هل قتلت رهبانيّة السوق الأنبا أبيفانيوس؟

هل قتلت رهبانيّة السوق الأنبا أبيفانيوس؟


16/08/2018

في القرن الثالث الميلادي ظهرت الرهبنة في مصر كشكل من أشكال المقاومة السلبية؛ حيث هرب المسيحيّون من بطش الرومان إلى الصحراء الواسعة، وهناك ظهرت الأديرة كأماكن للتعبد والسكن، وعلى هامش الدير نشأت بعض الأنشطة الاقتصادية البسيطة، وكانت في معظمها تقوم على الرعي والزراعة لتأمين احتياجات الرهبان، الذين مارسوها بجوار الصلاة والتعبّد، ومع انتشار المسيحية، واستقرارها في مصر كديانة رسمية، ظلّت الأديرة مركزاً للنشاط الروحي، ورمزاً للزهد والانقطاع عن متع الحياة، وهو ما يمكن عدّه التأسيس الأول للتصوّف في الشرق.

العامل الاقتصادي يؤسّس لسلطة دنيوية

بحسب "ماكس فيبر"؛ فإنّ السلطة تنشأ من خلال وجود ثلاثة شروط رئيسة هي: القدرة؛ وتعني إمكانية ممارسة السلطة من طرف فرد على أفراد، والسيطرة؛ وتعني إمكانية فرض نظام معين للطاعة، وأخيراً الانضباط؛ أي إمكانية خلق نظام معيّن لطاعة فورية تلقائية. ومع وجود كلّ هذه الشروط الموضوعية، تأسّس نظام صارم لإدارة الدير، وهو ما تزامن مع اتساع مساحة الأنشطة الاقتصادية التي فاضت مخرجاتها عن احتياجات الدير، وإذا كان "فيبر" قد ربط مفهومي القدرة والقوة بالمجال السياسي، فإنّه ربط مفهوم السيطرة بالمجال الاقتصادي، وهو ما تحقّق بالفعل داخل منظومة الرهبنة المسيحية في مصر، وبات الوضع أشبه بتخلّق سلطة دنيوية استبدّت باسم المسيح، وأثّرت من خلال الأنشطة الاقتصادية المتنوعة، حتى أنّها حوّلت الاحتفالات الدينية الموسمية إلى سوق تجاري كبير، وباتت تصدّر الفائض خارج الدير، لتحصل على أرباح طائلة.

اقرأ أيضاً: مقتل راهب يفضح صراعات متشعبة داخل الكنيسة المصرية

مع الوقت، وفي ظلّ إحكام قبضة الكنيسة على الشعب القبطي، وهو ما كرّسته الدساتير المتعاقبة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، أصبحت الرهبنة هدفاً للكثيرين، وفي ظلّ انخراط البعض في ممارسة أنشطة تجارية باسمه، والاندماج الكبير في الحياة الدنيوية، تفكّكت القيم الرهبانية المؤسسة، وانحلّت إلى ممارسات فردية أقرب ما تكون إلى رهبانية السوق.

الدير يتحوّل إلى ساحة حرب

تبلغ مساحة دير أبو مقار حوالي 2700 فدان، يشغل منها الدير بأبنيته وملحقاته نحو أربعة فدادين، والباقي أراضٍ زراعية منتجة. ومنذ الستينيات، وحتى وفاته عام 2006م، كان الدير تابعاً لسلطة الأب متى المسكين، وهو أحد روّاد الإصلاح الديني في الكنيسة الأرثوذكسية، وقد تسبّبت أفكاره في حدوث خلاف حادّ بينه وبين البابا شنودة، الذي اتهمه بإفساد العقيدة، وانتهز وفاته ليزرع عدداً من أتباعه داخل الدير، وهو ما تسبّب في حدوث انشقاق حادّ، وصراع في الأفكار بين المجموعة القديمة التابعة للأب متى المسكين، والتي تمثل الأغلبية، والمجموعة الجديدة التي جاءت في أعقاب وفاته.

هذا التحوّل الدرامي فجّر أزمة لم تواجهها الكنيسة القبطية منذ قيام مجموعة الأمة القبطية باختطاف البطريرك يوساب الثاني

ازداد الصراع حدّةً مع وصول الأنبا أبيفانيوس لرئاسة الدير بالانتخاب عام 2013م، وهو التلميذ المخلص للأب متى المسكين، وقد هاله مدى الابتعاد عن حياة الرهبنة، وانخراط الرهبان الجدد في ممارسة أنشطة تجارية دنيوية، والتربّح من وراء الدير، لينتهي الصراع بأوّل جريمة قتل لرئيس دير على يد أحد الرهبان، وبتخطيط من آخرين.

هذا التحوّل الدرامي الذي شهد في فصوله المتلاحقة محاولة أحد الرهبان الانتحار داخل الدير، وما أبدته تيارات مسيحية من شماتة في الأنبا المقتول، وعلى رأسها جماعة "حماة الإيمان"، فجّر أزمة لم تواجهها الكنيسة القبطية منذ قيام مجموعة الأمة القبطية باختطاف البطريرك يوساب الثاني، عام 1954م، عقب انفلات الأمور من يده، وقيام سكرتيره بممارسة أنشطة مشبوهة؛ حيث أجبروه على التنحّي عن كرسي البطريركية.

تسليع المسيحية ترنيمة أخيرة في مسلسل السقوط

يقول المسيح: "مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدّامي يجاهدون كي لا أسلم إلى اليهود، لكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يو18: 33-36).

يمكن القول: إنّ تحوّل الكنيسة من مساحة الرعاية الروحية، إلى ممارسة سلطة اجتماعية ودور سياسي لاحق، عن طريق التوجيه والتنسيق مع الدولة، التي غضّت الطرف عن ظهور دولة الأقباط، أدّى إلى المزيد من العزلة، وعدم الاندماج الكامل للمسيحيين، خاصّة في (جيتوهات) الصعيد، وهو الأمر الذي ساعد عليه التطرف السنّي، واستهداف الجماعات الإرهابية للأقباط، وكانت المحصلة هي المزيد من توغل الكنيسة، وتعاظم سلطتها، وبات العنصر الاقتصادي شديد الأهمية، ليس فقط في إدارة الاقتصاد الديني المتنامي بمشروعاته المختلفة، وإنما أيضاً عملية ربط الأنشطة الاقتصادية التي يملكها مسيحيّون بالكنيسة، والتي تحوّلت إلى إدارة تشغيل، مستفيدة مرة أخرى من أجواء التعصب الديني لدى قطاع من المسلمين.

ظهرت الفضائيات المسيحية وأطلّ عدد من الدعاة والمبشّرين يمارسون الدور نفسه للدعاة الإسلاميين الجدد

وفي سياق متصل، ظهرت الفضائيات المسيحية، وأطلّ عدد من الدعاة والمبشّرين والعابرين، يمارسون الدور نفسه الذي مارسه الدعاة الجدد في السياق الإسلامي، وتنوّع خطابهم بين الأداء الناعم الجاذب الذي يمثله "سامح مرقص"، والصدامي الحاد الذي يمثله "زكريا بطرس"، وهو الأمر الذي كرّس لمزيد من الوصاية الدينية، إضافة إلى الاستقطاب الحادّ، وممارسة خطاب طائفيّ بامتياز، غذّاه الشعور العام بالمظلومية، وأداء الدولة الرخو في مواجهة الصراعات الطائفية، والتي تسفر في أحيان كثيرة عن تهجير قسريّ، يحمل ظلماً ثقيلاً على الأقليّة.

وعليه؛ باتت المسيحية هي الأخرى سلعة وتجارة رائجة، يمارسها بعض رجال الدين، وهو الأمر الذي أصبح يميّز الأدوار الوظيفية للدّين في المجتمع المصري بشكل عام، لكنّ العدالة تقتضي طرح المشهد العام كلّه للتحليل؛ فإسلام السوق في التسعينيات مهّد الطريق لرسملة الرعاية الروحية التي تمارسها المؤسسات الدينية، وأوعز بتكريس المزيد من العزلة على الأقليات.

اقرأ أيضاً: الدعاة الجدد: عندما ترتدي المدرسة الإنجيلية ثوباً إسلامياً

ويمكن القول: إنّ القرارات الأخيرة التي أصدرها البابا تواضروس الثاني لضبط حياة الرهبنة، وفرض المزيد من القيود على الرهبان، ومنعهم من ممارسة الحياة الدنيوية، لن تأتي بجديد، إن لم يتم ضبط الأنشطة الاقتصادية للأديرة، والتي التهمت المساحة الروحية، وتوسعت على حسابها؛ فالتساؤلات الصعبة التي سوف تشهدها الأيام المقبلة، ستأتي في أعقابها حتماً رياح الإصلاح الديني.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية