حين يقتل المتطرفون باسم الله وتقتل الأيديولوجيات باسم الوطن

حين يقتل المتطرفون باسم الله وتقتل الأيديولوجيات باسم الوطن


12/07/2018

لا ينكر أحد أنّ الجماعات الإرهابية التي ترفع راية الإسلام زوراً وبهتاناً، هي الأكثر قتلاً باسم الله في وقتنا الراهن، لكن أيّ منصف، يمدّ الخيط إلى أزمنة مضت في تاريخ البشرية سيستقر في يقينه أنّ أغلب، الأديان والمعتقدات والمذاهب قتلت بشراً، في مختلف الأمكنة والأزمنة، باسم الرب، أو باسم السماء، كما قتلت أيديولوجيات عديدة، على رأسها الفاشية والنازية، ملايين البشر باسم الوطنية أو القومية. وتمّ كلّ هذا قبل أن يتحدث الناس في مشارق الأرض ومغاربها بهذه الغزارة عن التسامح، وقبول الآخر، وحقوق المواطنة، وحرية الاعتقاد.

اقرأ أيضاً: الأصولية الإسلاموية المتطرفة والفكر التكفيري الإرهابي: محاولة للفهم

ومع هذا، ورغم الإيجابية التي ينطوي عليها مصطلح "التسامح"؛ فإنّ الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، له فيه رأي سلبيّ لافت؛ حيث يقول: "هو مصطلح مبهم، وهو بإيجاز: مصطلح لا متسامح؛ حيث إنّه يفترض بالفعل، وفق رافضيه، بأنّه يمكن لنا الاعتقاد بأنّ شخصاً ما غير مقبول بشكل أساسي، أو أنّه أدنى منّا مرتبة، لذا فمن الأفضل تحاشيه، بيد أننا نتسامح معه من باب الأدب، أو إيثاراً لمبدأ السلامة"، لكن إيكو يمقت العنصرية البدائية، أو "اللاتسامح الحيواني"، الذي يُعزى إلى أسباب بيولوجية، ويراه الأخطر بين ألوان التعصب قاطبة؛ إذ تمكن مواجهة "العنصرية العلمية" بإبداء الحجج العقلية المقنعة.

رغم أنّ الدين مهما كان تجسده التاريخي ثبت أنه منبع لا بديل عنه للرحمة والعدالة

وينطلق الدبلوماسي الإيطالي مايكل أنجلو ياكوبوتشي، في كتابه المهم "أعداء الحوار" من هذا، ليتتبع استمرار قيم اللاتسامح وأعراضه في الأديان والمذاهب والفلسفات والممارسات البشرية، في مشارق الأرض ومغاربها، وهو بحث عريض ومطول وعميق يصفه قائلاً: "بحثي هذا لا يسعى وراء عرض صنائع السوء، والنفس السوداء لهذا الدين أو ذاك، أو لأيديولوجية أو لأخرى، أو لعرق أو لآخر، أو لحركة سياسية أو لأخرى؛ بل إنّه يسعى للتأكيد على أننا كلما مددنا أعيننا في الزمان والمكان، أدركنا أنه لا يوجد بشر أو شعوب، فقط من حيث الجوهر، أخيار أو أشرار، وأنه لا توجد عقائد أو أيديولوجيات حسنة تماماً، أو سيئة تماماً؛ بل يوجد فقط أناس على قناعة راسخة بأنّ بعض الأفكار تمثل الخير المطلق، والأفكار المعارضة تمثل الشرّ، وهذا يحدث؛ لأنّ هؤلاء يفسرون بطريقة جامدة، تفتقر إلى الاستناد النقدي للمُثل والنواميس التي انتقلت إليهم من خلال معلمين بارزين، ومن خلال حكمة تكونت عبر آلاف السنين، مُثل ونواميس أصبحت في النهاية سجناً لهم، لا يمكنهم التحرر منه، حتى إن غيروا الظروف".

اقرأ أيضاً: الإفراط في استخدام "أفعل التفضيل".. أحد عيوب العقل المتطرف

ويبدأ ياكوبوتشي باللاتسامح الديني، الذي يعدّه "القتل باسم الربّ"، ويظهر في الحروب المقدسة والقتل الشعائري والانتحار الجماعي واضطهاد المنشقين، ثمّ يقول: إنّ "رحلة بين أعداء الحوار ينبغي أن تبدأ، حتمياً، من الدين، أحد أضخم الموضوعات التي تفرض نفسها في كلّ حديث عن اللاتسامح، ودائماً تحظى منه بنصيب الأسد"، ومن ثمّ فإنّ العديد من أشكال التعصب مثل؛ كراهية الأجانب والعنصرية والاضطهاد، مرتبطة بالممارسات الدينية في جانب منها، رغم أنّ مختلف العقائد تحض على التضامن والشفقة، ورغم أنّ الدين، مهما كان تجسده التاريخي، ثبت أنه منبع لا بديل عنه للرحمة والعدالة. 

الخميني كان يرسل الأطفال ليفتحوا حقول الألغام أمام جنود المشاة وفي أعناقهم مفاتيح الفردوس

إنّ البرهنة على هذه المقولة يمكن أن تعود بنا إلى بدء الخليقة، لنتتبعها في مسيرة التاريخ البشري كله، لكن التقاط بعض الأحداث التي وقعت في العقود الأخيرة يكفي للدلالة على ذلك؛ فالشاب اليهودي المتطرف (إيجال عامير)؛ الذي قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، برّر ما أقدم عليه بقوله: "لقد أمرني الله بذلك، ولست نادماً"، وكان في هذا يمتثل لنصوص عديدة في التوراة والتلمود تحضّ على القتل، ولم تضع الحرب بين الكاثوليك والبروتسانت في إيرلندا أوزارها إلا قبل أعوام، بعد أن أزهقت مئات الآلاف من الأرواح، والخميني كان يرسل الأطفال ليفتحوا حقول الألغام أمام جنود المشاة، وفي أعناقهم مفاتيح الفردوس، والأصوليون الهندوس قاموا بهدم مسجد قديم وتسويته بالأرض مخلفين آلاف القتلى.

اقرأ أيضاً: لماذا لا ننجح في مواجهة الكراهية والتطرف؟

ويعود اللاتسامح الذي تنتجه الممارسات الدينية المجافية لمقاصد الأديان وغاياتها، في نظر ياكوبوتشي، إلى ثلاثة أسباب رئيسة، أولها: تسييس الدين، وهو بدأ في اتحاد مهام الحاكم والكاهن في شخص واحد أو التحالف بينهما، الذي استمر قروناً عانت فيها شعوب الغرب من تبادل المنافع بين السلطتين؛ الكنسية والزمنية، وتسخير مختلف السلطات للدين بتحويله إلى أيديولوجيا واستغلاله في كسب الشرعية، والتلاعب بالجماهير، ورفع الغطاء عن المعارضين باتهامهم بالرفض أو الهرطقة أو الردة.

يرى ياكوبوتشي أن تسييس الدين أول أسباب اللاتسامح الذي تنتجه الممارسات الدينية المجافية للمقاصد

أما السبب الثاني؛ فهو قيام بعض رجال الدين في المسيحية واليهودية، بالحيلولة دون العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، عبر الكهنوت. وقيام بعض علماء الدين ورموزه في الإسلام بمحاولة لعب الدور نفسه، رغم أنّ إحدى ركائز الإسلام هي عدم وجود أي واسطة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى. في حين يرجع السبب الثالث إلى قيام أتباع كل دين برفض "الأغيار"، أو أتباع الديانات الأخرى؛ فاليهودية رفضت المسيحية، والأخيرة ترفض الإسلام، والأخير لا يرفض الاثنين لكنّه يعتمد مساراً معيناً لهما، انطوى عليه القرآن الكريم، الذي يقول: {لَاْ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.

اقرأ أيضاً: إسلامي سابق يحكي قصته مع السلفية الراديكالية في ألمانيا

كما أنّ أتباع الديانات السماوية الثلاث يرفضون الأديان والمذاهب الوضعية، ويطلقون على أتباعها اسم "الوثنيين"، وقد بلغ هذا الرفض ذروته في مصر القديمة؛ حيث تم هدم معابد المعرفة، وتحويلها عنوة إلى كنائس، علاوة على قتل العلماء والفلاسفة، وفي مقدمتهم هياباتيا، وهنا يقول ياكوبوتشي: "بداية من عام 609 م، ومع تكريس البانثيون في روما أثناء بابوية بونيفاتشو الرابع بدأ افتتاح كنائس عديدة فوق المعابد، كنيسة تلو أخرى".

اقرأ أيضاً: عامر الوائلي: الأصولية تحول الإرهاب من التكفير إلى التوحش

ثم يسرد ياكوبوتشي موجات أخرى من التعصب باسم المسيحية مثل؛ الصراع بين المسيحيين أنفسهم حول الثوابت العقدية، وموضوعات الهرطقة الكبرى، ثم حرب الفرنجة التي رفعت شعار "الصليب"، وبعدها محاكم التفتيش في القرون الوسطى، التي تعدّ أكثر النقاط سواداً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وتلاها مطاردة الساحرات، ثم ظهور البروتسانتية التي أدت إلى أن تصير أوروبا مسرحاً لحرب دينية طويلة، أظهر فيها الطرفان أدلة متساوية على البشاعة والغلظة، لم ينته الفصل الأكثر دموية فيها إلا مع صلح وستقاليا، عام 1648، الذي أنشأ مجتمعاً دولياً جديداً يقوم على أساس الدولة القومية.

جنحت الأصولية الإسلامية بعيداً عن تعاليم الإسلام التي تحض على الرحمة وتؤمن بحرية الاعتقاد

لكن قيام الدولة القومية وانتشار التحديث والحداثة لم يقضيا على الأصولية المسيحية، التي ولدت في الولايات المتحدة، وظلت تترعرع فيها حتى أوصلت أحد رجالها، وهو جورج بوش، إلى سدة السلطة، الذي سعى إلى تنفيذ أكثر أطروحات الإنجيليين تعصباً، باحتلال العراق وأفغانستان، لتعبيد الطريق أمام الحرب الأخيرة التي تشهد عودة المسيح، كما يعتقد هؤلاء.

اقرأ أيضاً: حين يتحول التطرف الديني إلى معول لهدم التراث الإنساني

وجاءت الأصولية الإسلامية لتجنح بعيداً عن تعاليم الإسلام التي تحض على الرحمة، وتؤمن بحرية الاعتقاد، وتمنع الواسطة بين الإنسان وخالقه، وأخذت هذه الأصولية، سيما في شقها السياسي، تنتج خطاباً معادياً للآخر، سواء من بين المسلمين الآخرين، الذين يشكلون التيار العريض والعام من بين شعوب العالم الإسلامي، أو أتباع الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى، دعوية كانت أم مسيسة، أو أتباع الديانات الأخرى.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية