبعة في فنجان


10/06/2018

لا يختلف عاقلان على الأثر الإيجابي السريع الذي أحدثته الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في شوارع الأردن وميادينه، وقدح شرارة غضبه قانون الضريبة المعدل، وأشعلته النقابات، وتلقفه عموم الشعب، وبخاصة شبابه الغاضب المحتقن الذي يدافع عن حقه في العيش الكريم في بلد آمن معافى.

ولم يبالغ في التسمية والتوصيف من اعتبر الاحتجاجات ربيعاً أردنياً جديداً أثبت في غضونه الشعب حيويته ورقيّه وشغفه العميق بالحياة التي تليق بتطلعاته التي أرغمت الحكومة السابقة على الرحيل، وجاءت إلى الدوار الرابع برجل قريب من نبض الشعب، وخارج صندوق رؤوساء الوزراء، وخارج أعضاء نادي الطبقة السياسية التي خذلتها الظروف، أو خذلت نفسها بسسب عقم الرؤية والمنهج، وفقدان الشجاعة السياسية، وكثرة اللاعبين في الطبخة الحكومية، مما قاد البلد إلى هذه اللحظة الانفجارية الخطيرة.

الحراك الذي اشتعل كالنار في الهشيم، تلقفه الشباب في مختلف مناطق الأردن، وطوروا شعاراته التي لامست أحياناً سقوفاً مرتفعة تجاوزت ضريبة الدخل إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر وأعمق، ما يعني أن هذا الفيضان الهائج من الغضب الشعبي يتحرك بمحض إرادته الفطرية التي ترى في هذا الشعار أو ذاك خشبة النجاة من حالة غرق لا تتمناها أي بلد، ولا ينشدها أي شعب.

لم يبالغ في التسمية من اعتبر الاحتجاجات ربيعاً أردنياً جديداً أثبت فيه الشعب حيويته ورقيّه وشغفه العميق بالحياة

وبدا أنّ الاحتجاجات تتحرك بقوة الدفع الذاتي، بعيداً عن النقابات التي أشعلت الشرارة، وفي منأى كليّ عن الأحزاب والهيئات المنظَّمة التي تخطاها الشباب لإحساسه بعقم منهجها وتراخيها وانفضاض الناس من حول خطابها الخشبيّ.

بيْد أنّ قوة الدفع الذاتي لا تكفي لجعل الحراك مستمراً، ويخشى، وهذا متوقع بشدة، أن يخفت الحراك ويتلاشى، فتصبح "الثورة" في حجم هبّة، وتصبح الشعارات البعيدة المدى بلا رصيد شعبي يحملها ويدافع عنها في المدى القادم.

اقرأ أيضاً: احتجاجات الأردن: صحوة المجتمع المدني في مواجهة الفساد والإقصاء

بمعنى أكثر وضوحاً، بدا الحراك الأخير وكأنه بلا رأس، ولا برنامج، ولا رؤية إستراتيجية، وهذا أمر يبعث على القلق، لأنّ الشباب الذي قدّم نموذجاً خلاقاً في الاحتجاج السلمي المدني، يتعين أن يواصل المسيرة. ولا يعني ذلك أن يظلوا في الشوارع والميادين، بل أن يتنادوا إلى الانخراط في تكتلات وهيئات وأشكال تنظيمية تستأنف الرقابة على أداء الحكومة وهيئات الدولة المختلفة والمجتمع أيضاً، وتعمل على توليد أدوات سياسية شبابية مبتكرة تخرج من حيز الاحتجاج الوقتي، وتواصل مدّ الحراك ليشمل برامج وخطط تعكس حيوية المجتمع، وتتخطى النظم التقليدية للعمل السياسي، وتشتق نموذجها الخاص الذي يشكل ضمانة أساسية للمعارضة السياسية الراشدة التي تعمل على إسناد الحكومة وإنجاح برنامجها.

وتأتي هذه الحاجة الملحة بعد الخيبة السريعة والساحقة التي مُني بها "التحالف المدني" الذي ملأ الدنيا ضجيجاً و"زعبرة" ثم ذاب وتلاشى، بعدما أطعم الناس جوزاً فارغاً، وراهن الكثيرون عليه لملء الغياب الفادح للأحزاب، ولدفع الحياة السياسية إلى الرقي والتقدم.

بدا أنّ الاحتجاجات تتحرك بقوة الدفع الذاتي بعيداً عن النقابات التي أشعلت الشرارة وفي منأى كليّ عن الأحزاب

يعلم الكثيرون أنّ مؤسسات عديدة في الأردن، عملت عبر عقود طويلة على تجريف الحياة الحزبية، ومارست قهراً منقطع النظير ضد الأحزاب المعارضة وكان غالبيتها من الأحزاب اليسارية، في مقابل احتضان بلا حدود لجماعة الإخوان المسلمين الذين آجروا مع أجهزة الدولة في محاصرة تلك الأحزاب والتضييق عليها، بذريعة نزعتها اللادينية، وهي ذريعة أقبح من ذنب صدقها كثيرون وما زالوا يلوكونها حتى الآن.

إذا عاد الحراكيون إلى منازلهم بعد تشكيل الحكومة، وانخرطوا في حياتهم العادية السابقة، ولم يبدأوا حواراً وطنيا شاملاً لا يستثني أحداً لتشكيل جسم سياسي مبتكر، فإنّ النظر إلى احتجاجاتهم لن يكون أكثر من زوبعة في فنجان، ولن نذهب مذاهب المؤامرة فنقول إن أجهزة الحكومة والدولة وقوى الشدّ العكسي هي المستفيدة الأولى من ذلك، لكننا نخشى هذا المصير الذي تدلّ عليه مؤشرات كثيرة، ونفكر بصوت عالٍ لدفع عجلة الأفكار الخلاقة إلى الأمام.

الأحزاب التقليدية صارت منزوعة الشعبية وهي في أحسن أحوالها جزء من الذاكرة التي تقيم في المتحف

الأحزاب، على اختلافها، ليست قادرة على ملء الفراغ السياسي الراهن، والمعارضة الحزبية الحالية ليست أكثر من معارضة لفظية يتجلى دورها "البارع" فقط في إصدار البيانات، وبعض تلك الأحزاب لا يتورع عن الإشادة بالطغاة الذين يقتلون شعبهم بالبراميل المتفجرة، وكذلك بالزعماء الدينيين الذين يرون فيهم، لا سيما الوليّ الفقيه، لينينَهم الذي يتلو عليهم مزاميره المقدسة!

هذه الأحزاب صارت منزوعة الشعبية، وهي في أحسن أحوالها جزء من الذاكرة التي تقيم في المتحف، وهذا أمر محزن بلا ريب.

اقرأ أيضاً: لماذا غاب الإخوان المسلمون عن الحراك الشعبي في الأردن؟

مستقبل المعارضة السياسية، بكتلتها الشبابية الوازنة، ما زال مسربلاً بالغموض، وإن لم يتناد الناشطون المؤثرون أصحاب الريادة الذين شاهدناهم في الاحتجاجات الأخيرة إلى جمع شمل هذا الغضب وتأطيره وتحويله إلى برامج وخطط وإستراتيجيات، فسيبدو ما جرى في "هبّة أيار" المجيدة ندهة في واد غير ذي زرع، وسنعود في كل مرة تتغول فيها الحكومات على الناس إلى التجمع العفوي، فنصرخ ونشجب، ثم نعود القهقرى إلى منازلنا، كما يعود القطيع آخر النهار إلى حظائره، يجرجر أذيال الخنوع والطاعة السقيمة..!

الصفحة الرئيسية