نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً

نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً


12/07/2018

خمسة أيام هي الفاصلة بين ذكرى ميلاد وذكرى وفاة المفكر المصري أبو زيد (10 تموز 1943- 5 تموز 2010)، الذي خاض مسيرة ثرية غير تقليدية، ليس بسبب التحولات المهنية فحسب؛ بل لمراجعاته الفكرية المستمرة التي جعلته يرحل عن جماعة الإخوان المسلمين العام 1964، بعد أن عرج عليهم لفترة وجيزة، لكنّ تفكيره النقدي وقف حائلاً بينه وبين الانخراط في التنظيم.

محطات في فكر أبو زيد

أصدر أبو زيد عدة كتابات ودراسات بحثية، لربما نتوقف في البدء عند أحدث كتاباته التي تمثل خلاصة فكره في قراءة مشهد الخطاب الديني في خضم رؤية سياسية واجتماعية؛ حيث أصدر العام 2006 كتاب "النص، السلطة، الحقيقة... الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة"، وتحدّث فيه عن ضرورة إنهاء احتكار السلطة لأدوات صناعة الوعي وصياغة الذاكرة على مستوى الشعوب العربية (ص 64)، وكتب أبو زيد هذه الكلمات في عصر لم يعرف بعد قوة الإعلام المجتمعي البديل، لكنّه أصبح جزءاً من كسر الهيمنة في صياغة الوعي الشعبي في أعوام لاحقة، وهو ما جعل كثيراً من الأنظمة العربية، ومن بينها مصر، تمرّر قوانين تضع المدونين تحت سطوة عبارات وصياغات قانونية مطاطة، وبالطبع ليس كل ما ينتجه الإعلام البديل إيجابياً، لكنّه يظلّ أداة تواجه هيمنة السلطة، مستغلة في ذلك سيطرتها على وسائل الإعلام التقليدية والكلاسيكية.

نصر حامد أبو زيد مفكر رفض سيطرة الماضي على الحاضر بأسلوب بسيط قادر على تفكيك النصوص

كما تحدث أبو زيد من خلال كتاب "الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة" عن عدة قضايا أخرى، ومنها مثلاً: دور المثقف في علاقته مع السلطة، فكتب في (ص 53): "آن الأوان أن يعي المثقف ضرورة قطع الحبل السري بين ما هو سياسي وما هو فكري"، وحذّر من تبرير المثقفين للمواقف السلطوية والسياسية، وعدّ الفكر الحرّ فعلاً سياسياً في حدّ ذاته.

اقرأ أيضاً: نصر أبو زيد مشتبكاً مع ابن عربي: تصالح العقل والتصوف

"الفكر فعل سياسي"؛ تذكرنا هذه العبارة بموقف د. فرج فودة (1945- 1992)؛ الذي رفض أن يستغل مواقف فكرية ليبرر بها الحالة السياسية العامة، والمواقف الحزبية الخاصة، فحين بدأ حزب الوفد الليبرالي عقد مواءمات مع جماعة الإخوان المسلمين، العام 1984، رحل فودة عن الحزب، وقام بتأسيس الجمعية المصرية للتنوير، وهو فعل حوّل فيه الموقف الفكري إلى سياسي، وشرع فودة فيما بعد في تأسيس حزب المستقبل، وجعل ديباجته مدنية خالصة، دون مواد تقحم الشريعة في سياسات حزبه، لكن مشروعه أجهض من ِقبل لجنة شؤون الأحزاب المصرية، فتحويل المواقف الفكرية إلى سياسية ليس مستحيلاً، لكن تنقصه القواعد الجماهيرية والتنظيم.

اقرأ أيضاً: ابن عربي: الحبّ يُعمي ويصم ولا يقبل الاشتراك

إن أمعنّا النظر في هذه الفلسفة تحديداً، التي طرحها أبو زيد، سنجدها تحدد مشكلة المثقف السلطوي، وهي إشكالية عانت منها البلاد العربية منذ عقود، لكنها زادت حدة في الأعوام الأخيرة، خاصة بعد أن أصبح المثقف يؤيد السلطة كيداً في تيارات وجماعات الإسلام السياسي، ويتغاضى هنا المثقف، في كثير من الأحيان، دون تعميم، عن تاريخ المداهنات بين السلطة والجماعات، أو عن الأصولية الراسخة في المؤسسات والأجهزة الحكومية نفسها، فيصبح مؤيداً دون قناعات فكرية راسخة.

الخطاب والتأويل

في كتابه "الخطاب والتأويل"، الصادر العام 2000 في الدار البيضاء، تحدث أبو زيد عن استخدام الفكر في تبرير التوجهات السياسية، لكن هذه المرة باستخدام الأيديولوجيا الفكرية الإسلامية، هكذا تحققت المعادلة، فأصبح خطاب رجال الدين الحكومي خطاباً سلطويّاً بامتياز، لكنّه ظلّ، من جهة أخرى، خطاباً يرضي العامة إلى حدّ بعيد.

أبو زيد: إنّ القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أنّ البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها

صادر الأزهر كتاب أبو زيد "الخطاب والتأويل" العام 2003، ومنع تداوله، بعد اجتماع لمجمع البحوث الإسلامية برئاسة الشيخ محمد سيد طنطاوي، وبحضور د. محمد عمارة عضو مجمع البحوث الإسلامية، وصدر قرار بمنع الكتاب على يد الأزهر بسبب التشكيك في العقيدة الإسلامية!

وقال عضو المجمع، عبد المعطي البيومي، المعيَّن في مجلس الشعب المصري، لجريدة "الحياة" اللندنية، في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003: إنّ الأزهر لا يصادر حرية الفكر أو الإبداع، بل يحمي ثوابت المجتمع من أيّة انحرافات فكرية تهدد عقيدة المجتمع وثقافته، وطالب السلطات بـتنفيذ كلِّ التوصيات التي يصدرها المجمع في شأن مصادرة الكتب التي فيها انحرافات فكرية.

اقرأ أيضاً: الحلاج: تصادمَ مع السلطتين الدينية والسياسية فتوضأ بدمه

ومن خلال كتاب "النص، السلطة، الحقيقة... الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة" من جهة، وكتاب "الخطاب والتأويل" من جهة أخرى، أراد أبو زيد أن يقرب لنا الصورة؛ فالسلطة المهيمنة تحتاج إلى مطلق ديني من جهة، ومطلق ثقافي من جهة أخرى، هنا كانت المقاربة التي عقدها بين مفهوم امتلاك رجال الدين للحقيقة المطلقة، وامتلاك المثقفين للحقيقة المطلقة، وعدّ حامد أبو زيد المثقف الذي يمتلك الحقيقة المطلقة يمثل القدم الأخرى للأنظمة الشمولية.

قراءة في خطاب المرأة 

خطاب الهيمنة كان يؤرق أبو زيد، وتراءى له أنّ الخطاب الذي يستخدم في قضايا المرأة خطاب يهمين على مقدراتها، فقال في كتابه "دوائر الخوف" العام 2004: "إنّ قضايا المرأة لا تناقش إطلاقـاً إلا بوصفها قضايا اجتماعية، وإدخالها في إطار القضايا الدينية تزييف لها، وقتل لكل إمكانات الحوار حولها، وإنّ حصر قضايا المرأة في الحلال والحرام، لا يسمح بتداول الأفكار الحرة، وإن مناقشة قضايا المرأة المتعددة من منظور ديني يطمس الجانب الاجتماعي للقضية، خاصة إن انطلق من ثوابت غير قابلة للنقاش لن تغيّر وضع المرأة في شيء".

الحرية التي دعا إليها أبو زيد هي حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار دون كوابح أو شروط مسبقة

هكذا وصف أبوزيد إشكالية قضايا المرأة في العالم العربي، فقضايا المرأة تتم مناقشتها في السماء، بعيداً عن الأرض وواقعها ومشكلاتها، وهو سبب التعثر التشريعي الذي يجعل رأي الفقيه ملزماً للجان التشريعية الحكومية، خاصة في قوانين الأحوال الشخصية؛ فمناقشة قضايا المرأة في إطار ديني يقودنا بعيداً عن مفهوم المواطنة الحقيقة، ويقودنا بعيداً كذلك عن إقرار حقوق من منطلق إنساني، بدلاً من حصر الحقوق في دائرة فقهية تتسع وتضيق لكنها تظل مفرغة.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى أول من أهدى المنطقة العربية حرفاً مطبوعاً بلغة الضاد

وفي خضم مناقشة القضايا الحقوقية في إطار ديني، لا اجتماعي، تصبح المرأة الأكثر تضرراً، بحكم ذهنية تجعل منها "المفعول بها"، وهي ذهنية يحملها الذكور والإناث على حدّ سواء، في إطار هيمنة أبوية على النصوص الدينية.

لكن، ليست قضايا المرأة وحدها هي التي تناقش في إطار ديني، فكل القضايا تخضع للإطار الحديدي نفسه، وهو ما يجعل التفكير كفراً وبهتاناً عظيماً في نظر حراس العقيدة، وهو ما دفع أبو زيد لتأليف كتاب "التفكير في زمن التكفير"، الصادر العام 1995، فقام بتحليل أزمة التكفير كعائق للتفكير، فقال في (ص 146) من الكتاب:

اقرأ أيضاً: محمد إقبال: تجديد الفكر الديني وتأويل الكون روحياً

"إنّ الدعوة للتحرر من سلطة النصوص ومن مرجعيتها الشاملة، ليست إلا دعوة لإطلاق العقل الإنساني حراً يتجادل مع الطبيعة في مجال العلوم الطبيعية، ويتجادل مع الواقع الاجتماعي والإنساني في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب، فهل تتصادم هذه الدعوة مع النصوص الدينية أم تتصادم مع السلطة التي أضفاها بعضهم بالباطل على بعض تلك النصوص، فحولوها قيوداً على حركة العقل والفكر؟".

اقرأ أيضاً: محمود محمد طه.. ترنيمة أخيرة على صليب الحلاج

وفي الكتاب ذاته (ص 26)، أكّد أهمية التعليم، إذ "لا سبيل أمامنا جميعاً لتجاوز أزمتنا الراهنة، على جميع المستويات والأصعدة، إلا محاولة الوصول إلى نظام تعليمي قادر على تنمية قدرات الفرد، الذهنية والعقلية والعضلية، بل والخيالية أيضاً، إضافة إلى تنمية حواسه التذوقية للآداب والفنون، ولا شكّ في أنّ إشاعة مناخ الحرية في الثقافة والمجتمع شرط مهم جداً لوضع أساس هذا النظام التعليمي المرجو. ولا نقصد بمناخ الحرية الدلالة السياسية التي تتبادر إلى الذهن حين نذكر كلمة "الحرية"، وهي الدلالة التي تقصرها على حرية التصويت وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف، ...إلخ، إن ما نقصده بالحرية المطلوبة في المجتمع تتجاوز تلك الدلالات، رغم أهميتها التي لا يمكن إنكارها، إنّها حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار، دون كوابح أو شروط مسبقة، ودون أهداف بعينها يسعى المفكر أو الباحث إلى الوصول إليها".

محاكمة بتهمة الردة

تعمد هذا المقال أن يبدأ من كتابات أبو زيد الأكثر حداثة، وينتهي بالدراسة التي جعلته متهماً بالكفر؛ فالتكفير والتفكير وجهان لعملة واحدة في زمن الهيمنة على الدين والوطنية؛ بل وأحياناً الهيمنة على التنوير ذاته. 

العاصفة، بحسب ما قال أبو زيد على شاشة التلفزيون المصري العام 2008، بدأت بسبب مقدمة كتاب "نقد الخطاب الديني"، وقد عدّ الخطاب الديني خطاباً حول الدين، إلا أنه خطاب بشري، وعليه فلا أحد يحتكره.

اقرأ أيضاً: جمال حمدان: فيلسوف عبقرية المكان

يقول أبو زيد، في (ص 90) من الكتاب: "الخطاب الديني حين يزعم امتلاكه وحده للحقيقة المطلقة، لا يقبل الخلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات والتفاصيل، وهنا يبدو تسامحه واتساع صدره واضحاً ومثيراً للإعجاب، يتسع للتشدد والتنطع؛ بل وللتطرف".

ثم دخل أبو زيد في المنطقة الأخطر والأكثر وعورة، حين شرع في نزع الإمامة عمن يحتكرون الخطاب الديني، وجعل النص ملكاً للمؤمن دون سطوة من حراس العقيدة، فقال في (ص 206):

"إنّ القول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك، يستلزم أنّ البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها، ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب بعض البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم، وهذا بالضبط ما يقوله المتصوفة، وهكذا تتحول النصوص الدينية إلى نصوص مستغلقة على فهم الإنسان العادي، مقصد الوحي وغايته، وتصبح النصوص الدينية شفرة إلهية لا تحلّها إلا قوة إلهية خاصة".

اقرأ أيضاً: طه حسين: إيمان بانقشاع الظلمة ولو بعد حين

إنّ خلاصة فكر نصر حامد أبو زيد تعود بنا إلى السبب الذي جعله متهماً في محكمة مدنية بالارتداد عن الدين الإسلامي (1993-1995)، ولضبط المصطلحات، محكمة مدنية هنا؛ تعني أنّها محكمة غير عسكرية، ولا يقصد بها أنها مدنية خالصة؛ إذ لا توجد محكمة مدنية، ولا قانون مدني، ينظر في قضية ارتداد عن الدين، وتفريق زوج عن زوجته تباعاً؛ لأنه بارتداده عن الإسلام لم يعد مناسباً لها!

رفض أبو زيد نطق الشهادتين أمام المحكمة، حتى لا يتحول الدين إلى مؤسسة، وحكمت المحكمة بتفريق المفكر عن زوجته (د. ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة).

اقرأ أيضاً: علي الوردي: التمرد على اليقينيات الثقافية والدينية

وما تزال قضايا "الحسبة" قائمة في مصر، لم يتغير فيها سوى بعض الشكليات؛ حيث تم قصر تحريك الدعاوى من خلال النيابة العامة، وليس بالتقاضي المباشر؛ أي إنّ النيابة أصبحت تملك حقّ حفظ البلاغات أو إحالتها للمحاكمة، وهو ما يجعل الذراع الديني للسلطة أكثر طولاً.

نصر حامد أبو زيد مفكر يكتب بأسلوب بسيط قادر على تفكيك النصوص، بطريقة لغويّة بسيطة، فأسس رغم ذلك اتجاهاً في تفكيك خطاب التأويل يرفض سيطرة الماضي وتأويلاته على مقدرات الحاضر.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية