قواعد الفكر الإخواني (36): جذور الحاكمية عند حسن البنا

الإخوان المسلمون

قواعد الفكر الإخواني (36): جذور الحاكمية عند حسن البنا


19/09/2018

شاع لدى كثير من المراقبين أنّ الحاكمية، كمفهوم عقائدي، لم تظهر في أفكار الجماعات المتطرفة إلا عندما نقلها سيّد قطب عن المودودي، باعتبار تلك الفكرة نتاجاً طبيعياً للعزلة النفسية والشعورية التي أحاط قطب وأتباعه أنفسهم بها، فألقتهم في أسر الماضي، الذي بدأ الخلاص من نير واقع لم يقبلهم يوماً ولم يقبلوه، لكنّ التفتيش في أدبيات الإخوان المسلمين، وتحديداً رسائل حسن البنا، يظهر أنّ الحاكمية تجد لها جذوراً لدى الأفكار المؤسسة للجماعة.

 

 

خلط متعمد

يظهر ذلك في الخلط المتعمد بين الشريعة كمنظمة قيمية عنيت بتحقيق المصالح وحفظ المقاصد؛ من دينٍ ونفسٍ ونسلٍ وعرضٍ، وهو ما أكّدته المفاهيم الراسخة في الفقه السنّي، ومنها مقولة الإمام الشاطبي: "إنّ وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل"، ومدونات الفقه القديمة، التي لم تكن سوى ثمرة متجددة تناسب العصر الذي ولدت فيه؛ حيث جسّدت في النهاية رحلة العقل المسلم في مواجهة النص على ضوء الواقع المتغير، وبالتالي يتغير الفقه والحكم والفتوى، لكنّ القيم المركزية؛ كالرحمة والتسامح والعدل والشورى والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر، وغيرها من القيم المعتبرة، لا تتغير.

التفتيش في أدبيات الإخوان وتحديداً رسائل حسن البنا يظهر أنّ الحاكمية تجد لها جذوراً لدى أفكارهم المؤسسة

يتوخى المشرّع دوماً مصالح العباد؛ المصلحة متغيرة تتطوّر وتتغير، بينما النصّ والفتوى لا يستطيعان ملاءمة هذه الحركة، إلا بمواكبة هذه المصلحة، واستنطاق النصّ بحسب الواقع من دون المسّ بالأصول، هذا الطرح العقلي المنطقي الذي ينسجم مع الفطرة الصحيحة، يرفضه حسن البنا، كما فعل سيّد قطب، وجماعات التطرف؛ التي تريد لنا أن نركب آلة الزمن، ونعود بالمجتمعات إلى واقعها قبل نشأة الدولة، لنبقى في مرحلة طفولة العقل البشري، التي لم تكن قد أنجزت بعد صيغ الدولة الحديثة، التي تتوزع فيها السلطات بالشكل الذي يضمن حصار الاستبداد، وتتيح الفرصة لكلّ عناصر المجتمع أن تكون شريكة في إدارة مقدراتها.

أنجزت التجربة الغربية فكرة الدولة الوطنية، وفكرة البرلمان الذي يشرّع للناس، بحسب خياراتهم الحضارية، وبدا القوم كما لو كانوا يستهدون بما أسماه الإمام محمد عبده "الهدايات الأربعة"؛ العقل، والنقل، والتجربة، والوجدان.

اقرأ أيضاً: كيف استغل حسن البنا الشباب؟

العقل المسلّح بالمعرفة والعلم، والنقل الصحيح الذي يسعفه بالصحيح النافع، هو ما يحقّق المصلحة المرجوة التي دعا إليها الإسلام، والتجربة البشرية المفتوحة التي أهدتنا العديد من النظم والقواعد التي نظمت العديد من مساحات حياتنا من دون أن تتناقض مع جوهر ديننا تعد مثالاً واضحاً على ذلك.

 

 

معاداة التلاقح الحضاري

يناهض حسن البنا وجماعاته هذا التصور ويرونه شكلاً من أشكال الهزيمة، فلا يفهم فكرة التلاقح الحضاري، ولا أنّ العلم هو منجز إنساني مشترك، ويعتقد أنّ دوره هو وجماعته ينصبّ في مناهضة هذا الواقع، والصراع مع هذا العالم، الذي اهتدى إلى حلّ العديد من المشكلات، التي أشعلت الحروب، وأزهقت ملايين النفوس، وبدّدت ثروات الشعوب، فيقول متحدثاً عن المهمة "المقدسة" لجماعته:

سيّد قطب وجماعات التطرف تريد أن تعود بالمجتمعات إلى واقعها قبل نشأة الدولة

"ما مهمتنا، إذاً، نحن الإخوان المسلمين؟ أمّا إجمالاً؛ فهي أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة، وحضارة المتع والشهوات، التي جرفت الشعوب الإسلامية، فأبعدتها عن زعامة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهداية القرآن، وحرمت العالم من أنوار هديها، وأخّرت تقدمه مئات السنين، حتى تنحسر عن أرضنا، ويبرأ من بلائها قومنا، ولسنا واقفين عند هذا الحدّ؛ بل سنلاحقها في أرضها وسنغزوها في عقر دارها، فلا تكون فتنة، ويكون الدين كلّه لله"، أي إنّ الرجل لن يكتفي بإفساد حياة الشعوب العربية والإسلامية بل يسعى لنقل المعركة إلى الدول الأخرى بهذه الروح العدائية التي لا تفرّق بين السياسة والحضارة والمدنية.

ثمّ يعود ليفصّل في الرسالة نفسها التي أسماها (الإخوان المسلمون تحت راية القرآن): "أما مهمتنا تفصيلاً؛ فهي أن يكون في مصر أولاً، بحكم أنّها في المقدمة من دول الإسلام وشعوبه، ثم في غيرها كذلك: نظام داخلي يتحقّق به قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، ونظام للعلاقات الدولية: يتحقّق به قول القرآن الكريم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، ونظام عمليّ للقضاء: يستمدّ من الآية الكريمة: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، ونظام للدفاع والجندية: يحقّق مرمى النفير العام: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ونظام اقتصاديّ استقلاليّ: للثروة والمال والدولة والأفراد، أساسه قوله تعالى: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾".

وكدأب الإخوان في التمسح بالنصوص القرآنية لتبرير أهدافهم السياسية المبطنة يدعو البنا إلى "نظام للثقافة والتعليم: يقضي على الجهالة والظلام، ويطابق جلال الوحي في أول آية من كتاب الله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ونظام للأسرة والبيت: يُنشئ الصبي المسلم والفتاة المسلمة والرجل المسلم، ويحقق قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، ونظام للفرد في سلوكه الخاص: يحقق الفلاح المقصود بقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾.

اقرأ أيضاً: بين الأمس واليوم..هل كانت الجماعة وفيّة لمبادئها؟

ويختم بقوله: "نحن نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، والحكومة المسلمة، والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وتضمّ شتات المسلمين، وتستعيد مجدهم، وتردّ عليهم أرضهم المفقودة، وأوطانهم المسلوبة، وبلادهم المغصوبة، ثم تحمل علم الجهاد ولواء الدعوة إلى الله، حتى تسعد العالم بتعاليم الإسلام".

انتهى هذا البيان البلاغي؛ الذي يعدّه الإخوان البرنامج السياسي لهم، والذي شكّل الإخوان الوزارة في مصر العام 2012 على هديه، والذي عاين المصريون تحديداً "منجزاته" عبر عام الجماعة في السلطة، وتمثل فعلياً بالحرص على تمكين السلطة الإخوانية في جميع مفاصل الدولة، والتنكر لكل ما زعمته قبل ذلك من شعارات المشاركة وعدم الاستئثار بالحكم.

 

 

تصور مغلق للإسلام

الاسم "المفتاحي" لهذا البرنامج؛ هو حاكمية الشريعة بمفهوم الإخوان، التي لم يعرّفها أحد من الإسلاميين تعريفاً مانعاً جامعاً، رغم أنّ الشريعة في حقيقتها مفهوم أيسر من كلّ التعقيد الذي قدموه بها، إنها المنظومة القيمية التي تحقق مصالح الإنسان؛ لذا تبدو كلّ صيغة ينتجها البشر ميسّرة لحياتهم ومحققة لمصالحهم، هي الشريعة، أو الطريق الصحيح، تسمّت بالإسلام أو بغيره.

العقل المسلّح بالمعرفة والنقل الصحيح هو ما يحقّق المصلحة المرجوة التي دعا إليها الإسلام

إنّ التجربة البشرية المفتوحة، تعارفت فيها كلّ الأمم على قيم الحياة الصحيحة، التي تباركها كلّ الشرائع والأديان؛ حيث بدأ الجميع بالسعي إلى الحرية والعدل والديمقراطية والتحديث، والواقع يقول: إنّ الغرب حقّق ذلك، وما يزال يتنافس على تحقيق المزيد، بينما نحن، أو فريق منا، ما نزال نتصور أن النبش في الماضي، ومعاداة العصر وحركته هو الطريق الوحيد للمجد المفقود.

الرجل يتصوّر أنّ الإسلام جاء ليُكره الناس، وأنّ تصوره المغلق هو الإسلام، ولا شيء غيره، يقول تحت عنوان "لو كانت لنا حكومة": "لو كانت لنا حكومة إسلامية صحيحة الإسلام (هو يلمز هنا في كلّ الحكومات حول العالم الإسلاميّ، بأنّ إسلامها ليس صحيحاً) صادقة الإيمان، مستقلة التفكير والتنفيذ، تعلم حقّ العلم عظمة الكنز الذي بين يديها، وجلال النظام الإسلامي الذي ورثته، وتؤمن بأنّ فيه شفاء شعبها وهداية الناس جميعاً؛ لكان لنا أن نطلب إليها أن تدعم الدنيا باسم الإسلام، وأن تطالب غيرها من الدول بالبحث والنظر فيه، وأن تسوقها سوقاً إليه؛ بالدعوات المتكررة، والإقناع، والدليل، والبعثات المتتالية، وبغير ذلك من وسائل الدعوة والإبلاغ، ولاكتسبت مركزاً روحياً وسياسياً وعملياً بين غيرها من الحكومات".

اقرأ أيضاً: هذه ملامح الانقلاب الذي دعا إليه البنّا

إنّها جذور الحاكمية التي فصّلها سيّد قطب، ونسجت على منوالها كلّ مجموعات التطرف؛ حين اختبأت خلف جلال النص القرآني، محاولة كعادتها ليّ عنق النصوص واستنطاقها بما يريدون، وصرف الناس عن سؤال البرامج العملية للنهوض التي يتهربون منها دوماً ولم يتمكنوا من تقديمها حتى اليوم.

 

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية