مرضى الحنين العُضال: هل تذكرون مضافة الحاج مازن؟

مرضى الحنين العُضال: هل تذكرون مضافة الحاج مازن؟


23/10/2018

المرضى بالحنين يعودون إلى الماضي؛ للاحتماء، والارتواء، والاغتسال من غبار الحداثة التي أصابت القلب بالصدأ.

نتذكّر الماضي، ونودّ لو يعود الزمان إلى الوراء قليلاً كي نتلمّس عبق الطيبة والأصالة والنخوة والنُبل، وهي قيم لا نعثر عليها في لحظتنا الراهنة إلا فيما ندر، رغم أنّ الناس جُبلوا عليها، لكنّ ناس هذه الأيام ليست كما ناس أيام زمان، ولا نقصد الزمان البعيد الغابر، بل الزمان القريب الذي وثّقت وقائعَه العطرة الكاميرا بالأبيض والأسود وبالألوان بعد ذلك، كما وثقت الإذاعة أثيره الخيّر.

نتّحد في ذلك الزمان الطيب الآفل لأننا نبحث عما سقط منا، عما خسرناه، عما جفّ في عروقنا

في ذلك الزمان الطيب، كان ثمة رجل يدعى مازن القبّج، أمضى أكثر من أربعين عاماً وهو يطلّ على المزارعين ويقدم لهم المشورة، حتى صار مرشدهم الروحي وصديق أياديهم المتشققة وأرواحهم المعلقة بغيمة طافت بوادي الأردن، وفوق تلة على أكتاف السلط، وسهول مادبا.

أربعون عاماً وأزيَد والحاج مازن يُخبر المزراعين كيف "يبحشون" في الأرض، ويُبلغ الأمهات الطاعنات في الحب كيف يرصصن الزيتون، ويوصي المسؤولين خيراً بالأراضي "الزراعية الحمرا المعطاء الخصبة التي بتغلّ كل سنة"، ومحذراً من البناء في غور الأردن الخصب، لأن ذلك "معناتو هذه الأراضي اللي كنا ننتج فيها الكمح والخضرة الغذاء ورغيف الخبز انحرمنا منها".

اقرأ أيضاً: مقهى جروبي: ملتقى زمن القاهرة الجميل

كان الحاج مازن قريباً من نبض الأرض، لذلك كان خطابه يتمتع بالمصداقية وهو يطلّ على الأردنيين برفقة "أبو سالم" و"أبو هاني" وتوهان، وربابة عبده موسى و"أبو سرور" وسواهم من أقطاب المضافة الأبرار.

نذهب إلى زمن المضافة، محمولين على شغف الوفاء للحظة نادرة من لحظات الاجتماع الأردني الذي كان لخير الناس، فنلحظ في ذلك الزمان أملاً أين منه إحباطات الحاضر وأمراضه ومآسيه وانشطارات النفس التي مزّقتها الولاءات الصغيرة التي لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة؟!

ولو سئل كثيرون عن ذلك الزمان الجميل لفضّلوا الإقامة فيه، لا يبرحونه أبداً، رغم أنهم يعيشون الآن في "رخاء" أزمنة الفتوحات العلمية والثورة التكنولوجية وانفجار عالم الاتصال الذي حوّل العالم إلى غرفة صغيرة، بل إلى حيز لا يعدو أن يكون أكبر من جهاز هاتف محمول.

اقرأ أيضاً: محمد المهدي المجذوب.. جنون شاعر وزهد صوفيّ

كان كلّ شيء في ذلك الزمان صافياً منقّى من سموم الحداثة، وكأنّ كل تقدّم يستبطن في أحشائه توحشاً من نوع ما، وكأنّ كل رفاهية هي بالضرورة نتيجة لشقاء آخرين، وما أكثر الأشقياء في الزمان الراهن الذين لا يجدون كسرة خبز في "باطيتهم" لأنّ الفساد زحف بأذرعه الأخطبوطية واستولى على الغِلال، ولأنّ الكراهية تفشّت كالكوليرا وأعطبت النفوس، ولأنّ الأنانية خيّمت بظلها الأسود الثقيل وأزاحت الإيثار، ولأنّ القيم تمزقت فصار الفساد شطارة والرشوة مهارة والكذب فهلوة، والإخلاص في العمل هَبَلاً، وطأطاة الرؤوس تواضعاً، والصمت على قهر الزمان حكمةً.

نلوذ، كي نتعافى من أمراض زماننا، بمضافة الحاج مازن، ومن قبلها بالنفحات النورانيّة المنبثقة من المسلسل الإذاعي "مضافة أبو محمود" الذي أوصى به الزعيم الوطني وصفي التل، أيام كان مديراً للإذاعة الأردنية، واشترط أن يكون المسلسل باللهجتين البلقاوية الريفية والفلسطينية الريفية أيضاً، وكلّف بإعداده كلاً من مازن القبّج وإسحق المشيني، وجرى تقديمه بجهود بُناة الدراما الأردنية الأوائل؛ سامي حداد وغالب الحديدي وسهام لطفي (أم محمود) وعبده موسى ونظمية الربضي (فلحة) ونبيل المشيني (محمود).

كان كل شيء صافياً منقّى من سموم الحداثة، وكأنّ كل تقدّم يستبطن في أحشائه توحشاً من نوع ما

نتوق إلى ذلك الزمان الطاعن في الحب والطهر، لأننا أصبحنا طاعنين في البغضاء والمنكر، وممتلئين بأورام الأنا المتخمة بالقيح والأوهام، ومزدانين بخرافة المعرفة، رغم أنّ غالبيتنا يعلمون ولا يعرفون، فأن تكون متعلماً حائزاً شهادةً جامعية دنيا أم عليا لا يعني بالضرورة أنك حزت قصب المعرفة، فهذا الشرف لا يناله إلا من صانوا علمهم عن أسواق النخاسة، وطوّروا عقولهم لتبدع عوالم جميلة، وتخلق مساحات ضوء، وتحلّق في سماءات لا تحدّها هتافات ولا أعلام ولا أبواق أو مزامير.

نتّحد في ذلك الزمان الطيب الآفل، لأننا نبحث عمّا سقط منا، عمّا خسرناه، عمّا جفّ في عروقنا، عمّا تاه في نظراتنا، عمّا فقدته أرواحنا. نبحث عن الكلمات التي تجمع، واللغة التي تمدّ أواصر المروءة والدفء والتسامح، نبحث عن الفرسان والشهداء الذين زرعوا فجئنا لنحرق زرعهم، وبنوا فهدمنا جسورهم، وحلموا فجعلنا أحلامهم كوابيس ومحض خيالات سقيمة.

اقرأ أيضاً: حمد الجاسر: أول طالب سعودي في كلية الآداب بالقاهرة

نحن المرضى بالحنين العضال، لا نقوى على الذهاب إلى الزمان الأبيض القشيب، ولا نعمل على جعل الحاضر أقل فداحة، فنتأرجح بين رغبتين ضاريتين كوحشين كاسرين لا يتآخيان، ولا تقوم لأحدهما قائمة إلا بفناء الآخر، دون أنْ يعلما أنّ الآخر هو أنا معكوسة ستصيبها، ولو بعد حين، جائحة الفناء.

فليتقدّس سرك العظيم يا مخدّر النفوس، ويا صديقها الحنين!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية