من مستنقع "الرذيلة" نعطي دروساً بـ "الفضيلة"!

من مستنقع "الرذيلة" نعطي دروساً بـ "الفضيلة"!


15/10/2018

منذ أن أرسى النظام الطائفي- العرقي، أسسه السياسية في العراق، عام 2005، حتى بدأت الثقافة العراقية تتماهى معه في كثير من تمظهراتها وخطاباتها؛ بل إنها راحت تحاكي المواقف السياسية الشعوبية، وتنتج أشكالاً من الغوغائية الفكرية، لم تتردّد في إعادة إنتاج الكراهية الطائفية والقومية.

وحيال هذا كان هناك أشبه بالحماسة الجاهلية التي تعمي النظر عن وقائع مخيفة، تكشفها أوضاع البلاد لصالح خطابات طائفية عابرة للحدود، تنادي بصوت عالٍ من أجل "العدالة والحرية في البحرين"، في وقت كانت العدالة تهتز بقوة في العراق؛ بل وتصبح أضحوكة، بينما الحرية تتقلص وتتراجع.

قبيل حرب 2003 راح مثقفون ينصّبون أنفسهم أوصياءَ على القضية العراقية ويوزّعون تعبيرات التصدي للإمبريالية على نظام صدام

وهنا كان مثقفون عراقيون يعيدون الخطأ، الذي ارتكبه مثقفون عرب بشأن العراق، فقبيل حرب عام 2003، راح مثقفون عرب ينصّبون أنفسهم أوصياءَ على القضية العراقية، بل راحوا يوزّعون تعبيرات "الوطنية" و"التصدي للإمبريالية" على نظام صدام، و"العمالة" و"التحول إلى أدلاء خيانة" على معارضيه.

وفي عام 2013؛ أعاد مثقفون عراقيون الخطأَ الفادح ذاته، فأصدروا بياناً حول سوريا، نصّبوا أنفسهم أوصياء على قضيتها، مع الإقرار بأنّه من حقّ أيّ مثقف أن يقول كلمته، إذا ما تعلّق الأمر بالحرية ورفض الحرب، لكن مع الإقرار أيضاً بأنّ للقضية السورية والوطن السوريّ أبناء مخلصين، هم الأجدر والأحق بالقول الفصل فيما يخصّ وطنهم وقضيتهم.

اقرأ أيضاً: اغتيال تارة فارس.. دولة الموت تتوسع في العراق

حينها كرّر مثقفون عراقيون مقاربة خطاب "الوطنية"، فأضفوه، عن قصد أو بدونه، على النظام الحاكم في دمشق، ومقابله خطاب "العمالة" و"الإرهاب"، فيخصون المعارضة السورية به، وهم عوضاً عن عملٍ جدي لتعميق الحرية في بلادهم، وتعزيز مسار الأمن الاجتماعي فيها، راحوا يطلقون مشروعات عمل تخصّ حرية الآخرين وأمن بلادٍ غير بلادهم، يظهرون فيها وكأنهم أوصياء على الآخرين، مع أنّ في الوسط السوري من أبناء الحرية، من مثقفين وفنانين وباحثين وأصحاب معارف، من دفع أثماناً باهظة في تصديه السلمي، عبر العمل الفكري، للنظام الحاكم في سوريا.

اقرأ أيضاً: العراق.. الأحزاب الدينية تُطارد الشباب بتهمة الإلحاد

وقد يقول قائل: إنّه من حقّ مثقفين عراقيين أن يظهروا موقفاً حيال قضية السلم والأمن في بلد مجاور، ستؤثر الأحداث فيه بقوة في أوضاع وطنهم، وهو قول حقّ، لو كان العراق حالياً بمنأى عن تلك الأوضاع، ويخشى أن تؤثر فيه أيّة حرب، لكنّ العراق حينها كان ساحة حرب حقيقية، عمادها الإرهاب المنفلت من أيّ عقال، ومشروع نهبٍ متواصلٍ من قبل قادته "المنتخبين ديمقراطياً"، مثلما كان يطرح فيه، علناً، خيار تقسيمه وتفتيته على أسس طائفية وعرقية، وتحوّله إيران إلى حظيرة، ومكبّ نفايات سياسية وأمنية وتجارية وثقافية ودينية، عبر ميليشياتها وأحزابها، ومنظماتها الأمنية والثقافية، ومؤسساتها الدينية الحاكمة في العراق، ثم يأتي بعض مثقفيه، ليصدروا بياناً "ينصحون" فيه الآخرين ويوزّعون صفات "الوطنية" أو "العمالة"، فيما كان الأجدى بهؤلاء أن يلتفتوا إلى مصائب بلادهم الغاطسة في حقول ألغام على مدّ البصر.

اقرأ أيضاً: من يقف وراء اغتيال الناشطات في العراق؟

اليوم؛ يعيد مثقفون، من كتّاب وصحافيين ومعلقين، الخطأَ ذاته، حين انصرفوا بخطاب جماعيّ، شبه منظم، للحديث عن قضية اختفاء الكاتب السعودي، جمال خاشقجي، تحت ذريعة أنّ "قضية حرية التعبير مقدسة ولا علاقة لها بحدود وهويات"، لكن فات هؤلاء أنّ بلادهم سجلت، منذ العام 2004 وحتى اليوم، اغتيال واختفاء مئات الصحافيين والمثقفين والأكاديميين والناشطين، دون العثور على قاتل واحد، ممّن نفذوا تلك الاعتداءات الوحشية، مثلما لم يعرف عن معظم الذين تضامنوا مع خاشقجي، أنّهم كتبوا أو نشطوا في مواقف تتعلق بالضحايا من زملائهم المغدورين على أرض بلادهم.

العراقي الذي يهتم بالدنيا كلّها إلا بلده وينتقد دول الجوار تظنّه يعيش في النرويج أو السويد

ندرة شجاعة، وبالكاد علا صوتها، ردّت على ذلك الانتظام الجماعي بشأن قضية خاشقجي بالقول: "العراقي يهتم بالدنيا كلّها إلا بلده، ومن ينتقد دول الجوار أو غيرها على الحريات أو الوضع الاقتصادي، تظنّه يعيش في النرويج أو السويد، لا في بلد تحكمه عصابات إجرامية، والبشر فيه أرخص من ماء الشرب، ويفتقد حتى العيش بأمان، أما السكن المناسب والعلاج وحقّ التعليم فأصبحت من الأحلام"، كما عبّر عن ذلك المدوّن العراقي، عدي حاتم، على تويتر.
ومثله، ذهب أحمد سامي إلى القول: "بلد يتربع على عرش البلدان الفاشلة، يعجّ بالقتل والتهجير والظلم والسرقات والطائفية والنهب والتخريب، وانعدام الماء والكهرباء، وتملأ شوارعه القذارة، ويتحكّم به رجال دين ومرجعيات فاسدة ومفسِدة ومتخلفة، ويعاني الجفاف والملوحة، ومع ذلك؛ أبناؤه مهتمون بخاشقجي!".

اقرأ أيضاً: رئاسات العراق الجديدة... قديمة

دعني أكون حالماً وواهماً حين أحاول تبرير مواقف مثقفين عراقيين حيال قضية الصحافي السعودي، وأقول إنها "نتيجة فيض العواطف والتضامن المشروع"، لكنّ هذا يفشل في تغطية عار مفتوح الفصول والمآسي يمثله مقتل مئات الصحافيين والكتاب والأكاديميين العراقيين، في سلسلة جرائم تتواصل منذ "عهد الحرية"، الذي يفخر به النظام الطائفي العراقي الحاكم، لتنهض جملة حاسمة تقول "يكفي أن نعطي الآخرين دروساً في "الفضيلة" فيما نحن نغطس في "الرذيلة"".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية