"الهوية والعنف": هل ديانتك هي هويتك؟

"الهوية والعنف": هل ديانتك هي هويتك؟


28/08/2018

يقدّم أمارتيا سن؛ الحائز على جائزة نوبل، وأستاذ الفلسفة والاقتصاد بجامعة هارفارد، في كتابه "الهوية والعنف"، مقاربة عميقة لفهم ومواجهة العنف والتطرف وعلاقتهما بالهوية وتشكلاتها، ويلاحظ أنّه يجري إفهام قسريّ لربط العنف والهويات بالدين، ويشير إلى التقسيم العالمي السائد، الذي عبّر عنه كأمر واقع صمويل هنتنغتون، في كتابه المشهور صراع الحضارات إلى مجموعة من الأديان والحضارات، مع تجاهل الهويات الأخرى التي يتمتع بها الناس ويقدرونها، مثل: النوع، والطبقة، والمهنة، واللغات، والعلم، والأخلاق، والسياسات.

وهم الهوية المتفردة

يقول "سن" في كتابه، الذي صدر مترجماً للعربية ضمن سلسلة عالم المعرفة العام 2008: إنّه يمكن أن يتحول وعي معمَّق منذ النشأة بهوية مشتركة مع جماعة من الناس إلى سلاح قوي، يوجه بوحشية ضد جماعة أخرى. والواقع أنّ كثيراً من النزاعات تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها، ويمكن أن يهزم الشعور المفرط بالهوية مشاعر التعاطف الفطري، ويدفع إلى العنف والإرهاب، ويمكن أن يكون الشعور بالهوية مصدراً ليس فقط للفخر والبهجة؛ بل أيضاً للقوة والثقة، وليس من المدهش أن فكرة الهوية تلقى مثل هذا الإعجاب المنتشر.

اقرأ أيضاً: الخرافة الدينية والآخر في التصور الشعبي.. جهل أم عنف؟

أمارتيا سن؛ الحائز على نوبل، وأستاذ الفلسفة والاقتصاد بجامعة هارفارد

وبالطبع؛ فإنه لا تمكن، ولا تصلح، مواجهة العنف والتطرف بكبح الهويات؛ لأنّ الهوية يمكن أن تكون مصدر الدفء والثراء، كما يمكن أن تكون مصدر العنف.

يقدّم الكتاب مقاربة عميقة لفهم ومواجهة العنف والتطرف وعلاقتهما بالهوية وتشكلاتها

هل الهوية مسألة اختيار أم إدراك للذات؟ يتساءل "سن"، ويذكر حادثة طريفة في هذا السياق؛ جرى نقاش في العشرينيات في إيطاليا، بين أحد نشطاء الحزب الفاشي الذي يدعو ناشطاً اشتراكياً للانضمام إلى الحزب الفاشي، فقال له: لكنّني اشتراكي، وأبي كان اشتراكياً، وجدي كان اشتراكياً، قال له الفاشي: افرض أنّ أباك كان قاتلاً، وجدك كان قاتلاً، ماذا تفعل؟ قال الاشتراكي: في هذه الحالة انضم إلى الحزب الفاشي. والشاهد ببساطة أنّ في مقدرونا بناء هوياتنا حول تحسين الحياة والعمل المشترك، بدلاً من التقسيم والتعصب؛ فإذا كنّا جميعاً نتألم ونجوع، ونتعب، ونحب ونكره، ونخاف ونقلق، ونشعر بالحر والبرد، فلماذا نكون مختلفين في طبقاتنا أو أدياننا؟!

خطورة دعوة الإسلام إلى التسامح

ويشير أمارتيا سن إلى عمليات مواجهة التطرف المستمدة من محاولات التقريب والتسامح، بناء على قراءة معتدلة للإسلام، وبتوظيف رجال الدين المسلمين، ويقول إنّها مشكلة أكثر خطورة من التحريض على الإسلام، ففي دعوة المسلمين إلى التسامح؛ لأنّ الإسلام دين سلام، وأنّ المسلم الحق متسامح بالضرورة، نقحم الإسلام في الصراع بدلاً من تجنيبه هذا الصراع.

اقرأ أيضاً: عنف الإرهاب وتركة التراث الفقهي

صدر الكتاب مترجماً للعربية ضمن سلسلة عالم المعرفة عام 2008

يؤكد "سن" أنّ رفض فكرة صدامية عن الإسلام والمسلمين فكرة مهمة، لكننا أيضاً يجب أن نسأل ما إذا كان ضرورياً، أو حتى ممكناً، استخدام مصطلحات سياسية في تعريف ما يجب أن يكون عليه المسلم الحق، فلا ضرورة لأن تكون ديانة المرء هي كل هويته على وجه الحصر، والإسلام لا يلغي الاختيار المسؤول في كثير من مجالات الحياة، ويمكن أن يتخذ مسلم خياراً صدامياً، ومسلم آخر يتخذ خياراً متسامحاً، ويظلان مسلمين.

نزاعات كثيرة تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها يمكن أن يهزم مشاعر التعاطف الفطري

ويبدو أنّ تزايد الاعتماد على التصنيف القائم على الدين لأهل هذا العالم، يميل إلى جعل ردّ الفعل الأوروبي على الصراع والإرهاب الكوكبي، يحدث بطريقة تخلو من أيّة براعة، فاحترام الناس الآخرين يتم التعبير عنه بالثناء على كتبهم الدينية، بدل ملاحظة الأنشطة والإنجازات المتعددة الأوجه في مختلف المجالات، الدينية وغير الدينية، لأناس مختلفين في عالم متفاعل على مستوى كوكبي؛ ففي مواجهة ما يطلق عليه "الإرهاب الإسلامي" في التعبيرات المشوشة لسياسات العولمة المعاصرة، فإنّ القوة الفكرية للسياسة الغربية موجهة بشكل أساسي لمحاولة تعريف أو إعادة تعريف الإسلام.

تعدد الهويات

التركيز على التصنيف الديني الضخم وحده لا يعني فقط أن يفوّت علينا الاهتمامات والأفكار الأخرى التي تحرك الناس، بل إنّ ذلك يؤدي إلى التضخم بشكل عام من صوت السلطة الدينية، وعلى سبيل المثال؛ يعامل رجال الدين المسلمون في هذه الحالة، باعتبارهم -بحكم منصبهم- المتحدث الرسمي لما يسمى "العالم الإسلامي"، رغم أنّ عدداً كبيراً جداً ممن يدينون بالإسلام، لديهم خلافات عميقة مع ما يقدمه رجال الدين، لكن يمكن أن يكون الإنسان متسامحاً ومعتدلاً، ويؤمن -في الوقت نفسه- إيماناً قوياً وعميقاً بمعتقدات دينية.

الإسلام دين سلام ودعوة المسلمين للتسامح تقحم الإسلام في الصراع بدلاً من تجنيبه إياه

إنّ الإنسان، كلّ إنسان، متعدد الهويات، وهذه الهويات ليست ثابتة، كما أن أهميتها لا تكتسب الأهمية نفسها دائماً؛ إذ تزيد هذه الأهمية حسب الأحداث والمناسبات والظروف، فيمكن أن يكون أحدنا مسلماً، ونباتياً، ومشتغلاً بحماية البيئة والحفاظ على نوع من الطيور المهددة بالانقراض، ومشاركاً في هوايات وألعاب رياضية وثقافية، ومشجعاً لأحد الأندية العالمية أو الوطنية، وينتمي أيضاً إلى فلسفة ليبرالية أو يسارية في الاقتصاد والسياسة والتنمية، وقد يكون متديناً أو غير متدين، وفي تدينه يسلك خيارات واتجاهات عدة، من المذاهب والسلوك والفكر والاعتقاد، وفي الصراعات الدولية والإقليمية يتخذ رؤية ومواقفَ تبدو متفقة مع خصومه السياسيين أو الدينيين، وفي اهتماماته التخصصية والثقافية؛ يسلك اتجاهات علمية وثقافية تتفق أو تختلف مع آخرين، وكذا في أسلوب حياته وطعامه ولباسه، ..إلخ. كيف يمكن تصنيف أو محاسبة مثل هذا الشخص؟ وهذا ليس مثالاً نادراً؛ إذ إنّ معظم الناس، إن لم يكن جميعهم، ينطبق عليهم هذا الوصف.

اقرأ أيضاً: هل يرغب الإنسان حقاً في الحد من انتشار العنف بأشكاله؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية