كيف عبّر الفن والأدب عن الصراع الطبقي في مصر؟

مصر

كيف عبّر الفن والأدب عن الصراع الطبقي في مصر؟


04/10/2018

"دوله مين ..دوله مصر .. مصر العشه ولا القصر". بهذه الكلمات لخص الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم وضع المجتمع المصري، في قصيدته الشهيرة "ورقة من ملف القضيّة"، ولم تكن كلماته سوى مجرد حلقة في باكورة أعمال الفن المصري عبر أكثر من قرن مضى، شرحت معضلة الازدواج الطبقي الذي يعيشه المصريون. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، لم تتوقف صرخات المبدعين، معبرة عن نبض المجتمع الذي قسمته الطبقية، فصارت الازدواجية أهم صفاته.

المويلحي سبْق وريادة

لم ينعم المجتمع المصري، بحقب طويلة من الرخاء، لكن تغلب عليه صفة الازدواجية، وإذا عمّ الرخاء، فإنه يقتصر على قلة من الناس، بينما يغط العامة في بؤسهم دونما أمل في التغيير، وبما أنّ الفن هو المعبر الأول والأقوى عن نبض المجتمع، فإنّ القضية الأهم في مصر قد غلبت على أعمال فنانيها، بداية من رائعة المويلحي "حديث عيسى بن هشام" الصادرة أواخر القرن التاسع عشر، أوائل القرن العشرين، وبالإضافة لكونها أول عمل مصري خالص يُشَرِّح المجتمع طبقياً، فإنّها تعتبر بدايات الفن المصري الخالص، فما مضى قبلها لم يكن سوى توصيفات عامية للمجتمع أو تراجم عن قصص أجنبية؛ حيث استغل الكاتب الطبقية الصارخة في المجتمع المصري وخاصةً في الأرياف، وعلاقة الطبقة الإقطاعية (المالكة)، بالفلاحين (العبيد الجدد).

يعد "حديث عيسى بن هشام" أول عمل مصري خالص يُشَرِّح المجتمع طبقياً

اقرأ أيضاً: من سرق أنوار التسامح في المجتمع المصري؟

يستطرد المويلحي على لسان عيسى بن هشام مقدماً تشريحاً اجتماعياً نادر الحدوث في زمانه. ليبدأ زمان جديد في عمر الرواية المصرية، استطرد فيه الروائيون والكتاب، على رأسهم الكاتب الكبير توفيق الحكيم، في روايته "يوميات نائب في الأرياف"؛ حيث ينقلنا إلى الريف المصري في عشرينيات القرن العشرين، حين انتدب كوكيل للنيابة العامة في قرية بمحافظة الغربية. وبين فصول الرواية التي تشبه سرداً ذاتياً ينتقل الحكيم بين بيوت الريفيين البسطاء، والمدينة الواسعة في القاهرة حيث مسكنه.

أعمال الفن، عبر أكثر من قرن، شرحت معضلة الازدواج الطبقي الذي يعيشه المصريون منذ أواخر القرن التاسع عشر

استطاع الحكيم في "يوميات نائب في الأرياف" رصد الصراع الطبقي بين أغنياء الريف وفقرائه، وبين الريف والحضر؛ حيث عاش في كليهما، ففي مشهد بديع يصور الحكيم مشهد زفاف في شارع القرية، وحين يسأل رفقته يخبرونه بأنّ الفلاحين يزفون الهاتف لحظة دخوله دار العمدة (كبير البلدة)، فيندهش الكاتب لما رأى، حيث يدخل الهاتف دار العمدة في قرية تخلو من الكهرباء والمستشفيات، وأساسيات الرعاية الصحية للمواطنين، ثم يعقد مقارنة بين ما رآه في القرية، وحياته في الريف الفرنسي، حيث مكث هناك ثلاثة أعوام، استطرد فيها شارحاً أوجه التباين التي لا يخلو منها أي مجتمع، لكنّ تعبيره عن فجاجة الطبقية التي يعيشها المصريين، بدا واضحاً في تلك الرواية، أكثر من غيرها؛ حيث المجتمع المصري وبسطاؤه تحت وصاية الاحتلال الإنجليزي، وشرذمة الإقطاعيين الموالين للانتداب البريطاني على مصر، وهو ما استنكره الكاتب ملوّحاً بيديه للسلطة الحاكمة، موجهاً أصابع الاتهام الصريح إلى الملكية التي جعلت المصريين عبيداً جدداً للأغنياء والمستعمرين.

الكاتب المصري توفيق الحكيم صاحب رواية "يوميات نائب في الأرياف"

الفن السابع..انفصام بصري

يمتد عمر السينما في مصر لأكثر من مائة عام استطاعت فيها تجسيد المجتمع وازدواجيته، بداية من الفنان علي الكسار، ثم نجيب الريحاني وبديع خيري، ورمسيس نجيب أشهر باشاوات السينما. وأنتجت مجموعة من الأفلام التي جسدت المجتمع المصري بحذافيره وتناقضاته، ففي فيلمه الأشهر "غزل البنات"، يجسد الراحل نجيب الريحاني شخصية الأستاذ حمام، المدرس البسيط صاحب الملابس الرثة، الضليع في اللغة العربية، يطلبه أحد باشاوات القاهرة لتعليم ابنته البرجوازية المدللة اللغة العربية التي تجهلها، لأنها متأثرة باللغات الأوروبية، وبإبداع فريد مشترك بين أنور وجدي ونجيب الريحاني، استطاعت المشاهد البصرية عرض التفاوت بين طبقتين لا يعلم أحدهما عن الآخر شيئاً، بين الفيلا الفارهة التي يقطنها الباشا رمسيس نجيب مع ابنته المدللة ليلى مراد، والمدرس صاحب الحذاء الممزق، الذي لا يكفي راتبه لشراء ملابس جديدة.

شخصية الأستاذ حمام في فيلم "غزل البنات" لنجيب الريحاني

وفي شأن هذا الفيلم يقول المفكر المصري الراحل جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين" ملخصاً رؤيته للازدواجية في مجتمع الريحاني: "أول ما لفت نظري في الفيلم كانت الشريحة الاجتماعية التي تمثلها الطبقة العليا عند الريحاني، فجميعهم من أصحاب البشرة البيضاء تشوبها حمرة، في إشارة إلى العنصر التركي الكامن في عروق هذه الطبقة، بالإضافة إلى أنّ جميعهم يمثلون ملاك الأراضي الزراعية، وربما كان ابن الطبقة العليا طفيلياً فهو لا ينتج رزقه بنفسه، لكن مصدر رزقه في الأساس شيء منتج وهو الأرض الزراعية"، وفي حديث أمين، إشارات إلى التغيرات الاجتماعية التي طرأت على الطبقات العليا وتحولاتها في مصر، ومثلت مرحلة السبعينيات من القرن الماضي فصل القول بصدد هذه الطبقة.

الفيلم المصري "المنسي" يتناول الصراع بين رجل أعمال فاسد وشاب فقير

وبعد نصف قرن على انسحاب طبقة نجيب الريحاني التي مثلت الباشاوات وملاك الأراضي، تغيّر شكل الطبقة العليا في مصر، وهو ما رصده ببراعة الثلاثي "شريف عرفة، عادل إمام، وحيد حامد"، في أفلام فترة السبعينيات والثمانينيات، فقدموا خلال تلك الحقبة مجموعة من الأفلام التي عالجت ظاهرة الازدواجية والتحولات التي مرت بها تلك الفترة، من مولد طبقة الإقطاعيين الجدد.

لقطة من فيلم "الغول" تناول قضية العدالة والتواطؤ مع رجل الأعمال

وهو ما تحدث عنه لـ"حفريات" أستاذ النقد الأدبي بجامعة حلوان الدكتور صلاح السروي، الذي قال "إننا لا نناقش اليوم درجة الازدواجية الاجتماعية في الأدب أو الفن بقدر ما ندرس تحول شكل تلك الازدواجية التي ظن المصريون قديماً أنّها ميلاد الاحتلال، وفي الحقيقة هي ليست سوى صنيعة الأنظمة السياسية، ونستطيع تقسيم المجتمع في القرن الأخير إلى ثلاث مراحل: الأولى وقد انتهت إبان ثورة يوليو، ومثلت فيها الطبقة العليا البرجوازية الوطنية التي كانت تدين بثرواتها لخيرات مصر، والثانية كانت محاولات عبدالناصر إرساء قواعد العدالة الاجتماعية ومثلت تلك الحقبة فن الستينيات وصوت عبد الحليم وحفلات أم كلثوم، وأفلام مثل الأيدي الناعمة ومراتي مدير عام؛ حيث استخدم ناصر الفن كأداة لتحقيق مشروعه، الذي جاءت المرحلة الثالثة للقضاء عليه وهي حقبة السادات التي لا يزال المجتمع يعاني ويلاتها؛ حيث الطبقة الطفيلية حديثة الثراء، جراء ما يعرف بالانفتاح الاقتصادي الذي أخضع مفهوم الطبقات في مصر لعشوائية ليس لها مثيل".

الازدواجية والجريمة

بدأت التغيرات الحديثة في حياة المجتمع المصري، في أعقاب حرب أكتوبر 1973، كما يرى العديد من المفكرين السياسيين في مصر، وقد أخذ الأدب نصيبه من تلك التغيرات، وهو ما يمكن رصده بدقة في أدب الكاتبة والطبيبة المصرية نوال السعداوي، التي أرخّت لمصر أدبياً في مختلف عصورها، كما يمكن رصد هذه التحولات من خلال أبرز روايتين لها هما "الرواية" و"امرأة من نقطة الصفر"، وعلاقة الجريمة بالصراع الطبقي، ففردوس بطلة امرأة من نقطة الصفر، ابنة الريف النازحة من بيئة مليئة بالصراعات والفقر المدقع، امرأة مقهورة تتعرض للتحرش والاغتصاب من رجال العائلة، ولا تستطيع البوح بآلامها ولا سبيل سوى الهرب من هذا الحجيم بحثاً عن نقطة ضوء في آخر النفق لتزداد تيهاً فوق التيه الذي تعيشه بين جنبات المدينة، وسط أناس يعيشون بأقنعة تظهرهم عكس حقيقتهم،  لتعمل في الدعارة، بحثاً عن لقمة عيش، بعد أن وجدت أنّ الدعارة وجه مغاير من الشرف الذي تفتقده سيدات الطبقة العليا، لينتهي بها المطاف في السجن، محكوماً عليها بالإعدام، في أواخر سبعينيات القرن الماضي وهي لم تكمل الثلاثين بعد، إلّا أنّها اكتفت من الحياة واستسلمت أمام حكم الإعدام، غير باحثة عن العدالة في مجتمع أدركت بعمق مدى فساده.

بدأت التغيرات الحديثة في حياة المجتمع المصري في أعقاب 1973 كما يرى العديد من المفكرين السياسيين في مصر

أما "الرواية" فكانت البطلة فيها امرأة تحيا على الصراط المستقيم، إن أردنا التشبيه الأدق، وهو الحاجز الفاصل بين عشوائيات حي السيدة زينب بالقاهرة، وفيلات جاردن سيتي الفارهة، ولا يفصل بينهما سوى ممر يفتح أفق المار على عالم آخر، فهناك قضبان لا يعلم أحدها عن الآخر شيئاً، لكن البطلة "زينب" بذكائها النادر، استطاعت اختراق عالم الأغنياء، الذي أدركت زيفه وأزالت أقنعة الرجال الأثرياء على عتبات جسدها اليافع، فلم تعد تأبه بثرائهم بعد إدراكها لحقيقته، وما تخفيه صدورهم من أرواح معذبة.

غلاف "الرواية" للكاتبة المصرية نوال السعداوي

مضى الفن والأدب في مصر بالتوازي مع أفول وخفوت المجتمع المصري، معبراً عن نبضه وتحولاته، وإذا استعرض المراقب التغيرات الطارئة على المصريين في أعقاب أحداث يناير سيكون بصدد الحديث عن مجتمع آخر، أو كما قال الراحل الأبنودي:

"إحنا شعبين .. شعبين

شوف الأول فين.. والتاني فين".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية