هل تعاند ولاية الفقيه عجلة التاريخ؟

هل تعاند ولاية الفقيه عجلة التاريخ؟

هل تعاند ولاية الفقيه عجلة التاريخ؟


05/12/2020

تشهد المسيرة الإنسانية على كثير من الصفحات التي طوتها إلى غير رجعة عندما كانت السلطة تستغل الدين والطائفة لمصالحها الخاصة، هو ما ينسحب على الديانات الثلاث ومذاهبها المختلفة في سبيل ضمان الحماية والاستمرار، حتى لو وصل بها الأمر حد افتعال الحروب والقتل من أجل هذه المصالح.

يرى تيرنر أنّ فرض التشيع بصيغته الإمامية ليس متعلقاً بالإيمان والإسلام بقدر ترسيخ السلطة

وفي هذا السياق تعيد مسألة "التشيع السياسي" طرح هذه الإشكالية إلى الواجهة، وفيما إذا كانت الأديان أُنزلت في سبيل نشر القيم والأخلاق الاجتماعية، أم بهدف تعزيز السلطات السياسية ومنح المشروعية للحكومات تحت شعار الدين أو المذهب باسم "ولاية الفقيه" الذي ابتدعته الدولة الصفوية عند ظهورها، وتصرّ السلطات الإيرانية اليوم على التمسك به ومعاندة عجلة التاريخ.

من الروحانية إلى السياسة

تاريخياً، وفي كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، يرى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، أن "ظهور الدولة الصفوية (1507م) في ما يعرف بإيران حالياً، وامتداد أثرها في المحيط كالعراق وتركيا، ترك أثراً بالغاً، بسبب فرض المذهب الشيعي الإثني عشري بالقوة، وجعله مذهب الحكومة الرسمي"، من أجل التمايز عن الدولة العثمانية، ومواجهتها كهدف رئيسي في حينه.

كتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" لعالم الاجتماع العراقي علي الوردي

بداية التشيع هذه، من خلال إرادة سياسية، وفق الوردي، لا بد أن تحيل إلى سؤالٍ مهم: كيف تحوّلت إيران من صوفية سنية، إلى دولة شيعية بفضل الدولة الصفوية، وهل بقي هذا نموذجاً مؤثراً إلى اليوم؟

إيران لا تدعم الطوائف الشيعية بالمجان إنما تعسكرها وتعمل على تجييشها

المستشرق كولن تيرنر، واحدٌ ممن حاولوا الإجابة عن هذا السؤال، من خلال كتابه "التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي". ويرى تيرنر أنّ فرض التشيع بصيغته الإمامية، لم يكن متعلقاً بالإيمان والإسلام، بقدر ما كان متعلقاً بترسيخ السلطة، وهو يستدلّ لتوضيح رأيه، باستقدام إسماعيل الصفوي للإمام "الكركي العاملي" من لبنان إلى إيران بعد 1507م، كواحد من أول ممثلي الإمامية الفقهية، التي يرى تيرنر أنّ العاملي "أسس لها في عهد إسماعيل الصفوي"، وذلك كنوعٍ من "التكتيك السياسي للحفاظ على الحكم".

ولاية الفقيه تأسست في عهد اسماعيل الصفوي كنوعٍ من التكتيك السياسي للحفاظ على الحكم

ويبدو أنّ بداية تحوّل إيران، من إطارها الصوفي والسني إلى إطارها الشيعي ترافق، بحسب المؤلف، مع "محاربة شديدة من الإمام الكركي للتسنن"، وأفاد الكركي من اعتقاد الناس آنذاك، أنه هو مؤسس المذهب الشيعي، فهاجم التسنّن من خلال فرض عادة "التشهير بالصحابة والخلفاء الراشدين"، كما حكم بأنّ "أهل السنة والمتصوفة كفار أنجاس". والأهم، أنّه "كان أوّل من قال من الإمامية بأنّ الفقهاء هم النواب العامون للإمام المهدي المنتظر، وابتدع بذلك فكرة ولاية الفقيه التي ستعتمد بصفة رسمية في نظام الحكم بإيران بعد الثورة".

ولاية الفقيه..لا تشيع دون سياسة

انطلاقاً من طرح تيرنر، الذي يرى أنّ "التشيع الإثني عشري" تشكّل فعلياً خلال العهد الصفوي، وعلى أسس سياسية، وجغرافية، يبدو واضحاً، مدى خطورة "المشهد السياسيّ والثقافي بإيران إلى اليوم، ويتمثّل في الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة"، ويُقصد بالثقافة الوافدة هو أصحاب أي مذهب شيعي لا يعتمد تسييس التشيع بالأساس؛ أي إنّ هدفه إيماني أخلاقي تحديداً، وليس سياسياً. ويظهر هذا واضحاً من خلال تاريخ إيران في نقل مراكز الحوزات الدينية لقلب إيران، وإبعادها عن العراق ولبنان مثلاً، من أجل ربط التشيع وفقه الشيعة سياسياً وجغرافياً بها.

الرؤية الإيرانية تتمثل بضرورة وجود سكان شيعة يتم تحويلهم لطائفة متصلبة وبولاء سياسي لإيران

هذا الطرح يفتح الباب واسعاً على إيران اليوم، التي تأثرت جذرياً بعد ثورة الخميني العام 1979، وهي ثورة تحمل ادعاءاتها القائلة بترسيخ الثورة والديمقراطية داخل نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية، لكنها لم تترك علاقة لها مع الشيعة في العالم العربي، إلا وحاولت تجييرها لصالح رؤيتها هذه، فهي لا تدعم الطوائف الشيعية بالمجان، إنما تعسكرها، وتعمل على تجييشها، ولا دلائل أوضح من حزب الله في لبنان والعراق، وميليشيات الحوثي في اليمن.

لكن إثبات هذه الرؤية، ومدى خطرها، يحتاج دليلاً أكثر واقعيةٍ وعملية، يتمثل بالأصوات القادمة من داخل الحوزات الشيعية الدينية ذاتها، ومن قلب التنظيمات السياسية والعلمية الشيعية.

وبهذا الخصوص، يأتي اسم علي الأمين، بصفته مرجعاً دينياً شيعياً لبنانياً، درس على يد عدد من مراجع الدين في النجف الأشرف في العراق خلال سبعينيات القرن الماضي، وتخرّج عالماً مدرساً لمادتي الفقه وأصوله.

علي الأمين، من أبرز الوجوه الشيعية الداعية لنبذ العنف والتحريض الطائفي

كما يعد الأمين، من أبرز الوجوه الشيعية الداعية لنبذ العنف والتحريض الطائفي، وهو أول من عارض بجرأةٍ اجتياح حزب الله المسلح لمدينة بيروت العام 2008، معتبراً الهجوم استهدافاً للدولة وشرعيتها، فعُزل من منصبه.

اقرأ أيضاً: حزب الله جعل اللبنانيين وقودَ حروبه وقدّم المقاومة قرباناً للولي الفقيه

وتعرّض الأمين لتهديدات وهجوم على بيته ومقرّه في مدينة صور خلال العام ذاته، مما أجبره على ترك بيته والرحيل إلى بيروت.

وفي كتابه "ولاية الدولة ودولة الفقيه"، يرى الأمين، أنّ مبدأ ولاية الفقيه يجب أن يظل داخل حدود دولة إيران، ولا يخرج منها، إذ "لا سطوة له على شعوب عربية خارج إيران من باب أنهم شيعة، ولأنه لا يصح اختزال طائفة دينية،من خلال أحزاب سياسية، وقد قمعت إيران في داخلها المعارضين لولاية الفقيه، وفي الخارج سيطرت من خلال إنشاء أحزاب تابعة لها اخترقت المؤسسة الدينية الشيعية".

وكان الأمين، انتقد العام 2017 تدخّل حزب الله في سوريا، واعتبره "خدمة لمصالح إيران وتعزيزاً للاحتقانات الطائفية الخطيرة".

 انتقد الأمين تدخّل حزب الله في سوريا واعتبره خدمة لمصالح إيران

وغالباً ما كانت أصوات الاعتراض على تسييس التشيع، وتحوّل الإيمان الديني إلى خادمٍ للسياسة، محل رفضٍ من إيران، رغم أنّ أحزابها لم تعرف إلا الحرب في اليمن ولبنان والعراق، وكانت عملت على إبعاد معارضيها أو سحقهم طوال الوقت، كما حصل مع أسماء شيعية بارزة، مثل هاني فحص، الرافض للرجعية والهيمنة السياسية الإيرانية على الشيعة العرب باستخدام الدين.

اقرأ أيضاً: هكذا استغلت وشوهت إيران قضايا الوطن العربي

نشر الفوضى

منذ سنوات، يتمركز صراعٌ طائفي عسكري في العراق واليمن، ولهذا الصراع، وجهان عسكريان، هما حزب الله في العراق وميليشياتٍ عديدة أخرى كالحوثي في اليمن، إضافةً إلى الحرس الثوري الإيراني، وهو يحمل في اسمه تمثيلاً لترسيخ فكرة "تصدير الثورة الإيرانية".

لكن النموذج الثوري، هو ذلك المحكوم بشروط سياسية تمثل مصالح إيران، وهو نموذج، لا بد أنه يحتاج إلى بيئة سكانية شيعية، حتى يتحقق، ولم تخرج المشكلة الأخيرة لإيران مع مملكة المغرب عن هذا السياق؛ حيث فتحت ملفات إيران من جديد في شمال إفريقيا، ويمكن الاطلاع على توظيف إيران للتشيع السياسي هناك من خلال هذا التقرير:

هل تصدّر إيران التشيع إلى المغرب العربي؟

ويوضّح هذا التقرير مدى الرؤية الإيرانية المتمثلة بضرورة وجود سكان شيعة، يتم تحويلهم إلى طائفة متصلبة، تحمل ولاءً سياسياً لإيران ومصالحها إن أمكن، حيث لا قيمة لأي طائفة شيعية في العالم العربي، دون هذا الولاء، ولعل القتل الطائفي والعنف، بين السنة والشيعة في عراق ما بعد 2003، كان للتشيع السياسي دورٌ بارزٌ في تأجيجه؛ إذ تحوّلت كثير من البؤر الشيعية في العراق؛ سكانياً ودينياً، من مراجع دينية وإيمانية وعلمية، إلى معاقل للتحشيد السياسي تقوده إيران، حيث وصفها تقرير عربي نشره موقع "سي إن إن " بتاريخ 4 كانون الثاني (يناير) 2015، بـ"أنّها تمسك بالعراق محاولة مواجهة المملكة العربية السعودية والضغط عليها".

 الحرس الثوري يحمل في اسمه تمثيلاً لترسيخ فكرة "تصدير الثورة الإيرانية"

ويضيف التقرير "إيران ضالعة في السياسة العراقية، فقد ساعدت على إطالة ودعم حركات التمرد والحرب الأهلية في العراق، وقام الحرس الثوري الإيراني بتمويل وتدريب العديد من المليشيات الشيعية.. ضد السنة في العراق".

يرى الأمين أن مبدأ ولاية الفقيه يجب أن يظل داخل حدود دولة إيران ولا يخرج منها

إنّ إيران، من خلال هذا المثال البسيط في العراق، الذي تحاول السيطرة عليه من خلال مجالس دينية شيعية كذلك، سواء كانت "صدرية أم فضلية" أم سواها، لا تستند إلا إلى ميليشياتٍ عسكرية شيعية تدعمها، ليست مستقلةً بقرارها؛ بل يشترط ارتباط كونها شيعية، بكونها مسيّسة ومسلّحة ومنفّذة للمصالح. ولعل هذا يسيء أكثر ما يسيء، إلى الطائفة الشيعية نفسها، فالدين لا يشهر السلاح، وإن فعل، فإنه يصبح عدواً للإنسان.

هذا الأثر الذي يتركه تسييس التشيع، مدمرٌ للطائفة كمنظومة قيم أخلاقية ودينية من جهة، ويشبه دعوةً صريحة لكره الدين والدولة التي تدعي تمثيله من جهةٍ أخرى، فلا يحقق في العمق وعلى المدى الطويل، لا الأمان للشيعة، ولا السلام والعلاقات الصحية مع العالم العربي لإيران من جهةٍ أخرى.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية