قناة "الجزيرة" القطرية: هل يصلح الخطاب الثابت في الأزمنة المتغيرة؟

قناة "الجزيرة" القطرية: هل يصلح الخطاب الثابت في الأزمنة المتغيرة؟


10/12/2020

يبدو أنّ خطاب قناة "الجزيرة" الإعلامي منذ تأسيسها، تحت ستار دعم الحريات وقيم الديمقراطية والرأي والرأي الآخر، أثبت أنّه يهدف إلى تفتيت الجسد العربي يتجاوز فكرة الانتماء للوطن، وتغيير الخريطة السياسية للمنطقة برمّتها، ومصادرة القرار السياسي لقوى مربوطة بخيط هذه الإمارة الصغيرة، ومعلقة في فضاء قناتها، وفق ما تحدث عنه خبراء في الإعلام، رأوا أنّ عملية "الاغتراب" أو "الاستلاب" على مستوى الخطاب الإعلامي لهذه القناة، تجاوزت المعقول، وأصبحت الآن تحطم إمكانية بناء الثقة بين الوطن والمواطن من جهة، وبين الفرد والمجتمع، وحتى بين "الذات" و"الآخر" من جهة أخرى، وهو في النهاية خطاب ثابت واحد في أزمنة متغيرة، له عدة ملامح.

الشأن القطري خط أحمر

عادة ما تنفي قناة الجزيرة أنّها تعبر عن سياسة دولة قطر، إلا أنّ الحقيقة تكشف أنّ أداءها ما هو إلا انعكاس لدور الدوحة، التي تدعمها منذ أول وهلة لبثّها، عبر منحة مالية بمقدار (150 مليون دولار) ثم قرار بدعمها بمبلغ (300 مليون دولار سنوياً)، بلغت العام 2010 مبلغ (400 مليون دولار)، وأخيراً وصلت إلى مليار دولار اعتباراً من العام 2010، بشرط أن لا تتعرض للشؤون السياسية للدوحة، كما ورد في كتاب (أسرار قناة الجزيرة والثورات العربية حقائق صادمة ومثيرة)، نقلاً عن مجلة "الإيكونوميست".

أثبت خطاب الجزيرة وفق مراقبين أنّه يهدف إلى تفتيت الجسد العربي وإفراز جيل يتجاوز فكرة الانتماء للوطن

فالمنطق أن يكون الشأن القطري على قمة أولويات قناة الجزيرة، ذلك أنّ للإعلام دوراً مهماً في الرقيّ بمستوى الدول وفي تحقيق قدر من الرقابة والشفافية، ولكن منذ أنشئت القناة لم يحدث أن تعرضت في أي من برامجها إلى ما يحدث في قطر، كأنّ الدوحة تحولت إلى جنة حقيقية على الأرض؛ حيث العدالة والحرية وتكافؤ الفرص والمساواة وتوزيع الثروات، وحيث لا يوجد مشكلات تحتاج إلى أن يهتم بها إعلامها.

اقرأ أيضاً: المشاهد العربي يطوي مرحلة "الغفلة الإعلامية" لقناة الجزيرة

وفي كتابه "تحليل الخطاب الإعلامي: أطر نظرية ونماذج تطبيقية" يشير أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، الخبير محمد شومان، إلى أنّ هنالك تضارباً واختلافاً بالمفاهيم والأطر النظرية الخاصة بتحليل الخطاب، لكنه عموماً يعتمد على علوم ومناهج اجتماعية عدة، بفك تشابك الأنواع الأدبية، والخطابات الممزوجة في علاقة اختيارية في نظام الخطاب، كما يتعلق بتحليل التناص أيضاً بغرس العلاقات؛ أي كيف تؤدي التحولات التي تمر بها النصوص في انتقالها عبر سلاسل، إلى ترك آثار من شأنها غرس علاقات داخل النصوص، ومن هنا تتضح الصورة إلى أي مدى تكون الممارسة الإعلامية أحادية، وإلى أي مدى تكون مستقرة، كما يتبين "الاغتراب" والتضليل الذي تسوقه "قناة الجزيرة" في خطابها الإعلامي، الذي أسرت به ملايين المشاهدين العرب في مطبخها لصناعة خطاب الكراهية والحقد بين العرب بل بين الحكومة وشعبها، وفق شومان.

 

إعلام اختراع الحدث

يسير أسلوب الخطاب الإعلامي للجزيرة، وفق مراقبين للقناة، في خط واحد، وهو أنّ المس بقطر ممنوع، أما الباقون، حتى ولو بتقارير مكذوبة فهم غير مقدسين، طالما ذلك يخدم التوجهات.

على هذا فإنّ الإحاطة بالخبر من كافة جوانبه، والذهاب نحو مناقشة كافة التفاصيل المتعلقة به، وقد حافظت على ذات الأسلوب في تعاملها مع تغطية الأحداث في اليمن وليبيا ومصر، وحيث لم يكن هناك (حدث) يمكن تمطيطه والنفخ به، فأحلت القناة مكان (الإشباع الخبري)، إشباعاً من اللغة التحريضية والأكاذيب، وإن لم يكن هناك حدث بالمرة، جرى اختراعه، ومن ثم إشباعه بذات الأسلوب، فالمئات تصبح آلافاً، والآلاف عشرات الآلاف، ومن ثم الصراخ والصراخ، علّ أحداً يصدق.

تزعم القناة أنّها مستقلة ولا تعبر عن سياسة دولة قطر إلا أنّ الحقائق تنفي هذا الادعاء

يقول الباحث عبد النور اليمون، في مقال نشر على موقع "هسبريس" 8  كانون الأول 2010 بعنوان "المتلاعبون بالعقول" إنّه يمكن الافتراض استناداً إلى ما قدمته وتقدمه "الجزيرة"، أنّ المطلوب كان الوصول بالأكاذيب إلى استدعاء التدخل الغربي البشع الذي نجح في ليبيا، وهلّلت له على نحو ما تقدم، "فلسنا في جملة من يتوهمون أنّ في وسع الخطاب الإعلامي للقناة، وهو خطاب أيديولوجي أن يكون خطاباً "موضوعياً" و"محايداً" ومنزهاً عن أي انحياز، ولكن بين الحياد الكامل، والمستحيل، والانحياز السافر المفضوح، مسافة غير قابلة للاختصار، وهذا ما وضح بتغطية مفبركة قد تنسف جهود تلك الدول لأجيال أخرى متعاقبة، لا مقدس عندها لأي مقدس عند أي دولة أو جماعة إلا مقدس واحد هي دولة قطر، والنظام القُطري بضم القاف؟".

اقرأ أيضاً: الانحياز.. يخيّم مجدداً على خطاب "الجزيرة" بشأن اليمن

وهو ما ذهب إليه الكاتب المغربي مصطفى قطبي في مقال له نشر على موقع "مغرس" بعنوان "قناة الجزيرة من الأيديولوجية الإخوانية إلى تقسيم الدول العربية"، أنه بفضل الجزيرة صارت الدول العربية، الكل يعادي الكل، والكل لا يثق بالكل، وباسم الموضوعية والاحترافية، أعطيت الكلمة لكل المارقين والفوضويين والعبثيين والعملاء لا العلماء الحقيقيين، وأغلب المتفيهقين، الذين أطلوا علينا من الجزيرة، هم الآن إما معتقلون أو محاصرون أو مهمشون، موضحاً أنّه "على مدار الساعة تدعي الجزيرة وتكرس في العقلية العربية أنّ عدوهم الوحيد والأوحد هو إسرائيل ومفكريها الصهاينة ثم أنها تحارب التطبيع، في حين بفضلها استطاع متطرفو العالم شرقاً وغرباً أن يشيعوا فكرهم، ويلبسوا على الناس كافة الحقائق الإنسانية الفطرية السليمة، وبفضلها دخل كل عدو لكل ما هو عربي أو إسلامي لكل بيت أو كوخ".

تعتيم وتضخيم

سرعان ما سقط القناع عن وجه قناة الجزيرة، وأصبح أداؤها الإعلامي مثل لوحة فسيفسائية جديدة من تركيب للألوان عجيب وهجين: من التعتيم الكامل على ما يجري في بلد، إلى التشديد الكامل على ما يجري في ثان، إلى التحريض على نظام في بلد ثالث وهكذا دواليك، والضحية في هذا كله هي الرسالة الأصل؛ الخبر بذلك يتحول إلى موقف سياسي؛ بحجبه هنا وبتضخيمه هناك، بل هكذا يقع إنهاء الخبر من الأساس، وهذا ما يقوله مايكل وولف مؤلف كتاب "نار وغضب" في مقال له العام 2013 بعنوان ''حد الجزيرة''، مضيفاً أنّ الإعلام الأمريكي "لديه رغبة جامحة في "الجزيرة" ومراسليها؛ لأنها تستخدم الأساليب التي يستخدمها التلفزيون الأمريكي، والأهم من ذلك أنّها عملت كمصدر معلوماتي ثمين لواشنطن، وتفوقت في ذلك على المحطات الإعلامية الأمريكية نفسها، وقدمت معلومات قيمة من ساحات الحرب، والإدارة الأمريكية تطمح في أن تصبح الجزيرة محايدة بالمعنى الأمريكي، بحيث يقتصر عملها على نقل الرؤية الأمريكية للأحداث، وتعمل إدارة الجزيرة من أجل الوصول إلى هذه الغاية".

يجنب الخطاب الإعلامي للجزيرة التعرض لسياسة قطر ويستهدف آخرين منتقين طالما يخدم ذلك توجهات الدوحة

ويختم  بقوله: إن قناة الجزيرة في طريقها إلى أن تصبح جزءاً من ماكينة الأمركة ولا سبيل لنجاحها، كما يقول وولف، إلا بتحولها إلى أداة تعمل على تحويل المشاهد العربي بشكل مضطرد إلى مستهلك جشع ومتلق لا يفكر!

وفي القراءة التي قدمتها الكاتبة الفلسطينية دعاء الجيلاني لكتاب "الجزيرة وقطر خطابات السياسة"، لمحمد أبو الرب، تقول إنّ المرئي في النهاية ھو الشكل الخارجي للخطاب، وآلیات تشكیل الواقع المرئي ودور المرئي العالمي في تشكیل العلاقات الدولیة، "فالصور التلفزیونیة في الجزيرة لا تقدم الحیاة كما هي؛ بل تقدم ثقافة الهيمنة أو ثقافة المؤسسة"، مبينة أنّ من الآلیات التي یتم استخدامها في الخطاب صنع المقارنات بین رأیین في البرامج الحواریة أو الأخبار، وزیادة التشویش على بعض المتحدثین ونوعیة المدعوین الدائمین إلى القناة، "ومثال ذلك تكرار ظهور القرضاوي، وعزمي بشارة وآخرين، إضافة إلى آلیات التلاعب بالعقول من خلال اختیار المتحدثین سواء في النشرات الإخباریة أو البرامج للتعلیق على برامج معینة، فسواء أكان الضیف مؤیدًا، أو معارضاً لقضیة معینة، فهو مسخَّر لخدمة خطاب القناة".

قالب عاطفي مؤدلج

خلافاً لكل إعلام يدعي الموضوعية تعد العاطفة جزءاً أساسياً من قصة "الجزيرة"، بمعنى استغلال عاطفة الناس لبث صور كاذبة، وخطاب إعلامي معروف، وهذا واضح في القناة الإخبارية الناطقة بالعربية، أما بالنسبة للقناة الناطقة بالإنجليزية فإنها تطبق النموذج الأمريكي في الإعلام؛ حيث إنّ خسارة الهدوء تعني خسارة الموضوعية، وخسارة الموضوعية تعني أنّ النقاش وما يصدر على أنّه حقائق يغدو مجرد توقعات، مما يمثل ازدواجية في لغة الخطاب استناداً إلى المتلقي نفسه.

خلافاً لكل إعلام يدعي الموضوعية تعد العاطفة جزءاً أساسياً من قصة "الجزيرة"

تركز الجزيرة على إثارة الجمهور تجاه قضايا منتقاة، سواء محلية أو دولية، وإتاحة المجال للمشاهدين للمشاركة والتعليق عليها على اعتبار أنّ المرئي "منبر من لا منبر له"؛ أي أن يصبح المواطن العادي محللاً سياسياً من نوع ما، محتكماً في تحليله إلى دائرة عرض المرئي (الجزيرة) ومحيطها وليس دائرة الحدث ومحيطه الحقيقي، بالتالي فإنّ إتاحة "منبر لمن لا منبر له"، ليست سوى تصدير لتصور ساذج حول واقعة معينة، يراد من خلالها إثارة جمهور "المرئي، وإشغاله بوعي من قبل الوسيلة الإعلامية، من أجل تزويد ذهنية المتلقي بشحنات مخفّفة من الوجبات الأيديولوجية المعدة مسبقاً، لتحقيق أهداف الدبلوماسية القطرية المرسومة سلفاً.

اقرأ أيضاً: بن لادن: "الجزيرة" حجر الزاوية في هدم الأنظمة العربية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية