صحفي فلسطيني يروي لـ"حفريات" توحش الممانعة في تل الزعتر

فلسطين

صحفي فلسطيني يروي لـ"حفريات" توحش الممانعة في تل الزعتر


21/10/2018

ليس بمقدور السنين أن تطوي مشاهد الحرب والعدوان، وما تركته من آثار وندوب نفسية، في ذاكرة من عاشوا أحداثها، وعاينوا فصولها، فيما تظلّ لحظات الموت الذي كان يجوس كغيمة سوداء ثقيلة فوق الرؤوس، ويخيم على مختلف التفاصيل اليومية بين البشر، لا يفارق وجدانهم، ويحمل الشعور القديم ذاته بالخوف والقلق، فتئن نفوسهم بالكراهية من مخلفات أحداثه المريرة.
لم ينسَ الصحافي الفلسطيني، ياسر علي، مجزرة تل الزعتر، رغم مرور اثنين وأربعين عاماً على أحداثها، ويذكر بدقة تفاصيلها ووقائعها المريرة، منذ كان طفلاً في السادسة من عمره، وفقد فيها أحد أشقائه بينما أصيب والده.
ذاكرة الموت والألم
يروي علي لـ "حفريات" أنّ مخيم تل الزعتر تعرض لحصارين؛ "الأول لم يدم طويلاً، كان في كانون الثاني (يناير) العام 1976، والثاني بدأ في 21 حزيران (يونيو) العام1976؛ حيث استمر نحو 52 يوماً، إلى أن سقط في يوم 12 آب (أغسطس) العام 1976، وكان قد سقط قبله مخيم جسر الباشا، المجاور له، في 29 حزيران (يونيو) من العام ذاته.

قال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات: شارون العرب ويقصد حافظ الأسد يحاصرنا من البرّ، وشارون اليهود يحاصرنا من البحر

كان يعيش في المخيم حوالي 20 ألف فلسطيني، و10 آلاف لبناني، كما يردف علي "تجمّعوا كلهم في منطقة صناعية، وشكلوا ضاحيتها، وحزام بؤسها، فقد كانت مليئة بالمصانع، وكان المخيم في السبعينيات يعج بالأحزاب اللبنانية (خصوصاً منظمة العمل الشيوعي)، والتنظيمات الفلسطينية الأخرى، ومن ثم، بدأت المناوشات مع الجيش اللبناني، العام 1973، بعد تشريع وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان؛ حيث تم قصف المخيم حينها"، وهو ما اعتبره الصحفي الفلسطيني، بداية الأحداث التي مهدت للمجزرة التي وقعت في مخيم تل الزعتر.
لذا مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أصبح المخيم الفلسطيني هدفاً للقوات اليمينية اللبنانية، بهدف "تطهير" المنطقة الشرقية من الوجود الفلسطيني (المخيمات)، والإسلامي (النبعة وبرج حمود)، وكان اليوم الأخير بعد حصار دام 52 يوماً، بحسب الصحفي الفلسطيني، "يتراوح بين قتال مرّ، ومفاوضات أمرّ، فتعرضوا خلالهما إلى 72 هجوماً، و55 ألف قذيفة، وجاء الأمر من غرفة القوات المشتركة إلى قيادة العمليات في المخيم بأنّ على التشكيلات القتالية أن تتحرى طريقها للخروج من المخيم في الجبال والأحراش المحيطة، وبدأ المقاتلون بالخروج المنظم، أحياناً، والعشوائي، أحياناً أخرى، جماعات وفرادى، واستشهد نصفهم على الطريق".

التنكيل بأهالي المخيم بعد قتلهم

كيف بدأ "عرس الدم" في لبنان؟
في ظلّ تحولات إقليمية ودولية شديدة الصعوبة، تهيأت داخلها أجواء حقبة السبعينيات، وتشكلت في أفقها ملامح واقع عربي وعالمي جديدة، بدأ تراجع معسكر دول الانحياز، بعد وفاة عبد الناصر، وتسريع وتيرة إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وتوقيع معاهد كامب ديفيد، ما انعكست آثاره عن عمد وتدبير، في محاولة تفجير الوضع الطائفي بلبنان، بغية تصفية الوجود الفلسطيني والمقاومة.

اقرأ أيضاً: الحياة الثقافية في فلسطين قبل النكبة... شواهد تكذب الدعاية الصهيونية
ترددت الأحاديث الطائفية عن "الاحتلال الفلسطيني" من جهة اليمين الماروني، بتحريض من الولايات المتحدة، والحثّ على ضرورة "تحرير لبنان من الغرباء"، وهو ما كان بداية تشكّل ما عرف بـ "الغيتو المسيحي"، والسردية الانعزالية للمسيحيين، ومن ثم بدأت بعض الجرائم وحوادث الاغتيال التي أدت لتفجر الأوضاع؛ بداية من حادثة "بوسطة" عين الرمانة، في نيسان (أبريل) العام 1975، عندما قام مسلحون من الكتائب اللبنانية بقتل 30 فلسطينياً، من أهالي تل الزعتر، كانوا في طريق عودتهم من احتفال وطني في مخيمي صبرا وشاتيلا.
ومنذ ذلك التاريخ؛ الذي بدأ من حادثة "عين الرمانة"، اندلعت الأحداث الطائفية اللبنانية، وانفجرت الاشتباكات، وتصاعدت عمليات القتال على أساس الهوية، في عموم لبنان، ورد الفلسطينيون على هذه الواقعة، في حزيران (يونيو)، باختطاف السفير الأمريكي، فرنسيس ميللوي، والملحق الاقتصادي، ومعهما السائق الخاص بهما، ووجدوا مقتولين بعد عدة أيام.

الجيش السوري يمعن في الانتقام
"كان أهالي مخيم تل الزعتر يودعون بعضهم قبل موتهم القادم"، هكذا يصف الصحفي ياسر علي ذلك اليوم الطويل والشاق الذي "أجبر فيه أهالي المخيم على تركه، بقوة السلاح، وتعرضوا للقتل والموت أثناء عبورهم خارجه، بصورة انتقامية، من قوات اليمين المسيحي في لبنان، وبدعم من قوات الجيش السوري، حيث كان ذلك الوداع إيذاناً واستقبالاً، لنكبتهم الثانية القادمة".

اقرأ أيضاً: يهدمون منازلهم بأيديهم: فلسطينيون على الأطلال يعانون ويلات الاحتلال
وفي اليوم التالي، في 12 آب (أغسطس) العام 1976، أكملت المجزرة تفاصيلها وضحاياها، الـذين بلغوا 4200 شخصاً، بين قتل وذبح وسحل وفلخ وتصفية.
حملت المجزرة بصمات قوية تفضح الدور السوري، في عهد حافظ الأسد، إزاء مجزرة تل الزعتر، حيث دخلت قواته إلى لبنان وقوامها 30 ألف جندي، بغية سحق المقاومة الفلسطينية، والوقوف إلى جانب المجموعات المسيحية "الانعزالية"، وهو ما يوثقه الأكاديمي والسياسي المعروف، يفجيني بريماكوف، الذي شغل منصب رئيس وزراء روسيا، في تسعينيات القرن الماضي، وشهد فصول الحرب الأهلية اللبنانية؛ حيث كان وسيطاً بين الفرقاء السياسيين المختلفين.

اقرأ أيضاً: وقف دعم الأونروا نكبة جديدة لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني
في كتابه "الكواليس السرية للشرق الأوسط"، أشار بريماكوف إلى أنّ قائد الكتائب اللبنانية، بيير الجميل، أكّد وجود خطّ اتصال مع الرئيس السوري. كما ينقل بريماكوف، نصاً، عن الجميل "موافقته التامة على مهمة سوريا في لبنان، بعد أن كانوا يخشون من التدخل السوري، لكن سوريا مدت يدها لنا، وفي أثناء جلسة استمرت نحو أربع ساعات، مع الرئيس السوري، بدمشق، في أوائل العام 1975، أدرك الجميل أنّ الزعيم السوري إنسان شريف".

القبض على بعض أهالي مخيم تل الزعتر

فتش عن إسرائيل
ظلّ تعاون الجميل، وقوات الكتائب، مع الجيش الإسرائيلي، من الأمور التي تتردّد في السرّ والعلن، فقد أعقب دخول الجيش السوري، في مهمته لسحق المقاومة الفلسطينية  في لبنان، إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، ارتياحه العميق لخطوة النظام السوري، قائلاً: "إن إسرائيل لا تجد سبباً يدعوها لمنع البعث السوري من التوغل في لبنان، فهذا الجيش يهاجم الفلسطينيين، وتدخلنا عندئذ سيكون بمثابة تقديم المساعدة للفلسطينيين، ويجب علينا ألا نزعج القوات السورية أثناء قتلها للفلسطينيين، فهي تقوم بمهمة لا تخفى نتائجها الحقة بالنسبة لنا".

يوضح هنري لورانس في كتابه "اللعبة الكبرى" أنّ اتصالات الإسرائيليين مع الكتائب اللبنانية كانت قد بدأت عام 1975

وفي كتابه "اللعبة الكبرى: المشرق العربي والأطماع الدولية"، يوضح هنري لورانس، أنّ الاتصالات بالإسرائيليين كانت قد بدأت عام 1975، مع الكتائب اللبنانية، وفي آب (أغسطس) العام 1976، التقى رابين بكميل شمعون على ظهر سفينة إسرائيلية، في مرفأ جونية، ثم كان دور آل الجميل بعد ذلك بقليل، حيث "يبدو أنّ بيير الجميل صرّح في هذه المناسبة بأنه إنما استنجد بالإسرائيليين مكرهاً ومجبراً".
وبحسب لورانس؛ فإنّ إسرائيل زوّدت الميليشيات المسيحية بالأسلحة والمدربين، وسرعان ما لاحظ المسؤولون الإسرائيليون شخصية بشير الجميل، وقرروا أن يقدموا أقصى ما يمكن من الدعم.

اقرأ أيضاً: 10 محطات جعلت عهد التميمي أيقونة للنضال الفلسطيني
إذاً، بدأ حصار مخيم تل الزعتر الفلسطيني، مع أفول العام 1976، بتحالف متين وتنسيق بين الجيش السوري والقوات المارونية اللبنانية، ومعهما ميليشيات النمور، التابعة لحزب الوطنيين الأحرار، بقيادة كميل شمعون، وميليشيات جيش تحرير "زغرتا"، والأخيرة، يقودها طوني فرنجية، وقد دام حصار المخيم الذي يقطنه 20 ألف فلسطيني و15 ألف لبناني، 52 يوماً، تعرض خلالهم لقصف عنيف (55000 قذيفة)، ومنع الصليب الأحمر من دخوله.

مشاهد من القتل والغدر
لم تتمكن قوات الكتائب واليمين المسيحي بميلشياته من دخول المخيم، الذي مثل أسطورة في الصمود ضدّ الكراهية الطائفية، إلا عبر ذلك الغطاء العسكري، الذي وفرته لهم قوات نظام البعث السوري.
وعقب سقوط المخيم، يوضح سعيد أبو جبل، أحد أبناء مخيم تل الزعتر، ممن نجوا من القتل، في حديثه لـ "حفريات"، طريقة هندسة الجرائم التي تعرضوا لها من قتل وإبادة وتنكيل؛ حيث كان هناك اثنا عشر حاجزاً بمثابة مصفاة، انتشرت في الطريق من تل الزعتر إلى المتحف، بهدف إنزال من يشاؤون من الشاحنات التي تنقل القرابين، كما يصف، فيخطفونهم ويقتلونهم، ومن نجا من القتل، كان يتم استخدامه عاملاً بالسخرة، بينما تم بيع الأطفال الذين اختطفوا لعائلات أجنبية.

اقرأ أيضاً: كيف سهّل العثمانيون توطين اليهود بفلسطين قبل وعد بلفور؟
بيد أنّ موكب الكادر الطبي الذي كان في المستشفى الميداني، خرجوا بأثوابهم البيضاء، وساقهم الجنود إلى مكان جانبي لإعدامهم، كما يوضح أبو جبل، لولا أنّ بعضهم كان يتلقى العلاج قبل الحصار، على أيدي هؤلاء الأطباء، فشفع لهم ذلك ولم يتعرضوا للقتل.
ومن بين مشاهد القتل التي ما يزال يذكرها: "أتى أحد جنود الكتائب، ليبدع في التنكيل؛ فيأتي بقربان ثمين من أهالي المخيم، كما في حالة شخص يدعى "أبو علي سالم"، والد قائد "المحور التحتاني"، حيث قاموا بربط ساقيه بسيارتين تنطلقان في اتجاهين معاكسين، فيفسخونه قسمين، وكرروها عدة مرات مع شخصيات أخرى، ليشفوا غليل الدم".

شارون العرب وحرب المخيمات
وفي كتابها "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية"، ترى الكاتبة اللبنانية، دلال البزري، أنّ موقف قوات الجيش السوري الذي كان "يدعم قوات الكتائب من الخلف، ويحمي ظهرها" لم يكن أمراً غريباً في نظرها، بيد أنّ الواقع الملموس إثر نتائج تدمير المخيم، يعكس تداعيات مريرة، تذكر من بينها، قصة تلك المرأة العجوز التي كانت تتطوع للذهاب إلى ما تصفه بـ "النبع"، في مكان مجهول، وحدها، ثم تعود محملة بمياه تعطيها للأطفال، الذين كانوا في حاجة لذلك، بعد أن تم قصف عين الماء الوحيدة الموجود في المخيم، إمعاناً في قهرهم والتنكيل بهم وقطع سبل الحياة عنهم.
توّج الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، بكلماته المقتضبة، أحداث مجزرة تل الزعتر، ملخصاً وقائعها المأساوية، عندما قال: "شارون العرب (يقصد حافظ الأسد) يحاصرنا من البرّ، وشارون اليهود يحاصرنا من البحر"، ومعبراً عن ذلك التواطؤ الذي جرى بين النظام السوري من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى، إضافة إلى أدواتهما في لبنان، ممثلة في المليشيات المسيحية اليمينية، بغية دحر الوجود الفلسطيني وإنهاء المقاومة، وهو الأمر الذي تكرر في مخيمي "جسر الباشا"، و"الكارنتينا" المجاورين لتل الزعتر.

اقرأ أيضاً: حملة أوروبية جديدة من نوعها لوقف قتل الفلسطينيين
ويكشف الباحث السوري، فراس محمد، في دراسته المنشورة عن تل الزعتر، تبعات الدور الخفي والمستتر للنظام السوري، من وراء تفجير الوضع الفلسطيني في لبنان، وما تلاها من سلسلة الجرائم التي ارتكبها الأسد، عبر مراحل عدة، منذ تدشينه تاريخ الدم في لبنان؛ حيث كان هدفها كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وسلب قراره الوطني؛ لذلك أدركت القيادة الفلسطينية أهداف النظام السوري في السيطرة على المشروع الوطني الفلسطيني، وترويضه، وكبح جماحه، مهما كان الثمن، بهدف تأدية دوره الوظيفي الذي لم يعد خافياً على كل ذي بصيرة، رغم كلّ شعارات "المقاومة والممانعة" التي طالما تبجّح بها.
ومن بين أهم الأدوار التي لعبها حافظ الأسد، كما يشير الباحث السوري؛ دعمه للمنشقين عن منظمة التحرير وحركة فتح، العام 1983، ومساندتهم في القتال ضدّ المنظمة، بقيادة ياسر عرفات، وشكلت حرب المخيمات بين عامي 1985 و1988، التي خاضها المنشقون عن منظمة التحرير وحركة أمل، بدعم وتوجيه من نظام البعث، أحد أسوأ الجرائم المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني، وتصفية المقاومة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية