هدية من مدرس مسيحي

هدية من مدرس مسيحي


20/08/2018

في مطالع الستينيات كان لكثير من نزهات نهارات الجمعة في العشار، بالبصرة، أن لا تختتم من دون المرور بصديق للوالد، وكان هذا، في ما بدا لي وأنا طفل، صديقاً استثنائياً.
استقبل الوالد هذا الصديق مرّات في البيت، واستقبلنا هو مرات أخرى في منزله، وكان بحيٍّ آخر غير الحيّ الذي كنا نقيم فيه. لكن اللقاءات الأسبوعية المعتادة ظلت تتواصل في متجره الصغير بشارع الهنود في العشار.

كان المجتمع في العراق المعاصر متعايشاً بينما المناهج تحيا في عالم آخر، لا تريد معه فهم التنوع المجتمعي

استغربت الاسم حين كان الوالد يناديه بـ (ألبرت). لم أعرف معنى الاسم، ولم أسمع بمثله من قبل، وحين سألت الوالد عن ذلك أوضح لي أن صديقه مسيحيٌّ. وكان عليّ، أنا المولود والعائش في بيئة مسلمة، أن استفسر عن معنى أن يكون رجل مسيحياً، "إنها ديانة تتبع عيسى المسيح،عليه السلام، فيما نحن مسلمون على دين محمد، عليه السلام، وكلاهما نبيّان"، يسكت كلانا للحظات يؤكّد الوالد بعدها أنّ صديقه متديّن وطيب، وعزا استمرار صداقتهما لهذا التقارب الأخلاقي في ما بينهما.
أحسب الآن أنّ، بعد هذه الأعوام، أنّ هذا التأكيد من الوالد على الجامع الأخلاقي كان ينطوي على دلالة ربما لم يقصدها آنذاك؛ وكانت الدلالة أنّ الفشل في معرفة الدين، بالنسبة للطفل، يمكن تعويضه بالجانب الأخلاقي. وكان لـ (ألبرت) من اللطف والتهذيب ما يكفي ليعزز الصورة الأخلاقية عنه التي أراد الوالد من طفله فهمها.

اقرأ أيضاً: مسيحيون يشدون بحب النبي
مرّات كثيرة كنا نغادر متجر (ألبرت) لبيع الصابون لندلف في زقاق صغير، ونمرّ بمتجر لمصوغات الذهب، وكان لرجل صديق أيضاً للوالد الذي يخاطبه بـ (أبو عادل). و(أبو عادل) صابئي، بغترةٍ حمراء ولحية بيضاء طويلة. لا مشكلة لي في تفهّم ديانة الصابئة، فكثيرٌ منهم كانوا، كما كنا نحن، نعيش معاً في كانتونات الفقر في البصرة، مدينة النفط والنخل والأنهار.
في مقاييس تلك السنوات، وما بعدها، لا غرابة في تلك الصداقات العابرة للاختلاف الديني، ليس في البصرة وحدها وإنما في جميع مدن العراق حتى تلك المتاخمة لأرياف الأهوار، وكانت أماكن الجيرة والعمل والجندية والأسواق والنوادي توفر مناسبات طيبة لنشوء تلك الصداقات بلا عقد ولا حواجز.

لا أخطر من المناهج التعليمية في صنع شخصيات الأطفال ووعيها وتفكيرها ومن ثم صنع مستقبل الأمّة

في المدرسة الابتدائية لم يختلف الأمر بالنسبة للتلاميذ الذين كنت بينهم. تُصادف في الصف الواحد بعضاً من التلاميذ المسيحيين والصابئة، وكان الاختلاف الوحيد الذي يثير الانتباه هو في درس التربية الدينية؛ حيث يختار بعض التلاميذ بمحض إرادتهم مغادرة الصف أثناء الدرس بينما يظل بعضهم، بإرادتهم أيضاً، في الصف برغم أنهم مسيحيون وصابئة.
كان يمكن للدرس أن يحتفظ بجميع التلاميذ، ليس هذا أمراً مستحيلاً. فما يحتاج إليه التلاميذ من الدرس هو حُسن التربية ولُطف العيش مع الآخرين، وهذا ما يمكن أن تتفق بجوانب كثيرة منه مختلف الديانات.

اقرأ أيضاً: "المسيح الأسمر" في مواجهة عنصرية الرجل الأبيض
درس التاريخ، بموجب المناهج الدراسية باختلاف أطوارها، كان وما يزال يفتقر إلى الاعتناء بتاريخ الديانات والقوميات العراقية، وتكاد تختفي عن هذه المناهج أية إشارة إلى إسهام أبناء الديانات في البناء الحضاري الذي ارتفع على هذه الأرض وانهدّ فيها. كان يمكن لتفادي هذا النقص أن يكون عاملاً مهماً في ترسيخ مبادئ الوطنية من جانب وتكريس قيم العيش المشترك من جانب آخر، وربما هذا حال تشترك فيه الكثير من دول المنطقة.
دائماً كان المجتمع في العراق المعاصر متعايشاً بينما المناهج تحيا في عالم آخر، لا تريد معه فهم التنوع المجتمعي، ولا التعبير عنه. ولا أخطر من المناهج التعليمية في صنع شخصيات الأطفال، ووعيها وطرق تفكيرها، ومن ثم في صنع مستقبل الأمّة.

المناهج تساعد في خلق الثقافة بينما التعايش يجري التعبير عنه بالعادات والتقاليد والسلوك

سواي من أبناء جيلي في المدن العراقية المشتركة يحتفظون بالكثير من الذكريات عن حُسن التعايش الذي يجمع أولاداً من ديانات مختلفة في ألعابهم ونزهاتهم ومشاجراتهم وصداقاتهم. لا عجب في هذا فما أكثر ما كانت تتجاور الكنائس والمساجد كتعبير حيٍّ عن تجاور الناس واختلاطهم. وبهذا الاختلاط لا تعدم أن تصادف سيدة مسلمة تمضي إلى كنيسة لتفي بنذرٍ لها للسيدة العذراء أو لابنها المسيح، كما لا تعدم مصادفة مسيحيين في الطقوس المختلفة للمسلمين، بشيعتهم وسنتهم.
لكن مثل هذا التعايش والانسجام لم يجد ما يعبّر عنه في المناهج الدراسية.
المناهج تساعد في خلق الثقافة، بينما التعايش يجري التعبير عنه بالعادات والتقاليد والسلوك، وما لم يكن السلوك مدعماً بثقافة ترسِّخ قيمة التعايش فإنه يظل سلوكاً قابلا للتغيّر باختلاف الظروف. وقد بتنا مؤخراً نواجه في عالمنا العربي المسلم، ما بين المسلمين أنفسهم، صدىً موحشاً لغياب هذا التوازن ما بين الثقافة والسلوك والتقاليد، نحن تعايشنا كمسلمين مع بعضنا بموجب تقاليد المجتمعات، لكننا ننقسم الآن بموجب الفشل الثقافي، والمناهج في الصميم من هذا الفشل.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن البلامسة أو سلفية المسيحيين؟
في المرحلة المتوسطة، وكانت ببغداد أواخر الستينيات ومطلع السعينيات، لاحظ مدرسٌ بوادرَ اهتمام أدبي عندي، فتلقيت منه هدية يجب ذكرها، إنها نسخة أنيقة من القرآن الكريم، أوصاني بضرورة مواصلة القراءة فيه لتستقيمَ لغتي.
الآن استعيد هذه الذكرى، فأُدهش لعدم وقوفي يومها عند مفارقة الهدية ومُهديها، وكان يجب أن لا أُدهش بحكم التقاليد وبحكم ثقافة الخواص التي كانت وراء هذه الهدية، لا ثقافة الدولة ومناهجها.
ذلك المدرس الطيب كان مسيحياً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية