حوار مع ثائر ديب حول الترجمة والحرب

حوار مع ثائر ديب حول الترجمة والحرب

حوار مع ثائر ديب حول الترجمة والحرب


27/03/2024

أجرى الحوار: كريم محمد


قال المترجم السوري ثائر ديب إنّ الحرب والترجمة شكل مميز من الاحتكاك والتفاعل بين "الأنا" و"الآخر"، شأنهما شأن الرحلة والاستعمار والاستشراق والأنثروبولوجيا؛ منوهاً إلى أنّ الحرب ذاتها تنطوي على ترجمة، كما أنّ الترجمة ذاتها تنطوي على شيء من حرب اللغات والثقافات وسلامها.

وتحدث ديب في حواره مع "حفريات" عن "سياسات الترجمة" في العالم العربيّ، ودور النشر، وعلاقة المترجمين بالثقافة التي يترجمون منها، كما تعرّض لترجمة كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، كنموذج على تجاذب الترجمات الأيديولوجيّة في العالم العربيّ.

وأكّد أنّ الترجمة العربيّة الحالية، واسعة النطاق، ولا بدّ وأن يشملها مشروعٌ تقدميّ عربيّ، حتى تكون في سياقها الصحيح، كما تناولَ أزمة الترجمة فيما يتعلّق برداءة المُترجَم، واختيار كتب خياليّة في الأدب لا إبداع فيها، وتعرّض كذلك لسوء حال المترجمين، في كثير من الأحيان.

من المدمّر أنّ النظام وقسم كبير من المعارضة نجحوا في إعادة سوريا قروناً إلى الوراء على جميع الأصعدة

وعن سورية، التي هي بلد المترجم، والتي تمرّ بمحنة شديدة، أشار إلى وجود صلة بين الترجمة والحرب "بل يمكن القول إنّ الترجمة تكاد تكون مندرجة على الدوام في ضروب شتّى من الحروب"، كما يقول.

وثائر ديب مترجم سوريّ، وهو طبيب بالأصل، كان لإسهامه الترجميّ في العالم العربيّ بصمة مميزة؛ إذ ترجم عشرات الكتب المهمّة والتي أثرت المكتبة العربيّة، وعلى رأسها يأتي كتاب بندكيت أندرسن "الجماعات المتخيّلة"، وكتاب هومي بابا "موقع الثقافة"، وكتاب آلان هاو "النّظريّة النقديّة: مدرسة فرانكفورت"، وغيرها الكثير.

وهنا نص الحوار:

الترجمة في عصر الحروب


في العالم العربيّ، لعبت الترجمة منذ ما سُمِّيَ "عصر النّهضة" دوراً أساسيّاً على مستوى الثقافة والاشتباك مع الحضارة الغربيّة. كان هذا الدور متغيّراً بطبيعة المرحلة نفسها. فنلحظُ، مثلاً، أنّ عامل الترجمة كان على صلةٍ بمتطلّبات العصر التي كان المثقفون في الغالب هم من يحدّدونها، وكان مرتبطاً بطبيعة السياسيّ. الترجمةُ ليست فعلاً محايداً، لقد كانت غارقةً في السياسة في اللحظة التي تظنّ فيها أنّها خارجها، وأنّها في قلب الصّراع، بل، بالأحرى، تمّ توظيفها إمّا في صراعات تقدميّة في العالم العربيّ أو رجعيّة على حدّ سواء. برأيك، وأنت المنخرطُ في الترجمة على الأصعدة الفكريّة والثقافيّة، وقمتَ بترجمة كتابٍ مهم عن "الترجمة والإمبراطوريّة" لدوغلاس روبنسون وغيره من الكتب في هذا المضمار، ماذا يمكن للترجمة أن تفعل عربيّاً في عصر الحروب؟

لم يسبق لي أن تأملتُ العلاقة بين الترجمة والحرب تأمّلاً متمعّناً، سواء على المستوى التاريخي أو النظري. وما يثيره السؤال في ذهني هو مجموعة من الأفكار والممارسات قد تبدو متباعدة لا جامع يجمعها، وقد تكون بالعكس، جدّ مترابطة، إذا ما أُتيح لاستكشاف العلائق في ما بينها بعض الجهد والوقت. من ذلك، مثلاً، وبدايةً، أنَّ كلاً من الحرب والترجمة شكلٌ مميز من الاحتكاك والتفاعل بين "الأنا" و"الآخر"، شأنهما شأن الرحلة والاستعمار والاستشراق والأنثروبولوجيا؛ وأنّ الحرب ذاتها تنطوي على ترجمة، كما أنّ الترجمة ذاتها تنطوي على شيء من حرب اللغات والثقافات وسلامها.

غلاف كتاب هومي بابا: "موقع الثقافة" - ترجمة: ثائر ديب

في حروب الفتح، ثمة مترجمون من أهل البلاد المزمَع فتحها يعملون دليلاً للفاتحين، وثمة آخرون من بينهم يهدون مقاومة أولئك الأهل سواء السبيل. واليوم، ربما يكون نظراء هؤلاء وأولئك مترجمون ومنظمات ومثقفون تطوعوا لاستدعاء الاحتلالات إلى بلداننا، بذريعة زائفة هي إنهاء الاستبداد، أو، بالمقابل، مترجمون كذاك المترجم العربي المعارض لنظام الحكم في بلده الذي بادر موظفاً في سفارةٍ أجنبية طلب منه بلغة الواثق أن يصوّر له الأوضاع في ذاك البلد: "ليس قبل أن تصوّر لي الأوضاع في بلدك أنت؛ إذ إننا ننوي قريباً أن نتدخّل هناك كما تفعلون منذ قرون هنا".

اقرأ أيضاً: النشر في تونس.. نضال الكلمة والتنوير

كي لا أُفهَم خطأً، أودّ أن أذكّر بمقارنة شاعت بعض الشيء في الثقافة العربية، هي مقارنة بين حدثين وقعا مع تصفية الاستعمار الفرنسي في كل من سوريا وفيتنام. ففي عام 1947، تجمّع في الساحة الرئيسة من إحدى المدن السورية، بناء على نداء شاعر بارز، مثقفو تلك المدينة وطلابها حاملين معهم ما يملكون من كتب فرنسية وقاموا بإحراقها باعتبارها أثراً من آثار الاستعمار البغيض، الأمر الذي تكرر في المدن السورية الأخرى في مذبحة ثقافية يرى فيها ياسين الحافظ تدشيناً لسيرورة نزع الثقافة الحديثة من البلدان العربية.

ديب: الحرب والترجمة شكل مميز من التفاعل بين الأنا والآخر شأنهما شأن الرحلة والاستعمار والاستشراق والأنثروبولوجيا

أمّا في فيتنام، ومع تصفية الاستعمار الفرنسي عام 1954، فنجد أحد قادة الفيتناميين يقول: "في نفس الوقت الذي كنا نقاوم فيه السياسة الغاشمة للاستعماريين الفرنسيين، لم نكن قط ننسى أن نستفيد من الثقافة الحقة للشعب الفرنسي. وخلافاً لتوقعات المستعمرين ... استطعنا أن نتعلم ... التفكير والتصرف والعمل حسب الطرق والمناهج العلمية". والعبرة في الأمر هي الاختلاف بين رؤيتين، أولاهما توحّد وتماهي بين الاحتلال وكلّ البلد الاستعماريّ، وكلّ ما يمكن أن يكون هذا البلد، بفئاته المختلفة والمتعددة والمتناقضة، قد أنجزه عبر تاريخة من مآثر حضارية في الفكر والمعرفة والعلم والثقافة والأخلاق؛ وثانيتهما تنظر بعكس ذلك فترى أنَّ ثمة نتاجاً مهّماً على جميع هذه الصعد، وأنَّ أفكار فولتير وروسو وميرابو... إلخ سلاح شديد المضاء في مقاومة الاحتلال الفرنسي.

اقرأ أيضاً: آثار سوريا تدفع ثمن سبع سنوات من الصراع

الآن يمكن القول إنّ بمقدور الترجمة أن تفعل الكثير في عصر الحروب. بل يمكن القول إنّها تكاد تكون مندرجة على الدوام في ضروب شتّى من الحروب. لكنّ ما تفعله سيختلف كثيراً بحضور شرطين عنه بغيابهما: أولهما، اندراج الترجمة في مشروع للنهوض؛ وثانيهما، تسلّح ذلك المشروع وتلك الترجمة بالرؤية النقدية المنفتحة.

الترجمة الناجحة هي نقل للمعارف من بلدان سبقت إلى طريق التطور

تحتلّ الترجمة نسبةً عالية من بين المنشور العربيّ اليوم. إذا ألقينا نظرةً إلى دور النّشر في أنحاء العالم العربيّ، من مصر إلى الخليج إلى سوريا والأردن، سنجدُ أنّ الغالب مُترجَم عن اللغات الأجنبيّة، لا سيّما الإنجليزيّة. يأتي هذا في وقتٍ يتراجعُ فيه الإنتاجُ العربيّ الحقيقيّ على مستوى الرؤية والنظريّة والسياسة. إذا قارنّا الوضعَ مثلاً بالخمسينيّات، وما قبلها وما بعدها، حينما كان هناك نتاج عربيّ، وكانت هناك "رؤية"، فهل يمكن لنا أن نستشفّ شيئاً؟ بمعنى آخر، يربطُ كثيرون في المجال الثقافيّ العربيّ بين التقدّم في المعرفة والإكثار من الترجمة. إلى أيّ حدٍ، برأيك، صائبة هذه الرؤية؟

تشير التجارب إلى أنّ الإنتاج والتأليف يعقبان موجات الترجمة الناجحة بوصفها نقلاً للمعارف من بلدان سبقت إلى طريق التطور والتقدم إلى بلدان لا تزال متلكئة في الوراء. هذا ما تشير إليه ترجمة الثقافة العربية الإسلامية الفكر اليوناني، وترجمة أوروبا عن العرب، والترجمة عن أوروبا في مصر محمد علي ويابان الميجي، إلخ. ومع أنّ الأمر أعقد، بالطبع، من هذه الصورة الخطّية البسيطة، وتكتنفه ظواهر مثل؛ الاستعمار والتخلف الذي قد لا يكون في بعض الحالات، مثل؛ حالتنا، مجرد تأخر زمني بل بنيوي، فإنّه يبقى صحيحاً إلى الدرجة التي تكاد تسمح بالقول إنّ نجاح تجارب الترجمة يُقاس بكمّ ما بعقبها من تأليف ونوعه. لذلك لا ينبغي أن نغتبط كثيراً حين نقول إنّ الترجمة أهم ما يحصل في الثقافة العربية منذ فترة كمّاً ونوعاً. فذلك يعكس تدهوراً في الإبداع العربي وتخلّفاً في البنى المجتمعية والثقافية والسياسية العربية، وغرقاً في طوفان من سيطرة الفكر السلفي الاتباعي واجتراره بالشرح والتفسير.

الإنتاج والتأليف يعقبان الترجمة الناجحة من بلدان تطورت وتقدمت إلى بلدان لا تزال متلكئة في الوراء

  ثمَّ إنّ الترجمة ذاتها يجب إخضاعها للتمحيص في أنواعها واتجاهاتها وحسن أدائها. لقد كانت الترجمة في عصر محمد علي نقلاً للعلم الأوروبي الجاهز الذي لزم جيش محمد علي من دون الفكر والفلسفة والآداب الأوروبية التي اقترنت بالنهضة هناك. والترجمة العربية اليوم في كتلتها الغالبة، وفي ما خلا بعض المشاريع القليلة الطموحة، تجري من دون خطة ومن دون اندراج في مشروع نهضوي وتسيطر عليها كمّاً ونوعاً ترجمة "البيست سيلر" (الأكثر مبيعاً)، لا سيما في الأدب، حيث ذلك النوع من الكتابة التي تشجّع القارئ على التماهي الخيالي بها بدلاً من أن تُشجّعه على خلق مسافة نقدية تفصله عنها، الأمر الذي يساهم في خلق جمهور تُمثّل له الكتب موضوعات للتلقي السلبي و/أو التسلية السهلة الخالية من المعرفة.

غلاف كتاب آلان هاو: "النّظريّة النقديّة: مدرسة فرانكفورت" - ترجمة: ثائر ديب

لكنّ كلّ هذا، بخلاف ما قد يبدو للوهلة الأولى، يجب أن يدعونا إلى تشديد الترجمة لا إلى الكفّ عنها، إنّما مع إقامتها على أساس مشروع نهضوي ونقدي يحسن الاختيار والأداء ويضع لنفسه غايةً نقد "الذات" وبناها ومعارفها وآدابها وعلومها، كما "الآخر" وبناه معارفه وآدابه وعلومه، كلّ ذلك في إطار من التواصل وفي أفق التحرر لا في إطار من الانغلاق وفي أفق القطيعة.

الترجمة وثنائية النص الجيد


أشرتَ في مقالٍ مهمّ جداً لك عن استقبال إدوارد سعيد في العالم العربيّ بعنوان "ضائعاً في الترجمة" (مجلة عالم الكتاب، عدد ٨٤، يناير ٢٠١٥)، إلى الأدوار التي يمكن فيها للترجمة أن تكون تشويشيّة أكثر من كونها إيضاحيّة لنصوص مهمّة، كنصّ الاستشراق لسعيد، وذلك في سياق تعليقك على ترجمة البروفيسور كمال أبو ديب لإدوار سعيد. ورغم إقرارنا جميعاً -وأظنّ إقرارَك معنا!- بالجهد الرّهيب الذي بذله كمال أبو ديب، إلّا أنّ مفكّراً عربيّاً-أمريكيّاً بحجم سعيد لا يمكن القول إنّه استُوعِب حتّى الآن وذلك بسبب الترجمة. وإذا كنتُ أرى أنّ ترجمة أبو ديب على درجة عالية من الجديّة، لكنّي سأحيّد الرأيَ الشخصيّ ههنا، إلّا أن ترجمة د. محمد عناني للنصّ، برأيي، أفقدته الكثير. برأيك، كيف نخرج، إذا اتخذنا من حالة سعيد نموذجاً أو من ترجمة الاستشراق على الأقلّ، من ثنائيّة النصّ الجيد، لكن العسير جداً قراءةً كنصّ أبو ديب الذي قلتَ إنّه مستحيل القراءة دون الرجوع للنصّ الأصليّ، ومن النص اليسير، لكنه يفقد النّص الأصليّ روحه وحيويّته؟

تناولتُ في ذلك المقال مثالين من أمثلة ترجمة إدوارد سعيد إلى العربية، هما ترجمتا صبحي حديدي (لمقالة سعيد "إعادة النظر في الاستشراق") وكمال أبو ديب (لكتاب الاستشراق ذاته)، وهما ينطويان على مشكلات متباينة أشدّ التباين. ففي حين تتسم الترجمة الأولى بركاكة التركيب اللغوي وبمعرفة زهيدة بالموضوع وما يحيط به، نجد في الثانية جهداً كبيراً بالفعل لكنه وقع، إذا جاز التعبير، ضحية التشاوف الزائد وأيديولوجيا المترجم الخاصة وما فيها من وعود طنانة. وفي حين يبلغ الخلط الشامل في الترجمة الأولى (ترجمة صبحي حديدي) حدّ ترجمة جملة سعيد التي تقول "علاوة على ذلك، فقد أُلْزِم الشرقيون الصمت والإنتاج الوافر بلا حدود، شأنهم في ذلك شأن ربّات المنازل في العصر الفيكتوري"، على النحو "يضاف إلى ذلك أن الشرقيات، مثل الخادمات في العصر الفيكتوري، كن ملزمات بالصمت بقدر إلزامهن بالولادة الخصبة غير المحدودة"، فإنَّ مشكلات ترجمة كمال أبو ديب -على الرغم من اشتمالها عل أخطاء وهفوات من هذا النوع، كوضعه "الموضوع" مكان "الذات" في كلِّ مكان من ترجمته كتاب الاستشراق، وترجمته عنوان مسرحية يوربيديس الباخوسيات أو عابدات باخوس بـ الباكنتيون، ووضعه "الإشراقيين" مكان "الشخصيات اللامعة أو البارزة"، إلخ- تبقى على مستوى آخر أرفع بكثير، مستوى يتعلق بخيارات المترجم الواعية، وفكره، وأيديولوجيته، وليس بعجزه، وغياب فكره، وانعدام وعيه بالأيديولوجيا التي تفرض ذاتها على ترجمته. وباختصار، فإنّ الخلاف مع ترجمة أبو ديب يرقى فوق أخطاء الترجمة التي تجعلها ليست ترجمة ليتركّز على موقف نظري كليّ من اللغة والعالم وفكر سعيد عبّر عنه أبو ديب في مقدمته.

اقرأ أيضاً: الطباعة في الأردن وفلسطين.. استجابة نخبوية للإصلاح

أمّا المشكلة في ترجمة عناني لكتاب الاستشراق، تلك الترجمة التي لم أتناولها في مقالتي تلك، فتكمن باختصار، وكما أرى، في ردّ عناني سعيداً ومفاهيمه ومصطلحاته ومراجعه الفكرية الحديثة وما بعد الحديثة إلى لغة عربية ومفردات عربية عادية، على الأقلّ، لا تلتقط الجديد في بنية فكر سعيد وعناصره، كأن تختفي كلمة "تمثيل" في الكتاب كلّه، كما أتذكر، لتحلّ محلّها كلمة "تصوّر".

اقرأ أيضاً: أبو نواس: ترجمة إنجليزية لـ "خمريات" الشاعر الشهير

أمّا كيف نخرج من تلك الثنائية -ثنائيّة النصّ الجيد عسير القراءة/ النص اليسير فاقد الروح والحيوية- فذلك يطول نقاشه كثيراً ويطاول قضايا لا يحصرها العدّ، تتراوح من إعداد المترجم وثقافته ولا تنتهي بالروح النقدية الفاهمة في ثقافة من الثقافات، مروراً بوجود المشروع الثقافي الذي يُعلي من شأن الترجمة ودراساتها ويقيمها ويقوّمها على أسس صارمة ومتطورة في آن.

المشكلة في ترجمة عناني لكتاب الاستشراق اللغة والمفردات العربية العادية

الترجمة وتدهور الوضع العربي


إذا انتقلنا بعض الشيء إلى ما يمكن تسميته بسياسات الترجمة. نجد مشاريع ترجمة عربيّة من الخليج إلى المغرب. الكلّ يُترجم. لكن ما هو المترجَم؟ وفي خدمة مَن؟ بالتأكيد، تعلمُ أنّ ثمّة علاقة وثْقى بين المعرفة والسّلطة. في ضوء ذلك، كيف يمكن تقييم هذا الهوس الترجميّ (الهوس، إيجابياً كان أم سلبياً) في حين أنّه، كما أشرتَ أنت سالفاً، "الترجمة هي فعلُ مقاومة"؟

تأتي مشاريع الترجمة العربية المهمة الحالية، للأسف، في سياق تدهور الوضع العربي على جميع الأصعدة، وفي سياق رغبة بعض الأنظمة العربية في شيء من "الزينة" الثقافية المصحوبة لدى عدد منها بقدرات مالية مخيفة. وعلى الرغم من الجدارة المعرفية والإدارية الممتازة لدى بعض من يقفون وراء هذه المشاريع (جابر عصفور، عزمي بشارة، الطاهر لبيب ...)، وعلى الرغم من الأهمية البالغة لما أتوا به، فإن سياق التدهور والتصحّر و"خروج العرب من التاريخ" يرمي بثقله الضخم فوق كل ذلك، ويطغى على الحسّ النهضوي النقدي الذي يحمله أمثال هؤلاء، وعلى معارفهم وحسن تخطيطهم، كأنما الاستبداد والتخلّف مصممان على افتراس كلّ برعم يانع في سياق افتراسهما بلداننا إلى غير رجعة.

الاستبداد والتخلّف مصممان على افتراس كلّ برعم يانع في سياق افتراسهما بلداننا إلى غير رجعة

أمّا الهوس الترجمي خارج مثل هذه المشاريع، وخارج بعض دور النشر الخاصة المحترمة، فتكاد تسيطر عليه غايات البيع وحدها، من اختيار الكتب التي تُترجَم إلى اختيار المترجمين، غير الأكفاء لترجمتها، ومن سوء تحريرها أو غيابه المطلق إلى بيعها الفاسد للمؤسسات العلمية العربية أو للقارئ "المديوكر" الذي يريد أن يتسلى ويتظاهر بالثقافة.

   هنا، كما على الدوام، لا بدّ من إعادة الكلام على حسن الجمع بين خيارات المترجم الفرد وتفضيلاته وضرورات الثقافة ومؤسساتها، بين وعي الفرد العلمي النقدي ووعي المؤسسة والمشروع الاستراتيجي المستدام، لا سيما أنَّ حركة الترجمة إلى العربية تبقى بالغة الضعف والوهن قياساً بالإنتاج العالمي للمعارف والعلوم والفنون والآداب، ولا سيما أنَّ ثمّة تقصيراً فادحاً في دعم الترجمة إلى العربية والتشجيع عليها. ولعلّ كلمة "التقصير" لا تعبّر عن فداحة الأمر، تلك الفداحة التي لعلّها تبلغ حدّ طرح السؤال عما إذا كانت الثقافة العربية، ومعها العرب، تريد أن تعيش في العصر أم تريد العودة إلى "الماضي المجيد" الذي هو في الحقيقة مجرد حاضر ومستقبل كارثيين. قبل أن تغدو حركة الترجمة سليمة، وفي مقدمة ذلك خياراتها العلمية والنقدية وحسن أدائها، يصعب الكلام عن واقع ثقافي صحي. الترجمة وخياراتها عَرَض واسم وعلامة دالّة في السرّاء والضرّاء.

سوريّة. طبعاً لا يمكن نسيانها. هذا الخراب الذي يراه العالمُ كلّه (العالم ذاته الذي ساهم في هذا الخراب، ياللمفارقة)، أقول هذا الخراب يُترجَم في الصحف العالميّة، في وسائل الإعلام العربيّة والغربيّة، وفي تركيا..، برأيك، الترجمة كفعلٍ، كحياةٍ، كيف يمكننا ربطها بما يجري من الصراع في سوريّة؟

من المبكي، بل من المخيف وربما المدمّر، أنّ النظام وقسم كبير من المعارضة السورية وحلفائها نجحوا، لا في تحويل حركة احتجاجية مدنية محقّة وسلمية إلى حرب شعواء فحسب؛ بل في إعادة سوريا قروناً إلى الوراء على جميع الأصعدة، بما في ذلك تهتيك النسيج الوطني السوري. وفي ميدان السياسة والفكر والثقافة، كان من المخيف، بالنسبة إليّ وإلى عديدين، أنَّ النخبة السياسية والفكرية السورية المعارضة، في كتلتها الغالبة، ساقت شعبها، حين آلمه القمع الوحشي وراح يصرخ متوجعاً ومستنجداً بها، إلى مزيدٍ من كارثةٍ أين منها الفشل الذريع مرّات.

اقرأ أيضاً: أول من أهدى المنطقة العربية حرفاً مطبوعاً بلغة الضاد

تميّزت سوريا عن بقية بلدان ما دُعي "الربيع العربي" بأمور حاسمة، منها: تغييب احتكار السلطة والقمع المديد كلَّ مظهر جدّي من مظاهر المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيات، نوادي، صحافة مستقلة، قضاء مستقل... إلخ)؛ والتحام الجيش التحاماً وثيقاً بقمة السلطة؛ وتمكّن قبضة النظام الأمنية على مدى عقود من إسكات الشعب وكسر عظام المعارضة؛ وموقع سوريا الجيوسياسي الإقليمي والدولي وعلاقتها الوثيقة بالقضية الفلسطينية؛ وبنية النظام الصلدة العاجزة عن احتمال أدنى اختلاف. كلّ ذلك كان يجب أن يدعو إلى التمسّك برفض العنف والطائفية والتدخل الخارجي مهما كان الثمن، بل إنَّ مثل هذا التمسّك أومى في البداية إلى احتمال النجاح. لكن عنف القمع والتذرّع به لتبرير المساوئ المقابلة ما لبث أن أودى بكل شيء. ويبدو لي أن بنية المجتمع السوري وتاريخه وموقعه تفضي إلى حقل ثقافي وفكري معطوب أو "خفيف" على الأقل، لا يقوى على استكناه ولا على حمل مهمات جسام كمهمات التغيير الجذري وطرائقه. وهو أمر بات أصعب بكثير بعد دفع القمع وسواه من الأمور أقساماً واسعة جداً من النخب السورية المعارضة إلى الخروج من البلد.

ديب: لا يخدعني ما هو سائد من إعلاء شأن المثقف المهاجر واللاجئ على حساب الثقافة الوطنية

ومع أنني متزمّت في الدفاع عن المثقفين الوطنيين الذين يعيشون ويبدعون ويترجمون ويقاومون في بلدانهم، ولا يخدعني كثيراً ما هو سائد من إعلاء شأن المثقف المهاجر واللاجئ على حساب الثقافة الوطنية، إلا أنني أدعو المثقفين السوريين في الخارج، ومن بينهم وربما في أولهم المترجمين، إلى التنادي للتخطيط لإنتاج ثقافي وفكري وإبداعي، ترجميّ وتأليفي، أدعوه بـ"إنتاج المنفيين" لا بـ"إنتاج المهاجرين"، إذ عادةً ما يكون ثمة مبدأ لدى المنفيّ -وأقصد به تحديداً ذلك المُرَحَّل بالإكراه أو الذي حرمه خوف البطش به شخصياً وعلى وجه التحديد من العيشَ في مسقط رأسه بعكس إرادته ورغبته- وهو مبدأ يجعل الكتّاب المنفيين غالباً ما يكتبون بالدرجة الأولى لقرّاء لغتهم الأصلية في بلدهم الأصلي أولاً ثم في الشتات، وليس كي يُترجَموا إلى اللغات الأخرى في المقام الأول، بخلاف أدعياء المنفى الذين لا يربطهم مثل هذا الرباط المبرم والذين، حين لا يكتبون بلغة البلد الجديد، غالباً ما يكتبون كي يُتَرْجَموا، أو كي يُتَصَدَّق عليهم بأيّ شيء إذا كانوا أقلّ طموحاً. ومن هنا ما نجده لدى هؤلاء من إصرار على تقديم المجتمعات التي خرجوا منها بالصورة النمطية المسبقة التي تروق للثقافة السائدة في البلد الجديد، ومن صمتٍ عن جرائم البلد الجديد في الداخل والخارج، ومن تأكيد على قطعهم كل آصرة مع بلدهم الأصلي وبدء الكلام على خصوبة انفصال المرء عن مجتمعه الأصلي وليس على ألم هذا الانفصال، إلى آخر عدّة النَّصب الثقافي التي سبقهم إليها معارضون وكتّاب عرب باتوا أشهر من نار على علم.

اقرأ أيضاً: ترجمة عربية لموسوعة كمبردج لتاريخ الأدب العربي

"إنتاج المنفيين" هذا الذي يستهدف أبناء جلدتهم مستعيناً بما تتيحه الثقافة الجديدة من إمكانات معرفية وعلمية وإبداعية ونقدية، يمكن أن يكون لبنة مهمة حقّاً تنضاف إلى إنتاج المثقفين الوطنيين والديمقراطيين الذين اختاروا البقاء والمواصلة في ظروف أصعب بكثير، ظروف تكاد تقترب من المستحيل.

هذا ما يسعني أن أقوله لكم عن الربط بين الترجمة وما يجري في سورية. هل لديكم من كلام آخر؟ إنّه ليشوقني بلا حدود، بل إنه مسألة حياة أو موت بالنسبة إليّ، أن أسمع ما ينير ويفيد عن معنى الثقافة والترجمة في سورية، وعن سورية ومستقبلها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية