فلسفة الضرب الرحيم.. هل تُشرعن العنف ضدّ الزوجات؟

فلسفة الضرب الرحيم.. هل تُشرعن العنف ضدّ الزوجات؟


31/05/2021

الممثل الأسكتلندي، شون كونري، الذي اشتُهر بتجسيد شخصية العميل السريّ، جيمس بوند، في السينما العالمية، وتمتع بشعبية جارفة على مدار الأعوام، كان شخصية مثيرة للجدل؛ بسبب حياته الشخصية، وتصريحاته بشأن ضرب النساء، فقد صرّح لمجلة (Play boy)، العام 1965، بأنّه لا ضرر من ضرب النساء، شريطة ألا يكون الضرب مبرحاً، إنما مجرد صفعة، كلّما استدعى الأمر تأديبها، فقال: إنّه لا يفضّل تسديد لكمة للمرأة؛ بل يفضّل "صفعها بكفّ مفتوح"، ثم أشعل الجدل من جديد، العام 1987، حين استضافته الإعلامية الأمريكية، باربرا والترز، لتواجهه ببعض تصريحاته القديمة، فأصرّ على أنّ ضرب النساء يتعلق بالظروف المحيطة، إن أساءت التصرف.

التجاوز بضرب النساء، وصياغة فلسفة الضرب الرحيم، ليسا حكراً على ثقافة بعينها، لكن هناك مجتمعات تتصالح معها، ومجتمعات تلفظها؛ وفتحت التصريحات المؤيدة لها أبواباً من النيران على أصحابها، فـالرأي العام عدّها محرّضة على العنف.

التجاوز بضرب النساء، وصياغة فلسفة الضرب الرحيم، ليسا حكراً على ثقافة بعينها، لكن هناك مجتمعات تتصالح معها

العنف المنزلي ضدّ المرأة وارد الحدوث في أكثر البلاد المعنية بصياغة قوانين لحماية النساء، فلا توجد مدينة مثالية على وجه الأرض، والقانون لا يمنع التجاوزات، لكنّه يقف بالمرصاد لمن يرتكب فعل العنف؛ أي إنّ تجريم العنف المنزلي، إن لم يقض على الظاهرة تماماً، إلا أنّه منع التطبيع مع تلك الظاهرة، على أقلّ تقدير، فلا يعرف القانون المدني التصالح مع ضرب الزوجات، تحت مسميات مثل: "الرأفة في الضرب"، أو ما يطلق عليه "التعنيف البدني"، بدلاً من "العنف"، وهي مصطلحات معسولة تسعى للمناورة لا المواجهة. 

بحسب تقرير الأمم المتحدة؛ هنالك 140 دولة تجرّم العنف المنزلي، كما تختلف رؤية بعض البلاد تجاهه عن غيرها؛ حيث تدرج بعض القوانين الإيذاء النفسي والذهني، ضمن جرائم العنف المنزلي، كما هو الحال في النمسا مثلاً، التي تولي اهتماماً بالقهر النفسي الممارَس على الصغار.

تحتلّ البلاد الإفريقية والإسلامية مراكز الصدارة في قائمة البلاد التي تخلو من قانون واضح لتجريم العنف المنزلي، بأشكاله المختلفة، كما تشمل القائمة بلاداً غير إسلامية مثل: أرمينيا ولتوانيا.

اقرأ أيضاً: المساواة في الميراث: هل تؤرق تونس الأزهر؟

العنف المنزلي؛ هو عنف يمارسه أحد أفراد الأسرة على الآخرين بحكم السطوة، قد يشمل ضرب الأبناء بغية التأديب والتنشئة القويمة، وفي حالات محدودة اعتداء زوجة على زوجها، ويعدّ في هذه الحالة الأخيرة؛ خروجاً عن الأعراف والتقاليد، خاصة في البلاد الإسلامية، لكنّ الأكثر شيوعاً تعرض الزوجات للتأديب ضرباً على يد أزواجهنّ، وهي الحالة التي تتصالح معها الثقافة الجماهيرية في إطارها العام، ولا يجرّمها القانون في كثير من  البلاد العربية، بل تتعرض الـمطالبات بتجريم هذا العنف،  إلى الاتهامات بزعزعة استقرار الأسرة المسلمة العربية.

وعلى صعيد آخر؛ كانت من أخطر الرسائل الإعلامية التي تمّ توجيهها في العالم العربي للنساء؛ ما أذاعته القناة الثانية المغربية، في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2016، في "اليوم العالمي لمناهضة العنف ضدّ المرأة"؛ فبدلاً من إذاعة مواد إعلامية عن خطورة ممارسة العنف ضدّ النساء، أذاعت قناة (M2) فقرة عن كيفية إخفاء آثار الضرب بـ "المكياج"، في برنامجها "صباحيات"! ومن ثم اعتذرت القناة عن الفقرة بعد حملة نقد عاتية.

حقّ الزوجة في ضرب الزوج!

في صيف العام 2015؛ صرّح عميد كلية الدراسات العليا في جامعة الأزهر، الدكتور محمد سالم أبو العاصي، بأنّه "يحقّ للزوجة ضرب زوجها، وردّ العدوان، إن خذلها القضاء"؛ أي إنّه بدل صياغة وتبنّي قوانين تجرّم ضرب الزوجات، اقترح د. عاصي أن تبادل الزوجة زوجها بالضرب.

هنالك مجتمعات ترى أنّه لا ضرر من ضرب الزوجات، طالما لم يكن مبرحاً

رغم أنّ التصريح المثير للجدل كان يهدف إلى الانتصار للمرأة المعنَّفة (شكلاً لا موضوعاً)، لكن ليس من المعقول أن يكون ذلك بحثّها على ملاكمة زوجها، ليتحول المنزل إلى حلبة مصارعة، تتعرض الزوجة فيه لمزيد من العنف والإيذاء والتنكيل، ولربما لفقدان الحياة، وإنّما الانتصار الحقيقي للنساء يكمن في سنّ قانون واضح صريح، غير ملتوٍ، وخالٍ من الثغرات؛ لحماية النساء من العنف الأسري والمنزلي، وهو ما يقودنا إلى المشكلات الفقهية المعرقلة لإصدار تشريعات واضحة في هذا الصدد.

الإشكالية الفقهية في التشريعات المعاصرة

هنالك مجتمعات ترى أنّه لا ضرر من ضرب الزوجات، طالما لم يكن مبرحاً، وهذه الثقافة وإن لم تكن حكراً على البلاد الإسلامية وحدها، إلا أنها تستمد قوتها في البلاد الإسلامية من موروث دينيّ متجذّر في الثقافة الجماهيرية.

الضرب بغرض التأديب؛ صاغه عدد من الفقهاء، ومن بينهم ابن كثير الدمشقي (701-774 هـ)، في كتابه "تفسير القرآن العظيم"، واستند إلى نصّ الآية القرآنية: ﴿وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ [سورة النساء: (الآية 34)].

فيقول ابن كثير في تفسيره؛ "إنّ الرجل حاكم على المرأة، ومؤدبّها إذا اعوجّت، فالضرب يأتي بعد النشوز، أي ترك أمر الزوج، وبعد الهجر في الفراش"، ثم يستشهد ابن كثير بحديث نبوي يوصي بعدم ضرب الوجه، وعدّ ابن كثير، وغيره، ذلك رأفة كبيرة، ومن هنا نشأت فلسفة الضرب الرحيم بغرض التأديب.

اقرأ أيضاً: اغتصاب الزوجات بين صمت المجتمع وثغرات القانون

إلا أنّ المشكلة الأساسية هي إضفاء حالة من الحصانة على فعل الضرب، لمجرد أنه ليس موجهاً للوجه، مما يجعل تجريم الضرب غير المبرح (وهي عبارة مبهمة متناقضة)، أو نزع حقّ ضرب الزوج لزوجته بشكل قاطع وواضح، بمثابة التعدي على النص الديني في المتخيل العربيّ، وهذه الإشكالية ليست يسيرة؛ لأنها تؤسس لنظرية الضرب الشرعي.

ولن نجد اختلافاً كبيراً بين تفسير ابن كثير وتفسيرات الشيخ المصري، إمام الدعاة، محمد متولي الشعراوي، في حواراته المتلفزة، وما يورده الداعية الإسلامي السوري، محمد راتب النابلسي (رئيس هيئة الإعجاز العلمي).

اقرأ أيضاً: متلازمة المرأة والغواية: من الموروث الديني إلى الثقافة العامة

أما الداعية السعودي، محمد العريفي، فقد خرج علينا بنظرية؛ مفادها أنّ "الزوج قد يؤدب زوجته بالضرب بينما تؤدبه هي بالبكاء؛ فهو يحصل على ما يريد بالصراخ، وهي تحصل على ما تريد بالبكاء والعاطفة؛ لذلك فإنّ عاطفة المرأة أشدّ من ضرب السيوف"، الغريب أن مثل هذه التفسيرات تُعدّ، من وجهة نظر البعض، تفسيرات عصرية!

اقرأ أيضاً: يوم المرأة في بيت الطاعة!

لطالما نال لفظ "اضربوهنّ" اجتهادات نصية كثيرة؛ منها تفسيرات د.محمد شحرور، وهو مهندس سوري في جامعة دمشق، اشتُهر بتقديم تفسيرات "عصرية" للقرآن الكريم، على حدّ وصفه، وقد أثارت تفسيراته لغطاً كبيراً وانتقاداً لاذعاً، ويستند شحرور إلى حديث نبويّ بعدم ضرب النساء "لا تضربوا إماء الله"، ويتساءل الدكتور: هل يأمر الله بضرب النساء ثم يأتي الرسول مخالفاً لأوامره تعالى؟!

لكنّ النقد الذي يتعرض له شحرور، على يد السلفية تحديداً، يكمن في اجتزائه للحديث واستشهاده بعبارة واحدة منه؛ فالحديث إجمالاً هو: "قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: "لا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نِسَاءٌ كَثِيرات يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بخياركم".

التشريع المدني الخالص لن يقضي على ثقافة سائدة بين ليلة وضحاها خاصة إن ارتضت بعض النساء التعرض للضرب

والحديث هنا لا ينفي الضرب؛ إنما ينفي الضرب الذي يؤدي إلى الشكوى، وقد ورد هذا الحديث في شرح مسلم وابن ماجه في باب النكاح، ورواه البخاري في النكاح، باب ما يُكره من ضرب النساء.

وبحسب ما جاء في "فتح الباري لشرح صحيح البخاري"؛ فإنه يُحتمل أن يكون هذا الحديث قد سبق نزول آية ﴿اضربوهنّ﴾، ثمّ أذن بعد نزولها فيه، وقوله: "لن يضرب خياركم"، دلالة على أنّ ضربهن مباح في الجملة، ومحل ذلك أن يضربها تأديباً، إذا رأى منها ما يكره، فيما يجب عليها فيه طاعته (دار الريان للتراث، 1986م، ص 215)، وبهذا تنسف نظريات التأويلين العصريين.

حاول بعض المفسرين من فقهاء الشريعة التطرق لهذه الإشكالية، تحت مظلة "الضرب اليسير"، وهذا الأمر في منتهى الخطورة؛ لأنّه لا يجب وضع ضوابط لضرب الزوجات؛ بل يجب غلق الباب تماماً في اجتهاد كهذا، لنفتح باباً آخر من الاجتهاد الإنساني؛ هو تجريم الضرب بشكل قاطع في القانون المدني.

التشريع المدني الخالص لن يقضي على ثقافة سائدة بين ليلة وضحاها، خاصة إن خنعت أو ارتضت بعض النساء التعرض للضرب، لكنّه يمنح أرضية حقوقية يمكن البناء عليها في إطار ثقافي وتوعوي مستقبلياً، يستغرق أعواماً من العمل المضني، لرفع آثار شرعنة ضرب الزوجات في الثقافة العامة، تحديداً في قاعدة الهرم الاجتماعي.

الصفحة الرئيسية