أبو القاسم حاج حمد.. مُداوي عِلل الفِكر الإسلاموي ومُعالج أعطابه

أبو القاسم حاج حمد.. مُداوي عِلل الفِكر الإسلاموي ومُعالج أعطابه


21/01/2021

هنا، بالقربِ من مدينة أبي حَمَد على منحنى النيل شمالي السودان، توجد جزيرة صغيرة رائعة، تسحرك بخضرتها اليانعة، وطبيعتها البكر، وهوائها النقي، إنّها جزيرة "مُقْراتْ"؛ حيثُ ولِد المُفكر السوداني، محمد أبو القاسم حاج حمد، وأنهى مراحله التعليمية الأولى، قبل أن ينتقل من عمق النيل إلى ساحل البحر الأحمر، ليكمل المرحلة المتوسطة في مدينة بورتسودان "شرق السودان"، ثم يعود إلى النيل مرة أخرى، ويلتحق بثانوية مدينة عطبرة "شمال السودان".
لم يبرح حاج حمد الماء، مالحه وعذبه، إلّا لماماً؛ فهو ابن الماء بامتياز، وله من خصائصه الكثير، فهو مُفارق لقاعدة الانكماش، كما الماء إذ ينكمش بالتبريد حتى يصل إلى أربع درجات مئوية، ثم يبدأ في التمدد بعدها. والماء أيضاً، يمثل أساساً لحساب كثافة السوائل والمواد الصلبة الأخرى، وكذا يفعل حاج حمد إزاء الأفكار الإسلاموية السائلة والصلبة، على حد سواء، ومعلوم أيضًا أنّ أهمّ خواص الماء؛ سريانه من أعلى إلى أسفل، كما له خاصية الشدّ السطحي التي تساعد في السير على سطحه، خاصة بالنسبة إلى الحشرات، علاوة على الغوص في عمقه، وهكذا يمكنك أن تقرأ (مُنتَج) حاج حمد كيفما تريد، فغُصْ إن شئت، أو امش على السطح.
الحاكمية والخلافة والاستخلاف
لما له من خواص الماء، فقد فارق حاج حمد، حالة انكماش "المفكرين" الإسلامويين التقليديين، وتنبأ، في وقت مبكر نسبياً، بمأزق الإسلام السياسي الحركي، المتمثل في الأصوليتين؛ الإخوانية والسلفية؛ إذ نبّه، في كِتابه "الحاكمية"، إلى أنّ الحاكميّة، كما صاغها المودودي وسيّد قطب، تقود إلى عطالة الإنسان، وسلبيّته، وتوقع به في مقولة الجبر، ومن هنا؛ أطلق مقولته الشهيرة بأنّ: "طرح المقابلة بين حاكميّة الله وحاكميّة البشر، أمرٌ لا يستقيم فلسفيّاً، وفق منهجيّة القرآن المعرفيّة، نسبة إلى الفارق الجوهريّ بين الطّبيعتين، ذلك أنّ مجال الحاكميّة الإلهيّة هو الوجود لا التّشريع، وأنّ الحاكمية مفهوم خاص بالمرحلة الإسرائيليّة، لا علاقة للمسلمين به".

كان حاج يريد أن يفضّ الاشتباك، ويزيل اللبس بين مفهومي الاستخلاف والخلافة

ليس ذلك فحسب؛ بل أوغل إلى عمق اللّجة، حين لفت إلى خطأ تحويل حاكميّة الله إلى جبر، وإلى خطر فصلها عن العَلمانيّ الوضعيّ، مُستدلاً على ذلك بتفسير الطبري للآيات الكريمة الثّلاث في سورة "المائدة": {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }؛ إذ استدل الطبري بنصّ الحديث الشريف: "حدّثني المثنَّى قال: حدّثنا إسحاق قال: حدّثنا محمّد بن القاسم قال: حدّثنا أبو حيّان، عن أبي صالح قال: ليس في أهل الإسلام منها شيء، هي في الكفّار". حدّثنا ابن وكيع قال: حدّثنا أبي، عن أبي حيّان، عن الضحّاك، قال: نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب". وكأنّ حاج يريد أن يفضّ الاشتباك، ويزيل اللبس بين مفهومي الاستخلاف والخلافة، كما استقرّتا في الأدبيّات السّلطانيّة الإسلاميّة القديمة، وفي أطروحات الإسلام السّياسيّ الحديث، ذلك أنّ الاستخلاف المتَحَدَّثَ عنه كونيّ لا سياسيّ، إلهيّ لا بشريّ، وقتيّ غير دائم، مطاع غير معصوم.

لم ترق أفكار حاج لتيارات الإسلام السياسي الإخواني والسلفي فعمدوا إلى حجبها عن الناس

لم يكن النبي مؤسّساً لدولة، ولا مفسّراً للقرآن؛ لأنّ تلك الأمور من صُلبِ الحاكميّة البشريّة التي بشر بها، ودعا إليها، بعد أن كانت الحاكميّة إلهيّة أو استخلافية في الأديان السابقة، بحسب حاج حمد، فحولها الإسلام إلى (سلطة بشرية) خالصة، وهذا ما يفهم من العبارة الواردة في القرآن الكريم: { أولي الأمر منكم}؛ إذ تشي بالاختيار الحرّ، وتشير إلى سلطة الأمّة، بشكل واضح، فلم يقل: أولي الأمر (عليكم)، أو (أولي الأمر فيكم).

الحرية والإسلام
قلِقٌ كما الماء، منسابٌ مثله وسيّال، فحاج حمد المولود في العام 1942، والمتوفَّى 2004، لم يستقرّ له حال، ولم يهدأ له بال، فصال وجال بين قضايا الفكر السياسي والديني والاجتماعي والسياسي، فعمل مستشاراً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، وأسّس مركز الإنماء الثقافي في أبو ظبي، ودار الدينونة في قبرص من أجل إعداد موسوعة القرآن المنهجية والمعرفية، وأصدر مجلة الاتجاه المتخصصة في شؤون الفكر والشؤون الاستراتيجية، وله من المؤلفات والدراسات الكثير، مثل: "العالمية الإسلامية الثانية، منهجية القرآن المعرفية، الحاكمية، القرآن والمتغيرات الاجتماعية، تشريعات العائلة في الإسلام، جذور المأزق الأصولي، حرية الإنسان في الإسلام، والسودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل". 

أوغل حاج إلى العمق حين لفت إلى خطأ تحويل حاكميّة الله إلى جبر وإلى خطر فصلها عن العَلمانيّ الوضعيّ

القاسم المشترك الأعظم بين كل تلك المؤلفات، هي؛ "الحرية" شرط التكليف، وخاصية "الماء" الأولى، حيث يرى حاج حمد أنّ حرية الإنسان في الإسلام، لا يمكن أن تنعزل عن الفضاءات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففي السياسية عمل الرجل على تفكيك منطق الجماعة والإجماع، واصفًا إياه بأنّه يقارب فكرة الحزب الواحد، لافتاً إلى أنّ فقهاء الإسلام السياسي يدعون، اقتصاديًا، إلى  التملك الذي لا حدود له، تماماً كما تدعو الفردية الليبرالية، فيما يدعو الإسلام إلى مقاربة وسطى بين هذا وذاك، وهذا يدخلنا في الفضاء الاجتماعي؛ فالطبقات الاجتماعية التي تتكون نتيجة للتفاوت الاقتصادي الكبير، تؤدي إلى سيطرة الرأسمالية على الفضاء السياسي، وفرض رؤيتها عليه.
كعذوبة الماء وبريقه
"ولأنّ الماء يختزن حريته المطلقة، فهو يجري كما يشاء، ويهطل كما يشاء، وحين لم تُدع السماوات في الأعالي بعد، ولم يكن للأرض في الأسافل اسم، كانت الحياة ثمرة تتكون وفي باطنها نهر، النهر الكبير يتكوّن في أحشاء تلك الثمرة الأولى، فينشأ الماء الحي، الماء ذو البريق والعذوبة، ومن هذا الماء الحي نشأت أنا، أنا الحياة".
وكأني بحاج حمد، يُردد هذه الأسطورة السومرية، يسبح فيها، ويتمتم ليل نهار، وكأنها تميمته التي أعانته على الحياة، ووهبته خاصية التفكير الحر، ليُدرك مبكرًا ما يمكن أن يورطنا فيه الإسلام الأصولي السياسي، كما هو ماثل الآن؛ إذ "أجبر" التيار الديني التقليدي، بعد أن هيمن واحتكر (الإسلام) لنفسه، كافة المسلمين على تبني تفسيره السكوني للإسلام، حدّ التكفير، من ثم إفناء كل من يجترح تفسيرات مختلفة ومتسقة من العصر، فلا مجال للرأي المخالف، ما جعل الإسلام كـ "دين" متهم على الدوم بالانغلاق، وبثّ طاقة تدميرية هائلة بين معتنقيه، عوضاً عن تحفيزهم على  التفكير الحرّ، والإبداع، والابتكار، والحوار المثمر والبنّاء.

هذا الحفر المعرفي لأبي القاسم حاج حمد، أكبر من أن يستوعبه زمن إيديولوجي رثّ، علقت فيه النخب السودانية

وفي ذلك، يطرح حاج حمد نظرية جديدة، يُطلق عليها "السلم كافة"، يؤكد فيها أنّ الإسلام ينبني على قاعدة عامة، تدعو وتحث على سلام دائم، يحكم علاقات المجتمعات والدول البينية، كونه دين "سلام"، في الأساس، لا دين غزو حرب، ويكفي لذلك دليل أن نقرأ الآية الكريمة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، فكيف يمكن لمن يتأملها أن يقتل حشرةً، أو يقطف زهرةً، ناهيك عن قتل الناس وحرقهم، وسبي النساء وبيعهن، كما يحدث الآن باسم الدين.
بطبيعة الحال، لم ترق مثل هذه الأفكار لتيارات الإسلام السياسي، الإخواني والسلفي والصحوي، فعمدوا إلى حجبها عن الناس تارة، والسخرية منها، أو التقليل من شأن مجترحها وإقصائه، تارة أخرى، وهذا ما أشار إليه محمد جميل أحمد، في مقاله الموسوم بـ "أبو القاسم حاج حمد"، عراب قرن إفريقيا؛ إذ قال: "هكذا بدا أبو القاسم حاج حمد "علمانياً جديداً"، بالنسبة إلى الإسلامويين من أتباع حسن الترابي، كما كتب عنه أمين حسن عمر مقالاً عام 1985، فيما أدرجه المحبوب عبد السلام، ضمن "المثقفين الرُّحل" المأزومين، والتائهين بين الثقافات، دون أيّ اكتراث، منهما على الأقل، لقراءة الملاحظات الفلسفية، المتماسكة والمبكرة، للرجل، وقدراته الفذة على رؤية تحولات مستقبلية متأخرة للفكر في زمن متقدم، وقدرته على إنتاج مفاهيم معرفية متماسكة للمبادئ التفسيرية، التي كان يختبر بها الفكر والواقع، كان هذا الحفر المعرفي لأبي القاسم حاج حمد، أكبر من أن يستوعبه زمن إيديولوجي رثّ، علقت فيه النخب السودانية".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية