حضور الثقافة في انشغالات الدولة العربية الراهنة

حضور الثقافة في انشغالات الدولة العربية الراهنة


11/07/2018

يبدو أنّ قدرنا، نحن القابضين على جمرة ما نزعمه حقاً، أن نظل نطلق صرخاتنا في أودية ليست ذات زرع، حتى تتجرّح حناجرنا. لكننا لن نوقف الصراخ وتذكير النائمين أو الغافلين بما نعتقد أنه الصواب، والطريق الأقوم من أجل مجابهة الشر، ومقاومة فلول العتمة والبغضاء والكراهية.

مناسبة هذا الحديث الذي شكل صدمة لنا (الحقيقة أنه ليس بصدمة، ولكنه أمر غير متوقع) مبعثه بيانات الحكومة الأردنية الجديدة التي يقودها الدكتور عمر الرزاز.

إصلاح الثقافة والفنون يضاهي إصلاح الاقتصاد ومكافحة الفساد لأنّ تنمية العقول بألوان الفن يحفز على الارتقاء بالنفوس

وسبب الاستغراب أنّ هذا الرجل القادم من تجربة سياسية ثرية، ومن بيت ثقافي مرموق، لم يولِ، في برنامج حكومته، الثقافة أية شأن، بل إنه لم يأتِ على ذكرها إطلاقاً، رغم أنّ أباه منيف الرزاز واحد من أبرز المفكرين والمنظّرين السياسيين العرب، وشقيقه مؤنس الرزاز من ألمع الكتّاب والروائيين العرب. ورغم ذلك لم يحفل برنامج حكومة عمر الرزاز بأي التفات إلى الثقافة، وكأنّها شر مستطير، أو إفك، ولا ضرورة لوجودها والتنويه بها ولو بسطر واحد.

اقرأ أيضاً: الأردن.. كثرة في المسؤولين وشح في سياسات الإصلاح

تجلّى هذا الأمر في البيان الذي قدمه الرزاز في التاسع من الشهر الجاري لنيل ثقة البرلمان، وسبقه الرد الذي قدمه الرئيس على كتاب التكليف السامي، في الرابع عشر من الشهر الماضي. والأنكى من ذلك أنّ كتاب التكليف في الخامس من الشهر الماضي، خلا هو الآخر من أي ذكر لكلمة ثقافة، ما يدفع إلى التساؤل عن سر هذا الإجماع الغريب على حذف هذه المفردة من ثلاثة بيانات أساسية تشكل خريطة عمل لدولة تعاني من أخطار لا يمكن صدّ غالبيتها إلا من خلال الثقافة، ولكنّ أكثر المشرعين في بلاد العروبة، لا يعلمون!

وما يزيد المراقب احتقاناً أنّ بيان الحكومة الأردنية الجديدة الذي تقدّمت به للبرلمان، تزامن مع تصريحات كان أطلقها نائب إسلامي طلب فتوى شرعية للتأكد من أنّ مهرجان جرش للثقافة والفنون "حلال أو حرام"، وهو المهرجان الذي تشرف عليه وترعاه وزارة الثقافة، وغدا عبر مسيرته أبرز المحطات المضيئة في تاريخ الأردن، حتى إنّ السياح العرب، وزوار الأردن يذكرون المهرجان ومدينة جرش أكثر مما يذكرون أي سياسي، أو رئيس حكومة، أو نائب، أو مسؤول في الدولة الأردنية!

اقرأ أيضاً: لماذا غاب الإخوان المسلمون عن الحراك الشعبي في الأردن؟

فهل علينا "كلما دق الكوز في الجرة" أن نتلو المزامير بخصوص دور الثقافة في مواجهة الإرهاب، ودور الفنون بأشكالها كافة في رفع منسوب الوعي الاجتماعي، والتخفيف من وطأة الاحتقان النفسي لدى العرب العاربة المحبطين من المحيط إلى الخليج؟

وهل علينا أن ندق جدران الخزان، ونقول إنّ إقامة مهرجان فني كجرش، وتعميم الظاهرة على سائر محافظات المملكة الأردنية الهاشمية على امتداد شهور العام، كفيل بزرع الأمل والفرح في نفوس الناس، وبالتالي طرد الملل والتبرّم والسأم والكآبة، ومحاصرة الأفكار السلبية.

هل تدرك الحكومات هذا الأمر وتشتغل عليه، بدلاً من الاختباء خلف مبدأ "التقية" خوفاً من تنمّر بعض نواب لم يقرأوا في حياتهم كتاباً، ولم يحضروا عرضاً موسيقياً أو مسرحياً، أو معرضاً تشكيلياً، وسوى ذلك من روافع الفن والحضارة؟

اقرأ أيضاً: المثقفون العرب الآن: بيانان وزمنان ورهانان

كنا نعتقد أنّ بيان الرزاز سيولي الشأن الثقافي والفني ما يستحقه، وما تفعله وتقدره الدول المحترمة. كنت شخصياً أتوقع ذلك، وتوقعت ما هو أبعد، كأن يعلن عن إنشاء صناعة سينمائية في الأردن، ودعم الأفلام القصيرة والمتوسطة والروائية، وتنمية ميول الشباب الأردنيين التوّاقين لمعانقة آفاق الفن السابع.

فهل هناك من ثقافة يمكنها أن تسوّق الأردن أفضل من صناعة السينما، أو التفكير على الأقل في إعادة مجد الدراما التلفزيونية الأردنية التي ألهمت الدراما العربية في زمن سابق، وأضحت الآن، بسبب تغوّل قوى الدولة العميقة، تقتات على فتات الآخرين، رغم أنّ في الأردن كفاءات وشركات إنتاج ومؤسسات قادرة على هذه المنافسة لو توفرت لديها الإمكانيات والدعم، والأهم من ذلك الحماية. ولعل ما جرى مع منتجين أردنيين، مثل طلال العواملة، وغيره، دليل على ما يكابده الفنان والمثقف في بلده، ما يجعله مهاجراً في بلاد الله الواسعة والضيقة في آن!

بيان الحكومة الأردنية للبرلمان تزامن مع تصريحات كان أطلقها نائب إسلامي طلب فتوى للتأكد من شرعية مهرجان جرش

ليست هذه المقالة مخصصة لتكرار المعزوفة "اللطميّة" ذاتها، ولكنّ المرء يبقى معلقاً بحبل الأمل، ولو تأرجح الزمان، وعصفت به الأنواء. وما زال في الميدان فسحة لأن تعيد الحكومة الرزازية العتيدة، النظر المعمق في الملف الثقافي، وتثبت أنها مختلفة عن باقي الحكومات الأخرى، لا سيما وأنّ في الحكومة الحالية وزيرة ذات كفاءة ومهارة وهي ابنة الوسط الثقافي، ولا تنقصها الخبرة والدراية في إدارة الملف الثقافي بحنكة تسفر عن نتائج مبهرة إذا توفر لها الدعم، وجرى تمكينها للعمل بحرية، بعيداً عن الضغوط، وإملاءات المزاودين والخائفين، وحرّاس الجهل.

اقرأ أيضاً: كاتب أردني يكشف نوايا العرموطي بخصوص الحكم الشرعي لمهرجان جرش

سيبدو أنني متحيّز للثقافة والفنون والفكر والفلسفة ونشر المعرفة بوجوهها كافة، وهذه ليست تهمة، بل إنني ربما أتطرف وأرى أنّ إصلاح الثقافة والفنون، يضاهي عندي إصلاح الاقتصاد ومكافحة الفساد؛ لأنّ تنمية العقول بألوان الفن، يحفز على الارتقاء بالنفوس، ويفتح في الأذهان نوافذ الإبداع والابتكار، ويخلق جيلاً شفافاً مرهفاً يقاوم الغش والفساد وازدراء العمل، ويحتفل بالجمال والحب والحق والخير.

فهل وصلت الرسالة؟!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية