الاغتراب عند الإسلامويين مشكلة نفسية أم قيمة عليا؟

الاغتراب عند الإسلامويين مشكلة نفسية أم قيمة عليا؟

الاغتراب عند الإسلامويين مشكلة نفسية أم قيمة عليا؟


28/12/2023

الاغتراب والعزلة وسوء التكيّف؛ كلّها مشكلات نفسية اجتماعية، تحتاج إلى تدخّل مهنيّ راقٍ، يعمل على استعادة الشخص الذي يعاني من هذا الشعور إلى حضن المجتمع؛ ليتمكّن من التكيّف معه.

وحدهم الإسلاميون؛ الذين يرون الاغتراب قيمة عليا، على المسلم الحقّ أن يتحلّى بها؛ بل يرون الاغتراب شعاراً للحياة، ولم أجد في تاريخ الحركات الإسلامية تجسيداً لهذا الفهم، إلا مشهد قيام أحد قادة الإسلاميين المتطرفين، من جماعة الجهاد، والمتهم بقتل رفعت المحجوب، بإنشاد أنشودة "الغرباء".

وحدهم الإسلاميون يجعلون الاغتراب شعاراً للحياة ويرونه قيمة عليا على المسلم الحقّ أن يتحلّى بها

ففي 12 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1990، وأثناء مرور موكب الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب، أمام فندق سميراميس في القاهرة، تعرّض لعملية اغتيال؛ عن طريق مسلّحين مجهولين، أطلقوا عليه النيران من فوق (كوبري قصر النيل)، وسرعان ما قامت قوات الأمن بإلقاء القبض على بعض أعضاء الجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد، بتهمة ارتكاب تلك الجريمة.

وانتهت المحاكمة، في 15 أيار (مايو) العام 1993، بإدانتهم، والحكم بالإعدام على عدد منهم، لكن سرعان ما تقدّموا إلى محكمة النقض، التي برّأت بعضهم، وأدانت آخرين، وأثناء انتظار المتهمين في قفص المحكمة، وقف المتهم الثالث، الذي حكم عليه بخمسة عشر عاماً، بعد النقض، وأنشد نشيد "غرباء" الذي تقول كلماته:

غرباء ولغير الله لا نحني الجباه

غرباء وارتضيناها شعاراً في الحياة

إن تسل عنّا فإنا لا نبالي بالطغاة

نحن جند الله دوماً دربنا درب الأباة

لا نبالي بالقيود سوف نمضي للخلود

فلنجاهد ونناضل ونقاتل من جديد

غرباء هكذا الأحرار في دنيا العبيد

كم تذاكرنا زماناً يوم كنا سعداء

بكتاب الله نتلوه صباحاً ومساء

غرباء ولغير الله لا نحني الجباه

غرباء وارتضيناها شعاراً للحياة

كلمات الأنشودة ذات دلالة خطيرة وواضحة؛ فهم يجعلون الاغتراب شعاراً في حياتهم؛ أي أنّه مطلوب في ذاته.

إذاً؛ الاغتراب الذي يعاني منه الإسلاميون، الذي يرونه فعلاً وخلقاً ممتازاً، من وجهة نظرهم، هو ما يجعلهم أحراراً ويجعل غيرهم عبيداً! ويجعل الزمن زمن عبيد، ويجعل إرهابهم وتطرّفهم نضالاً وجهاداً، وإنّ توقفهم عن هذا الإرهاب هو خضوع للطغاة، ويكرّر المنشد أنّ الاغتراب شعار للحياة، وأنّهم غرباء لله.

لم ينشأ مفهوم الاغتراب في هذه الأنشودة، أو تلك الواقعة؛ بل قبل ذلك، مع الإخوان المسلمين في عهد حسن البنا، وفي عهد سيد قطب؛ الذي أسهب في صورة العزلة الشعورية، وفي السبعينيات من القرن الماضي؛ كانت مجلة "الدعوة" تجمّل الاغتراب، وتسوّق له عبر صفحاتها تحت عنوان "أدب الغرباء".

في السبعينيات كانت مجلة "الدعوة" تجمّل الاغتراب وتسوّق له عبر صفحاتها تحت عنوان "أدب الغرباء"

إنّ مفهوم الاغتراب نشأ عند أعضاء التيار الإسلاموي، كشعور نفسي عام، باعتبارهم غرباء عن المجتمع؛ فبعد إيمانهم بمبدأ فساد الزمان الحالي، كان لا بد من أنّ يؤمنوا بأنّ هناك، وسط كلّ هؤلاء الفاسدين، فئة وعصبة مؤمنة.

لهذا؛ كانت نظرة الإسلامي لزمانه، وأهل زمانه، نظرة دونية، فهو يرى زمانه زمن انحلال، وزمن فساد، وزمناً ضاع فيه الإسلام، ونظراً إلى ذلك الفساد والضياع؛ على الناس أن تتبعه، كإسلامي، في فهمه، وفي لباسه، وفي تفكيره؛ فحلّ المشكلات يملكه الإسلاميون وحدهم؛ تحديد مفاهيم المجتمع لهم وحدهم، تربية المجتمع، أفراد وجماعات، هم فقط من يمكنهم ذلك.

وبالتالي؛ إذا لم يتمكّن الإسلامي من تصدّر المجتمع، وفشل في التواجد، فهذه ليست مشكلته؛ لأنه، ببساطة؛ غريب يعيش وسط مجتمع لا يفهمونه ولا يقدرونه.

وأصل هذا الإحساس، وتلك الغربة، من الحديث المأثور: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟  قال: الذين يصلحون عند فساد الناس"، يرتكز الإسلاميون على هذا الحديث، كأنّه يخصّهم وحدهم، وكأنّه قيل لهم وفيهم، دون غيرهم، لهذا يرون أنفسهم هم المسلمين حقاً، وغيرهم من الناس على ضلال (عوام الناس، حتى إن كانوا من التيار الإسلاموي نفسه)، ويرون أنفسهم يصلحون وغيرهم يفسد.

رغم أنّ هذا الخلق يعدّه علماء السلوك من أمراض القلوب الخفية؛ وهي تزكية النفس، التي نهانا عنها القرآن الكريم، في سورة النّجم: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}، لكنّ الإسلامويين لا يدركون أنّهم مصابون بأمراض القلوب؛ منذ متى يدرك معلول النية والهوى، أنّه معلول النية، وأنّه مريض؟ لكنّها التربية التنظيمية والتربية الاستعلائية، تنزع هؤلاء من مجتمعاتهم، ومن محاضنهم التربوية الطبيعية، إلى أتون التنظيمات، وما فيها من غلظة وعدم سماحة، واستعلاءٍ، وتكبّر على الناس؛ فيخرج علينا من يكفّر المجتمع، ومن يجهّل المجتمع، ومن يستعلي على المجتمع، ويرى الجميع عبيداً وهو فقط الحرّ، وبالتالي؛ كلّ من يعارض (المسلم الحرّ) متهم في دينه، وفي خلقه، ويجب كفّ أذاه.

التربية التنظيمية تنزع هؤلاء من مجتمعاتهم إلى أتون التنظيمات وما فيها من غلظة واستعلاءٍ ثم تكفير للناس

من المهم أن نكافح مفاهيم الغربة والاغتراب والعزلة الشعورية لديهم، إذا كان المجتمع ينوي دمج بقايا التيارات الإسلاموية، كما يجب أن نصحّح مفهوم الحديث الشريف، وعدم الانسياق وراء تفسير الحديث كأنّ الغربة أمر محبّب؛ لأنّ الاغتراب والغربة، في العموم، سيتجاوز ملامح الأزمة النفسية الخاصة بأبناء التيار الإسلاموي، إلى ترسيخ أزمة إسلامية اجتماعية كبرى.

فإذا تركنا لهم تفسيرهم يعمل في المجتمع، سيكون علينا تقبّل فكرة أنّ الإسلام سيعود غريباً!!

ما يعني أنّ تجربة الغربة لن تكون ملك الصحابة، رضي الله عنهم، الذين شهدوا الاغتراب الأول للإسلام، وتتحوّل حالة الغربة؛ من مرحلة تاريخية، وذكرى قديمة نتعلم منها الدروس، إلى واقع معيش وتجربة حياتية حتمية، ويبحث كلّ مسلم عن المجموعة التي تناسبه، ويشعر معهم أنهم مَن يصلحون إذا فسد الناس؛ أي إعادة تدوير فكرة الانتماء للجماعات الإسلامية من باب خلفي. والله أعلم

الصفحة الرئيسية