هل بمقدور التصوّف علاج أزمة غياب المعنى؟

هل بمقدور التصوّف علاج أزمة غياب المعنى؟

هل بمقدور التصوّف علاج أزمة غياب المعنى؟


10/06/2023

يتعجّب المرء حين يشهد حالة الانفصام التي يعيشها مجتمعنا المعاصر، جرّاء الاعتلال القيمي والانحدار الأخلاقي في المجال العام، رغم حضور الدين، بنسقيه؛ الطقوسي والنصيّ، بشكل كثيف وصاخب تغلب عليه المراءاة، ما أفقده جوهره الحقيقي، إلى صورة مجردة من الإرادة والمعنى؛ أي كأنّ الناس مبرمجون ميكانيكياً بشكل ما على تأدية الطقس، أو النطق بعبارات ونصوص دينية، دون وعيها أو الوقوف لأجل فحص فلسفتها وتأمّل ماهيتها، ومسارات انعكاسها، فيما قد يندرج تحت تصنيف "أزمة غياب المعنى"، وتفريغ الدين من روحانيته.

اقرأ أيضاً: لماذا لم ينجح التصوف كبديل لجماعات الإسلام السياسي؟

تلك الأزمة الكونية التي، للمفارقة، قد تكون الحالة الوحيدة التي تساوى فيها الإنسان، بشرقه وغربه، بفقره وثرائه، إذا جاز لنا استخدام تلك الثنائية الكلاسيكية، في ظلّ التحديات العنيفة التي يواجهها الإنسان العصري، جراء سيطرة قوانين السوق وآلية الحداثة التي لا تتوقف، والاستعباد البشري الممنطق؛ بالسعي خلف التقدم والإنجاز والحرية وسيادة العقل، عاد الإنسان من جديد للبحث عن الدين، وعن الإله، وعن المعنى، لكن في إطاره وموضوعه الروحاني "Spiritual"؛ الذي يقيه عبثية بلوغ الحدّ الأقصى من الرغبة والتحقق، بما لا يتناقض مع مكتسباته من الحرية الفردية؛ أي الدين بوصفه "وظيفة ذاتية وإنسانية".

الفكر الديني ككلّ لا ينشأ من ذاته إنما من خلال الفاعلين الذين يمنحونه المضمون والمغزى الاجتماعي

 لكنّ أزمة الإنسان الإيمانية في المجتمع العربي لم تنشأ من علاقته الإنتاجية بالآلة، ولا فردانيته الناتجة من تحققه الذاتي، أو استقلاليته المادية التي فطمته عن سلطة العائلة والدين والتابوه الاجتماعي، إنّما نشأت من الإحباطات المتوالية، وعدم قدرته على سدّ نزعاته الاستهلاكية، ثم الإحباط السياسي الذي واجهه جراء شعوره بفشل المقاومات الثورية، التي قام بها فيما أُطلق عليه "ثورات الربيع العربي".

تلك الثورات؛ التي جعلت الجيل الحالي من الشباب في حالة اصطدام مستمر مع قوى المجتمع المختلفة، وفقدان الثقة فيها جميعاً، وتحميلها مسؤولية إخفاقه الحاضر، وضياع مستقبله، وبالتالي؛ رفض كلّ ما تمثله هذه القوى من قيم ومنظومات أخلاقية محافظة، إضافةً إلى السقوط المدوّي لتيارات الإسلام السياسي، ثم الدعاة الجدد؛ الذين كانوا يحسبونهم وسيلة نجاة من التطرف والتشدّد.

اقرأ أيضاً: لماذا يكره السلفيون التصوف؟

وبما أنّ المجتمع هو كلٌّ ديناميكي، في حالة تشكّل وتفكّك مستمرّين، بحسب تعبير الفيلسوف جورج زيمل (1858-1918)؛ فإنّ الدين نفسه، أو التدين بصفته المرنة، يُعاد تشكيله ضمن هذه التشكلات المستمرة، لكن عليه أن يضمّ منطقاً قادراً على استيعاب كلّ التغيرات الاجتماعية بداخله، وأن يكون لديه قدر من الإجابات المقنعة على الأسئلة الثائرة والضاغطة، التي تتعلق بسلوك الإنسان في مواجهة الطبيعة الخارجية، ومواجهة مصيره المستقبلي أو الأبدي، وكذلك مواجهة العالم الإنساني المحيط به؛ أي التعامل في ضوء ثلاثية: "الذات، الله، الآخر".

لا بدّ من أن يوضع في الحسبان النزعة الفردانية للفكر بما فيه الديني الذي تفرضه العولمة الآن

وفي ظلّ الحالة المجتمعية المرتبكة التي تلت الموجات الثورية في محيطنا العربي، وما تزال تشهد سقوط قوى، وبناء أخرى، في حالة من التفاوض والإعاشة لبعض الأنماط الفكرية القديمة وأشكال السلطة، ظهر الخطاب الصوفي بكثافة نسبية على السطح، وتمّ الاحتفاء به؛ نظراً إلى محتواه الإنساني الحالم، ورموزه الثورية الملهمة، التي واكبت الزخم الثوري المتعطّش للتعبير عن الذات ومشاركة الآخرين.

والفكر الديني ككلّ؛ فكر لا ينشأ من ذاته، إنما من خلال الفاعلين الاجتماعيين الذين يمنحونه المضمون والمغزى الاجتماعي، وتتحدّد طبيعة هؤلاء الفاعلين بحسب من لديه القدرة على نقل الفكر من حيّز التنظير أو المعرفة المجردة، إلى حيّز الممارسة الواقعية، وهو ما يطلق عليه زيمل مصطلح "التنشئة الاجتماعية"، وبالتالي؛ يمكننا قياس مدى فعالية الفكرة من خلال اختبار فاعليها المتبنين والممارسين.

بالنظر إلى الخطاب الصوفي، بمفهومه؛ الفلسفي والمعرفي، الذي بزغ على السطح في الأعوام الماضية؛ سنجده فيما قبل كان متوارياً ومحجماً، في حيّزات ضيقة، سواء من قبل الأشخاص المهتمين بقراءته، أو الباحثين المتخصصين في دراساته، ثمّ المنخرطين في مؤسسات وطرق صوفية، ولم يأخذ المنحى الشعبي سوى من خلال التمثيلات الظاهرية في الموالد والاحتفالات الدينية.

كان للتيار الأصولي دور كبير في تحجيم الخطاب الصوفي ووصمه بالكفر والزندقة

وكان للتيار الأصولي دور كبير في تحجيم ذلك الخطاب، ووصمه بالكفر والزندقة، وكذلك ربطه بالمعارك الطائفية، أو حصره في حيّز الخرافة الشعبية، لكن عندما جاء الجيل الثوري؛ منح لهذا الخطاب نزعة شعبوية ثورية، ثم تبنّاه بصفته بديلاً دينياً، يقيه من السقوط في عبثية واقع مؤلم يهدر الذات، وكذلك ليعطيه معنى وجودياً، يحول بينه وبين الجنون والجريمة أو الانتحار.

لكن، بالنظر إلى الصياغة والبناء، الذي قدِّم فيه هذا الخطاب؛ نجده افتقد عمق الركيزة المعرفية والفلسفية، التي يمكن من خلالها تقديمه مجتمعياً، في رؤية متماسكة يمكنها الصمود؛ إنّما صيغ من الفاعلين، بشكل مشتّت وعشوائي ومختزل؛ لتفصيل ذلك، نعود إلى تذكر رواية "قواعد العشق الأربعون"، للأديبة التركية إليف شافاق؛ التي تُرجمت إلى العربية العام 2012، وموضوعها عن التجربة الصوفية التي جمعت شمس التبريزي بجلال الدين الرومي.

اقرأ أيضاً: التصوف وعلاج ظاهرة العنف الديني

تلك الرواية؛ التي تلقت نجاحاً منقطع النظير في العالم العربي، المتعطش إلى الخطاب الروحاني؛ الذي يعدّه بإمكانية تحقيق عالم مثالي مليء بالحبّ والجمال والعدل، تمظهر ذلك النجاح في كتابة الاقتباسات الصوفية، كمنشورات أساسية على جدران مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت من الهدايا المثالية التي يتبادلها الأصدقاء، ومجال أحاديث ومسامرات، لكن بتحليل ونقد محتواها؛ سنجد أنّها ساهمت في اختزال المعنى الصوفي، وتحويله إلى كليشيهات وحكم، من نموذج تلك التي كانت تُكتب على ظهر أغلفة الكتب وجدران المدارس!

إنّ المعنى، كلّما اختُزل واجتُزئ من سياقاته، دون بناء متماسك، قد يتحوّل مع مرور الوقت إلى أشياء، وربما أشياء مبتذلة أيضاً، ونجد أنّه، رغم اهتمام بعض الجيل الثوري، الذي عني بإحياء هذا الخطاب الصوفي، بقراءة بعض الأعمال الفلسفية والبحثية الرصينة التي تؤصل لهذا الخطاب، إلا أنّه في غمرة الإحباطات السياسية والاقتصادية، صرف النظر عنه رويداً رويداً.

كما أنّ هذا الخطاب، في مخاضه الجديد، أخذ منحى طبقياً نخبوياً استهلاكياً؛ فبعد هدوء المدّ الثوري والتفاعل المجتمعي الشعبي بين الطبقات العليا والدنيا في ميادين الثورة، وفي ظلّ سقوط الخطاب الدعوي الحداثي، الذي كان يتبناه شباب الطبقات العليا تلك، اعتنق بعضهم الأفكار الصوفية في موجة الإيمان الجديدة "بدين الناس البسطاء"؛ الذي تمّ تضمينه بشكل سطحي، وبإحالات هوياتية وسياسية وثقافية، في الخطاب "التنويري" المتصدر لمواجهة تيار الإسلام السياسي وتوابعه.

وحين أخذ الخطاب الصوفي المنحى الطبقي والثقافي الجديد، بدأت تمثلاته الناشئة تدخل حيّز التسويق الاستهلاكي "الراقي"، في مصالحة بين الحداثة الاستهلاكية والتوجهات الدينية الثورية؛ حيث نُزع من سياقه الشعبي الموسوم بالبدائية والخرافية، وأُعيد توظيفه وتوطينه في سياق آخر فلكلوري مجرّد من تعقيداته الفلسفية، تمهيداً لترميزه وتنميطه في قوالب مختزلة يمكن استهلاكها.

الأزمة الإيمانية في المجتمع العربي وليدة الإحباطات المتوالية وعدم قدرته على سدّ نزعاته الاستهلاكية

    تمظهرت تلك القوالب مؤخراً في إعلانات اليوغا (تحت مسمى إسلامي وليس بوذياً) داخل المنتجعات المفتوحة، والمراكز الروحانية المتخصصة، ثم الأعمال السينمائية والدرامية والحفلات الشبابية ذات النمط الاستهلاكي السريع، والأغنيات المصحوبة بموسيقى الجاز والهيب الهوب والراب الراقصة، التي يمكن تشغيلها خلفية موسيقية في (الكوفي شوب)، وأماكن الترفيه، والتاكسي، كما وُظفت الرموز والعبارات الصوفية الرائجة في صناعة المشغوليات المعدنية والجلدية، والتصميمات المخصصة للزينة.

على هذا النحو؛ تمّ إدخال التصوف في مسالك الإنفاق الاستعراضي الرمزي، ورأس المال الثقافي الكوزموبوليتاني، الذي قد يتبناه الفرد لينأى بنفسه عن تهمة اعتناق أفكار دينية إرهابية متخلفة، كان وقودها الشباب الريفي، وللاستدلال على إنسانيته الكونية، ويكفيه في ذلك حمل ميدالية على هيئة رجل صوفي، وحضور حفلة صوفية، أو زيارة أثر ديني، وترديد بضعة أبيات لهذا الصوفي أو ذاك، لإثبات ذلك، مثل قول ابن عربي: "لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة" دون أن يعي ماهية أيّة صورة!

وفي ظلّ هذا الاختزال والترميز؛ تمّ اعتناق هذا التصوف المختزل من قِبل بعض الشباب، لمجرد الهروب من سلطة الدين، والتحلل من الفروض والشرائع الدينية، وبالتالي؛ انتقلت الصوفية الشكلية من "الدروشة" إلى "الروشنة"!

يقول ألبرت شفتيسر، في كتابه "فلسفة الحضارة": "التفكير العقلي الذي يخلو من الادعاءات ينتهي بالتصوف"، بما يعني؛ أنّ الخطاب الصوفي يستحق التفكير فيه كبديل وعلاج للخروج من أزمة المعنى التي يمر بها الإنسان المعاصر، لما يضمّه من رؤى إنسانية داعية إلى شمولية العطف والمحبة والسلام بين البشر، دون التفتيش عن الهوية والمذهب ومسمّى الدين.

حين أخذ الخطاب الصوفي المنحى الطبقي والثقافي الجديد بدأت تمثلاته الناشئة تدخل حيّز التسويق الاستهلاكي

ومن المفهوم؛ أنّ كلّ الأفكار الناشئة، أو التي يعاد إحياؤها، تكون غير متماسكة وهشّة في بدايتها، وغالباً ما تكون انفعالية وعشوائية، مكوّنة من تراكيب متوترة واختبارات موضوعية فرضها الواقع اللحظي المعاش، وبالتالي؛ إذا كانت هناك فرضية لفكرة جديدة، أن تساهم بشكل فعّال في حلّ أزمة، كمثال أزمتنا هنا؛ وهي البحث عن المعنى ومواجهة التطرف، فتجب مراقبة عملية بنائها، وتحليل مسارها من فكر فاعليها الاجتماعيين.

كما لا بدّ من أن يوضع في الحسبان النزعة الفردانية للفكر، بما فيه الديني الذي تفرضه العولمة الآن على مجتمعاتنا المبتسرة، بعد أن أصبحت فعالية المؤسسات والتنظيمات محلّ شكّ؛ نظراً إلى تبعيتها السلطوية المؤدلجة، ونختتم بقول زيمل، مرة أخرى، لأنّه معبّر عن تلك الحالة: "لم يعد الأفراد في عالم ديني موضوعي؛ إنهم ذاتياً دينيون في عالم محايد موضوعياً، إنهم دينيون في عالم بلا سحر، في مجتمع دهري دنيوي، الدين لم يعد بعداً موضوعياً للمجتمع، إنما هو بعد ذاتي للفردية".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية