الكائن الرقيق يمكن أن يدوسنا؟

الكائن الرقيق يمكن أن يدوسنا؟

الكائن الرقيق يمكن أن يدوسنا؟


15/06/2023

بنموّه الجسدي والنفسي والعقلي يخطو باتّجاه النضج. عواطفه متّقدة، ممتلئ بطاقة الحياة، يضفي المثاليّة على أفكاره وقيمه، باحثاً عن المثل الأعلى الذي يقتدي به، وخياله الواسع يجعله يؤمن بأنّ لا شيء مستحيل، وبإمكانه فعل أي شيء، وأن يكون كما يشاء؛ ذكيّ ومغامر وحساس، إنّه المراهق، وقد وصل للمرحلة الأخيرة من مراحل طفولته. هذا الكائن الرقيق ندعوه نحن الكبار بـ"القنبلة الموقوتة"، ونسمّي المرحلة التي يمر بها بـ"الخطيرة". ما الذي أضفى الخطورة على هذه المرحلة، والتي هي امتداد طبيعي لمراحل النمو التي سبقتها؟

اقرأ أيضاً: لماذا ننجب؟

تبدو هذه التّسمية صحيحة واقعياً حين لا ينفصل الطفل في مجتمعاتنا عن كونه مُلكيّة خاصة، وهو بهذا الاعتبار يجب ألّا يخرج عن هذه الجغرافية الاجتماعية، التي تعتبر الحدود نقطة التعيّن الوحيدة للوجود، فتنشأ العلاقة على أساس مُسيطِر ومُسيطَر عليه، وضمن هذا التأطير التسلطي لا تقتصر المعاناة مع الطفل على مرحلة المراهقة فقط، ففي كل مرحلة من مراحل نمو الطفل سيجد الوالدان ما يعانيان ويتذمران منه، ولكن المعاناة تكبر والتذمر يزداد في هذه المرحلة بالذات، حتى الوصول لاعتبارها مرحلة خطيرة؛ لأنّ الصغير قد كبر؛ فالسلطة التي كانت تقمع "اللا" خاصته وهو في مراحل نموه الأولى ("لا"هي إحدى متطلبات عملية النمو النفسي والميل نحو الاستقلالية مقابل الاعتمادية والتبعية) ويرضخ لها، أصبح بإمكانه الآن أن يقول "لا"، ويتمرد على هذه السلطة التي تحاول قمعه وعرقلة نضجه.

الجغرافية الاجتماعية تعتبر الحدود نقطة التعيّن الوحيدة للوجود فتنشأ العلاقة على أساس مُسيطِر ومُسيطَر عليه

النضج الذي ينتظره الجميع من المراهق، يقف الجميع ضده بطريقة مواربة، ضمن معجم اجتماعي لا يحمل في تضاعيفه سوى الإدانة والنكران (إنهم قنابل موقوتة، لا يمكن التفاهم معهم، علاقتنا معهم في صراع مستمر، فقدنا السيطرة عليهم، إنهم مصدر قلق، تحولت العلاقة بيننا إلى تهديد وابتزاز). بالنظر إلى مفردات المعجم السابق، لن نرى فرقاً بينه وبين مفردات الحرب، فهل نحن في حالة حرب مع المراهق؟ نعم. إذ إنّ الحرب في النهاية هي العجز عن تشكيل لغة مشتركة خاضعة للعقل والحوار، منطق القوة والهيمنة هو فقط من سيُملي شروطه بين الطرفين. نحن هنا نبتعد عن مفاهيم التربية التي تستهدف الإنسان، وننحط إلى علاقة تقوم على الإكراه والنفي بيننا وبين أطفالنا.

اقرأ أيضاً: زوّادة التعصب: هدر مشاعر أطفالنا

من نصفهم بالقنابل الموقوته، ينظر لهم "روسو" على أنّهم "المجددون للإمكانيات الأخلاقية في المجتمع، يمكن أن نتوقع منهم أن يقاوموا الماضي ويؤكدوا أنّهم مختلفون عن الجيل الراشد، ولكنهم يتطلعون في الوقت نفسه إلى احترامنا، وحتى إلى الاقتداء بنا، لو كان ما نقدمه لهم منسجماً مع طموحاتهم الأخلاقية". وهذا ما جعله يدعو الأهل والمعلمين والقادة السياسيين والدينيين، أن يفكروا فيما إذا كان ما يمثلونه وينقلونه على اعتباره قيماً ومثلاً اجتماعية، سينفخ روح الفضيلة في الشباب، أو أنه سيشجع تلك الانحرافات في التخيل وكمال الذات. لقد وضع "روسو" يده على الجرح، فعندما يطرح المراهق أسئلة على نفسه مثل:"هل تجد طموحاتي الشخصية مكاناً لها في المجتمع؟ كيف سيمتزج مستقبلي الشخصي بمستقبل العالم الذي أعيش فيه؟ هل هناك شيء خارج أو وراء حياتي الشخصية اليومية يمكن أن أؤمن به؟ هل هذه المعتقدات تستحق الاعتبار؟ هل يمكنني التعويل عليها؟، هذه الأسئلة لو تم إطلاقها بفضاء من الحرية يكمن جوهره في الاستماع والاهتمام، لتمكنا من الإصغاء لكائنات حية فتية تبحث عن شيء ما أكبر من الوجود اليومي العادي لوجودنا، إنّها تبحث عن المثاليات والقيم التي يمكن  أن تُخلص لها. بتعبير لويز.ج كابلن في كتابها وداعاً أيتها المراهقة.

الحرب في النهاية هي العجز عن تشكيل لغة مشتركة خاضعة للعقل والحوار فيسيطر منطق القوة والهيمنة

المثل الأعلى يصبح ملحّاً في مرحلة المراهقة لا تواصلياً كاتخاذ المراهق "لاعب رياضي أو ممثل أو عارضة أزياء" مثلاً أعلى له، وتواصلياً "واقعياً أو افتراضياً" وهو الأهم، حيث لا يمكن لأحد أن يستأثر بهذه المنزلة إذا لم يعترف ويحتفل بوجود المراهق كما هو، ويصغي إليه ويفسح له أن يعبر عن أسئلته ومشكلاته. وهذا الدور غالباً ما يتناقض مع دور الوالدين الذي يفتقد لأي معرفة علمية؛ فالتطور المتباين لمناطق الدماغ عند المراهق، وخاصة تأخر نضوج الناحية الأمامية من القشرة المخية في الفص الجبهي، وهي مركز التفكير واتخاذ القرارات المنطقية، لا يعني أبداً أن نفكر ونتخذ القرارات عنه، ونقذف العلاقة معه إلى خانة الحرب والإلغاء، ضمن تصورات مأزومة عن المراهقين أنهم بتعبير "كابلن" "سيدوسوننا وهم ينطلقون بسرعة إلى مجراتهم الجديدة، فنبدأ محاولاتنا بتقييدهم وعزلهم في شرنقة الأسرة، والإصرار على صوغ أجسادهم على غرار صنفنا الرجولي أو النسوي، وتلقينهم القوانين القبلية والتأكد من ركوعهم أمام سلطتنا".

بدءاً بالوالدين وانتهاءً بالمجتمع بجميع سلطاته يستشرس الجميع لإعادة المراهق إلى داخل الحظيرة

بدءاً بالوالدين وانتهاءً بالمجتمع بجميع سلطاته، الجميع يستشرس لإعادة المراهق إلى داخل الحظيرة؛ فالأسرة تريده كما رسمت له أن يكون، والسلطة السياسية أو الدينية تعمل على أدلجته وصبّه في قوالب جامدة، ولا يتوقف الأمر على ذلك، فالطفل الذي تناصبه العداء أقرب حلقة إليه، ويلامسه حس الاغتراب لأول مرة في حياته، من السهولة أن يتم استغلاله واستمالته والتغرير به من قبل أفراد أو جماعات، وهذا يفرز أزمات كبيرة وإضافية في مجتمعاتنا، أخطرها الآن الزواج المبكر للفتيات، وانضمام الفتيان للتنظيمات الإرهابية.

اقرأ أيضاً: "اللحم لك والعظم لنا" توصية تتلقفها المدارس بحفاوة!

كثيرة هي الدراسات والبحوث والكتب التي تناولت مرحلة المراهقة، وليست ببعيدة عن متناول الوالدين، فتقريباً لم يعد هناك بيت لم تدخله التكنولوجيا، ولا يحتاج الأمر سوى نقرة إصبع داخل أجهزتهم، وتخصيص وقت صغير من الوقت الكبير الذي يقضونه في التصفح على مواقع النت، ليتعرفوا إلى كيفية التعامل مع أطفالهم المراهقين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية