هل استخدم "داعش" سلاح الرعب اقتداء بالنبي عليه السلام؟!

هل استخدم "داعش" سلاح الرعب اقتداء بالنبي عليه السلام؟!


19/06/2018

على طريقة كلّ التنظيمات المتطرفة التي عُرفت تاريخياً، استلهم تنظيم داعش تراثاً فقهياً متقادماً في تسويغ أعماله الإجرامية، معتمداً فكرة الانتقائية والتأويل المتعسف، لكن هل يبدو هذا التفسير كافياً أو مقبولاً بالفعل؟

إنّ مواجهة صريحة مع العديد من النصوص التي اعتمدها "داعش" في تسويغ أفعاله تقول الكثير والمثير معاً.

فهم مريض

اعتمد "داعش" في تبرير سلسلة من الأعمال الوحشية؛ كالنحر والحرق والتغريق، وغيرها من صور القتل الشاذ، على فهمه لمفهوم النصر بالرعب الذي اعتمد على فهم الحديث النبوي الشريف بالصحيحين، الذي يقول، كما في مسلم والترمذي وأحمد: "فُضلت على الأنبياء بستّ: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحّلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون".

اقرأ أيضاً: أحمد بان: جماعة الإخوان شرعَنت العمليات الإرهابية

يبرز هنا سؤال: هل النصر بالرعب أن يقذف الله الرعب في قلوب أعداء النبي، عليه السلام، دون أن يعلموا من أمره شيئاً أو يطلعوا على مصادر قوته، أو سلوك جيشه، هو محض عطاء وتأييد إلهي لدعوة ناشئة مستضعفة تستحق دعم السماء بالمعجزات والأمور الخارقة؟ بمعنى أوضح: هل هو أمر عام في أمته من بعده يبقى مجرد تدبير إلهي يستمطر بالدعاء والاستقامة على أمر الله، أم ثمرة أفعال "وحشية" تحدث إثر الرعب المطلوب؟

اعتمد "داعش" في تبرير أعماله الوحشية على فهمه لمفهوم النصر بالرعب الذي اختص بالنبي الكريم

يجيب ابن باز عن هذا السؤال، فيقول: "إنّ الأمر على ظاهره، وإنّ الله، جلّ وعلا، يلقي في قلوب أعدائه الرعب، "نصرت بالرعب مسيرة شهر" قول النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم عنه بعيدون مسافة شهر، كالشام عن المدينة والعراق ونحو ذلك، ينصره الله عليهم بالرعب فإذا وصل إليهم إذ الرعب قد تمكن منهم، وكان ذلك من أسباب نصره عليهم، ومن أسباب خذلانهم وانخلاع قلوبهم عن المقاومة، وهكذا في أمته ليس خاصاً به، صلى الله عليه وسلم، فأمّته المستقيمة على دينه، والصابرون على دينه، والمقيمون لشريعته، ينصرهم الله كما نصره، ويلقي في قلوب عدوّهم الرعب مسافة شهر كما نصره؛ لأنّ هذا من جملة خصائصه، التي هي له ولأمته، فمن استقام على دينه وجاهد في سبيله، ابتغاء مرضاة الله وإعلاء كلمته، فالله ينصره ويؤيده ويلقي الرعب في قلوب عدوه مسافة شهر".

شرط الاستقامة

ورغم أنّ الفتوى أكدت أنّ شرط النصر بالرعب هو الاستقامة على نهج النبوة، فلم تأتِ على ذكر شيء ممّا فعله "داعش" أو غيرها من التنظيمات من أعمال شاذة ووحشية، بافتراض أنّ تلك الخصيصة ليست مما اختص به النبي عليه السلام دون الأنبياء عليهم جميعا السلام، أو دون أحد من أمته، وهو أمر يبدو مخالفاً لمعنى الحديث الذي يعدد أشياء اختص بها الله نبيه محمد عليه السلام.

اقرأ أيضاً: صفحات مجهولة من حياة سيد قطب

كان المسلمون في كثير من المواضع والمواقع في مقام المدافع عن الحق، وكان الكفّار دائماً في مقام البغي والظلم، فكان هذا الرعب عوناً قدرياً من الله، هيّأه لنبيه، صلى الله عليه وسلم، وقد ذكِرت هذه الكلمة في القرآن الكريم ثلاث مرات.

الأولى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}، بعد هزيمة المسلمين في أُحُد، في أعقاب خروج المشركين من مكة، وشنّهم الهجوم على الإسلام وجماعته في المدينة، وقد تكبّد المسلمون في تلك الغزوة خسائر كبيرة، كان منها استشهاد حمزة، عمّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وغضبه لذلك، وقد خلّف الأمر في نفوس المسلمين حسرة وألماً شديداً، فأراد الله أن يواسيهم ويربط على قلوبهم، ويبشّرهم بأنّ الجولة القادمة ستكون لهم بمدد إلهيّ، وعون منه.

كثير من مفاهيم الدين يجب أن تحرر بشكل صحيح وأيها كان تاريخياً ومرتبطاً بالنبي عليه السلام

أما المرة الثانية: فكانت عندما خان يهود بني النضير عهدهم، وحاولوا اغتيال النبي، صلى الله عليه وسلم، فجرّد حملة لتأديبهم، لكنّ القوم، ودون قتال، حلّ بهم الفزع، وقرروا الجلاء عن المدينة: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار}.

أما المرة الثالثة؛ فعندما أحاطت أحزاب الكفر والبغي بالمدينة، تبغي هدمها على من فيها، وأعلنت حصاراً خانقاً عليها، وكان يهود بني قريظة قد أعطوا عهداً من قبل على العيش مع المسلمين بسلام، وأقرّ رئيسهم أنّه لم يجد من النبي عليه السلام إلا خيراً، ومع ذلك انتهز الفرصة التي سنحت، وأعلن حرباً غادرة مع الكفار، طمعاً في الغنائم، فكان المدد الإلهي، يقول تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}.

الفهم الصحيح

كل تلك المواضع القرآنية، كانت في مواقف تعرضت فيها الجماعة المسلمة لخطر الفناء والاستئصال، في وقت كانت فيه من الضعف والهوان ما يجعل الأمر ممكناً بقوانين الأسباب، لكن تلك الجماعة التي يصوّب خطاها نبيّ مؤيَّد بوحي السماء، ما كانت لتُترَك لتلقى هذا المصير عارية من دعم الخالق القويّ المتين، فألقى الله الرعب في نفوس أعداء دينه، فوحده تعالى هو الذي أضحك وأبكى، وأغنى وأقنى، وأمّن وخوّف، فهو المالك لقلوب أعدائه.

إذاً، الفهم الصحيح لقضية الرعب: أنّها كانت دعماً إلهياً، في وقت عاصف لنبيه، صلى الله عليه وسلم، إرساءً لدعائم دعوة الحق، خصيصةً نبويةً له، صلى الله عليه وسلّم، ليست لأحد من خلقه، فقد جعل الله سنة الأسباب ماضية، من أخذ بها خدمته وحققت مراده، ومن تجاهلها طوته الأيام ومضت.

لم يستخدم "داعش" سلاح الرعب اقتداءً بالنبي بل يبدو الأمر في حقيقته خلطاً تسبب فيه الفقه

إنّ كثيراً من مفاهيم الدين يجب أن تحرر بشكل صحيح، ما كان تاريخياً ومرتبطاً برسوله، صلى الله عليه وسلم، وخاضعاً لتقدير الله في وقته شيء، يبقى كذلك، وما جرى بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم، شيء آخر، فكلّ تشريع يتعارض مع القواعد الكلية للدين ومقاصده لا يصحّ.

لم يستخدم "داعش" سلاح الرعب اقتداءً بالنبي، عليه السلام؛ بل يبدو الأمر في حقيقته خلطاً تسبب فيه الفقه، الذي خرج من الأمر من نطاق كونه دعماً إلهياً للنبي وجماعته ودينه الناشئ، إلى جعله خصيصة ماضية في حقّ أمته، تعبر الزمان والمكان، وهو مزلق تاريخي كان الحاضنة للعديد من المفاهيم التي لم يمتلك فقهاؤنا الشجاعة لتحرير حقيقتها؛ هل هي تاريخية أم تشريعية؟ وهل هي خاصة بالنبي أم عامة في أمته؟ لأنّ كلّ تأخير في إنجاز هذا الفقه الجديد يبقي الباب مشرعاً أمام "داعش" وغيرها، أن تستلّ من بطون الفقه ما تشاء، وتشرعن أعمالها الإجرامية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية