تختلف اللغات... قليلاً في الألسنية كثيراً في السياسة

تختلف اللغات... قليلاً في الألسنية كثيراً في السياسة


16/09/2018

ابتسام الحلبي

في إحصاء لغات العالم، ثمة جامعون يعاملون اللهجات كلغة واحدة، وثمة مفرّقون يركزون على الاختلافات. لا تختلف اللغات كثيرًا في ألسنيتها، لكنها تصل إلى حد التناقض من حيث هي دليل على هوية قومية أو عرقية أو دينية.

 إذا عبرتَ حدود يوغوسلافيا السابقة، ستواجه بعض المتاعب. متجهًا من جبال سلوفينيا إلى شواطئ كرواتيا، ستصادف حدود تأشيرة "شنغن" التي تفصل المنطقة الخالية من جوازات السفر التابعة للاتحاد الأوروبي عن البلدان الأوروبية غير الأعضاء في الاتحاد؛ في موسم العطلات، يمكن أن يعني هذا أن تعلق في طابور طويل على الطريق السريع ساعةً أو أكثر.

إذا ذهبت من كرواتيا إلى صربيا أو البوسنة والهرسك، ستترك الاتحاد الأوروبي كله؛ هناك، تجد التدقيقات الجمركية وضوابط جوازات السفر. وفي كل بلد جديد، عليك تحويل أموالك إلى العملة المحلية.

الشيء الوحيد الذي قد لا تلاحظه هو الاختلاف في اللغة. ففي سلوفينيا، قد يسمع السائح كلمة dobrodosli أي مرحبًا، أو dober dan أي أهلًا، وhvala أي شكرًا. في كرواتيا، هي الكلمات نفسها، لكن ليس كلها: prosim تعني "من فضلك" تصبح molim. غير أن الكرواتيين والسلوفينيين يمكن أن يفهموا لغتي بعضهما بعضًا إلى حد كبير. إذا كان هذا هو الحال، لماذا تعتبر اللغتان مختلفتين تمامًا؟

تفككت اللغة

تم تشكيل يوغوسلافيا من المناطق التي يسكنها متحدثون باللغات السلافية الجنوبية. كانت تهيمن عليها لغة تسمى في ذلك الوقت "اللغة الصربكرواتية". كتبها الصربيون بالأبجدية السيريلية، بينما فضّل الكرواتيون والمسلمون وسكّان الجبل الأسود كتابتها بالأحرف اللاتينية.

لكن، بغضّ النظر عن بعض الاختلافات البسيطة في اللهجة، فهم يتكلّمون جميعًا بوضوح اللغة نفسها، حتى أن هذه الفروقات أقرب من تلك التي بين السلوفينية والكرواتية. في ما يخصّ المقدونيين، فإنهم تحدثوا لغة أخرى وثيقة الصلة؛ كما تحدث عدد قليل باللغة الألبانية، وهي لغة غير سلافية.

عندما تفككت يوغوسلافيا، ودخلت جمهورياتها في الحرب، لم تفكّك الدولة الصربوكرواتية فحسب، بل فكّكت اللغة أيضًا. يصرّ الوطنيّون في الجمهوريات اللاحقة اليوم على أنهم يتحدثون الكرواتية والصربية والبوسنية والمونتينيغرية (لغة الجبل الأسود).

بدأ الكرواتيون تحديدًا بمحاولة تطهير نسختهم من الاقتراضات "الأجنبية"، فصاغوا كلمات جديدة لاستبدالها. في العام الماضي، اجتمع مثقفون ليبراليون في سراييفو للتأكيد أن الصربيين والكرواتيين وسكان الجبل الأسود والبوسنيين يتحدثون لغة واحدة "متعددة المراكز"، مثل الإنكليزية تمامًا (بأنواعها المختلفة: البريطانية والأميركية وغيرها). فاعترض القوميون على ذلك.

لغات غير رسمية

في هذا السياق، أبدى ماكس فاينريش، وهو عالم لغوي، الملاحظة الساخرة الشهيرة ومفادها أن "اللغة لهجة... مع جيش وسلاح البحرية". في الواقع، المعيار المعتاد لما هو لغة منفصلة، وليس مجرد لهجة، هو أن المتحدثين بلغتين يجب أن يجدوا صعبًا أو مستحيلًا أن يفهموا بعضهم على بعض. لكنّ العوامل التي لا علاقة لها باللغة غالبًا ما تتفوّق على العوامل اللغوية.

أولئك الذين يحاولون إحصاء لغات العالم هم إما "جامعون" يعاملون اللهجات المفهومة بشكل متبادل كلغة واحدة، وإما "مفرّقون" يركزون على الاختلافات. ربما يقول "الجامع" أن اللغة المقدونية هي حقًا بلغارية (يمكن العثور على عدد منهم في بلغاريا). ويشير المفرّقون المقدونيون بغضب إلى أن هذه محاولة لطمس هويتهم.

يمكن إيجاد الخلافات بين الجامعين والمفرّقين في كل أنحاء العالم. ويمكن للسويديين والدانماركيين والنرويجيين أن يفهموا بعضهم بعضًا بشكل جيد أيضًا، لكنّ قلة منهم تقول ببساطة إنها يتحدث "الإسكندنافية".
في الوقت نفسه، اللهجات السويسرية الألمانية وحتى العديد من اللهجات داخل ألمانيا نفسها تختلف بشكل أكبر عن اللغة الألمانية العليا، مقارنة بالاختلاف بين اللغتين السلوفينية والكرواتية. يمكن قول الشيء نفسه عن الكثير من اللهجات المحلية الإيطالية. لكنّ معظم هذه اللهجات يفتقر إلى الرسمية.

اللغات غير مختلفة

فيما تُعتبر الخطوط على الخريطة مؤثرة، تؤدّي ولاءات أخرى دورًا أيضًا. اعترف "الجامعون" مرة بلغة "هندوستانية". الناطقون بهذه اللغة  - وتتفاوت طريقة تحدّثهم بها - لا يواجهون أي مشكلة في التحدث.

لكنّ المفرّقين سيشيرون إلى نظامي الكتابة المختلفين بين اللغتين الهندية والأردية، إضافة إلى التفضيلات المجتمعية - المسلمون يتكلمون الأردية والهندوسية والهندية - وسيقولون إنّهما لغتان مختلفتان.

الأردية لغة الهند وباكستان، والحدود بين هذين البلدين دينية أكثر منها إقليمية، مع اعتبار نظام الكتابة علامة مرئية (النص العربي الخاص بالأردية يربطها بالإسلام، وكتابة الديفنغارية تربط الهندية بالسنسكريتية والهندوسية).

بعبارة أخرى، الحقائق الفوضوية للعالم الحقيقي تُعقِّد الروايات البسيطة التي يرى البعض أنها ضرورية لبناء المجتمع. لا يحبّ القوميون الحديث عن الأشياء الفظيعة التي فعلها أسلافهم. فهم يميلون إلى الافتراض أن الحدود الأكثر توسعًا في بلادهم هي الحدود الطبيعية، على الرغم من أن هذه الحدود تتداخل حتمًا مع الحدود التي يطالب بها جيرانهم.

اللغات ليست مختلفة. وجدير ذكره هنا أن العبارة التي يحبّها الصحافيون تنطبق أكثر على القوميين: "لا تدع الحقائق تقف في وجه قصة جيدة"

عن "إيلاف"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية