الأمن الروحي في المغرب.. حتى لا تتحول كراسي الوعظ إلى منابر للسياسة

الأمن الروحي في المغرب.. حتى لا تتحول كراسي الوعظ إلى منابر للسياسة


23/10/2018

محمد بن امحمد العلوي

في سبعينات القرن الماضي كانت الخطبة في المغرب أهم أداة لتمرير الخطاب الإسلامي بعد بروز خطب على شاكلة “الخطب الكشكية” (نسبة للشيخ عبدالحميد كشك) لقدرتها الواسعة على تحميس جماهير المصلين وتعبئتهم بسرعة فائقة، حسب عبدالهادي أعراب أستاذ علم الاجتماع بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، غير أنه وبانتشار هذا الصنف من الخطب النّارية في الكثير من مناطق المغرب، تنبّهت السلطة لخطورتها، فعملت من خلال وزارة الأوقاف على تحديد مواصفات خاصة للخطيب في مؤتمر فاس 1987، كما حاولت لاحقا من خلال النشرات الخاصة التي تسهر على نشرها تحت عنوان “نشرة الأئمة والخطباء”، أن تحمّل الأئمة والخطباء مسؤولياتهم الدينية دون أن تعلن بشكل مباشر حجرها على حريتهم الخاصة التي تقتضيها مزاولة مهامهم بمنابر المساجد.

ونظرا لما حملته تكنولوجيا التواصل والاتصال من آفاق عالية في التعرف والاطلاع على معارف وقيم دينية متنوعة والانفتاح على تأويلات متنوعة يمكن أن تكون متطرفة ولا تراعي في الغالب البيئة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الإسلامية والعربية يصدرها خطباء وزعماء دينيون من خلال الخطب والكتب، فقد شدد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، على أن من مهام المبلغين، وعلى رأسهم من نسميهم اليوم بالزعماء الدينيين، حماية الناس من بضاعة هذه الأصناف، لا سيما وقد توفرت لهم وسائل التواصل وملابسات العبث بحرية التعبير.

وبعد دعوة أحمد التوفيق إلى توعية الناس المتدينين وتحذيرهم مما يستهلكونه من المادة الدينية، نرى أنه لا يمكن نكران تأثير الخطبة المنبرية أو تلك التي يقوم بها الدعاة من خلال التلفزيون أو وسائل التواصل الحديثة.

ويعمل المغرب كبلد إسلامي بشكل جلي وفي كامل التراب الوطني على الرفع من قدرات المشرفين الدينيين للارتقاء بعملهم وأداء رسالتهم بما ينسجم ووسطية وسماحة واعتدال الدين الإسلامي، في مجال العبادات والمعاملات، ولأجل حماية الدين الإسلامي من المغرضين والمتطرفين والظلاميين.

ولهذا شدد التوفيق على أن من مهام المسؤولين الدينيين أن يشخصوا حال العالم من أجل اقتراح أنواع العلاج لأنواع المشكلات، ومن ثمة، اقتراح النظام الأمثل للمعيشة في نمط لا تكمن فيه الأسباب الكبرى للجشع والصراع على أمور هذه الدنيا، موضحا أن التوصل إلى التشخيص يفترض شرطين، أولهما العلم العميق الواسع بشؤون العالم، وثانيهما العدالة، بمعنى الموضوعية والحياد إزاء الصراعات، فيكون الزعماء الدينيون، أي حملة العلم الديني القائمون بالتبليغ، بمثابة قضاة.

وللخطورة التي تنتج عن الخطاب المتطرف في المساجد اعتبر عبدالهادي أعراب أستاذ علم الاجتماع بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، أن النموذج الجزائري يمنحنا تجربة خاصة، عندما تحوّلت فيها المساجد من أماكن للعبادة إلى مراكز للجهاد وتفريخ المجاهدين المساهمين في حرب العصابات والمنضوين تحت ألوية جبهة الإنقاذ، التي عبأت شبابها بأفكار سياسية معارضة، من خلال المضمون السياسي الذي أضفته على خطابها الديني، ها هنا نكون أمام مستوى يتحوّل فيه المسجد، تحت التأثير الدعوي والأيديولوجي، إلى مركز تنظيمي لثقافة العنف والوصول إلى السلطة، وإن كان هذا العنف يأخذ في لغة هذه التنظيمات معنى مغايرا هو “الجهاد”.

ولهذا يتم الإجماع على ضرورة تشديد الرقابة على المضامين الدينية للعلماء، إذ أن أحمد التوفيق كمسؤول ومطلع أيضا على الشؤون الدينية والثقافية، يؤكد أنه من غير المعقول أن تقام الهيئات والمؤسسات لمراقبة الجودة والمطابقة بالنسبة إلى مستهلكات الحياة المادية، ولا يتم ذلك بالنسبة إلى المادة الدينية والروحية.

وقد أخضعت الوزارة الوصية على الشأن الديني بالمغرب المرشدين والأئمة إلى تكوين أشرفت عليه المجالس العلمية على امتداد تراب المملكة لإعدادهم لمهامهم في الخطابة وتوعية الناس بشؤون دينهم بما يتناسب والتحولات التي يعرفها المجتمع على كافة المستويات، وذلك تحصينا لهذا المجال الحيوي والخطير من الدعاة والخطباء والأئمة الذين لا يلتزمون بالضوابط والحدود المرسومة في دليل الخطباء للتوافق مع الثوابت وما يناسبها من شرح أحكام الدين ومكارمه والحفاظ على السلم الاجتماعي.

واعتبر أحمد التوفيق أن دور المؤطرين الدينيين في خدمة السلم، موضوع لا يفيد فيه الاختزال في التصور، بل يحتاج إلى تبين يحدد جهات المسؤوليات على أشكالها وعللها ودرجاتها، ولا يليق بالزعماء الدينيين أن يقعوا في الوهم بأنهم في هامش الندب والاختيار يستطيعون توجيه ما يدبره غيرهم في مركز دائرة القرار.

وهناك بالطبع من هم ضد الرقابة للخطباء داخل المساجد التزاما بحرية التعبير وإبداء الرأي، لكن هذا المجال، ولما له من تقديس لدى أغلبية المسلمين، لا ينبغي التعامل معه بمنطق تجزيئي وانتقائي حقوقي بل بمنطق المصلحة العليا لاستقرار المجتمع وأمنه الروحي الذي ينعكس على سلوكه اليومي، وهذا ما دفع الدولة المغربية إلى التعامل مع هذا المجال بحذر شديد في الخطوات التي قامت بها في إطار إعادة هيكلة الشأن الديني.

ويقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة “إدراكا منها لخطورة المنابر المسجدية، ظلت مهمة الإشراف على دروس الوعظ والإرشاد، من اختصاص الدولة المغربية التي كانت منذ القرن السابع والثامن الهجريين، تتدخل في بناء المساجد والإشراف عليها من خلال حبس الأوقاف وتعيين القيمين الدينيين، كما أن دروس الوعظ والإرشاد لم تكن تلقى دون استئذان من السلطات التي تعمد إلى مراقبة هؤلاء المرشدين والوعّاظ”.

والدولة المغربية عملت على السهر على تسيير شؤون المساجد وتعيين القيمين والمشرفين على الكراسي العلمية بها، مدركة خطورة الانحراف السياسي الذي يمكن أن يميز الدروس العلمية والدينية، لذلك اتخذ إشرافها على هذه الفضاءات شكل متابعة ومراقبة حتى للمضامين والمحتويات الملقنة داخلها وذلك حتّى لا تتحول إلى شؤون الدولة، كما ظل الحكام وأعوانهم يتوجّسون من كراسي المساجد، من حيث إمكانية تحولها إلى منابر سياسية مناوئة.

وقد قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الوصية على الشأن الديني بالمغرب بعزل عدد من خطباء الجمعة آخرهم خطيب الجمعة بمسجد إبراهيم الخليل بمدينة سلا، معللة ذلك بمخالفاته لضوابط “دليل الإمام والخطيب والواعظ” ولتعرضه في خطبة أخيرة لمواضيع من اختصاص مؤسسات أخرى بحكم القانون.

وكما قال الصادق العثماني مدير الشؤون الدينية باتحاد المؤسسات الإسلامية بالبرازيل فإن الوزارة المعنية بتسيير قطاع المساجد لم تترك اﻷمر فوضى لمن هب ودب، لذلك فإن للوزارة المعنية الحق الكامل والصلاحية المطلقة لتوقيف أي خطيب تراه قد اخترق هذه الضوابط وميثاق الخطباء والمراسيم التي صدرت في هذا الشأن.

ونظرا لأهمية المسجد وخطورة خطب الجمعة التي تلقى داخله، بل ولوعيها بتأثيرها الأيديولوجي، أكد الباحث المغربي عبدالهادي أعراب أن الدولة المغربية ظلت تراقب باستمرار وحذر شؤون المعتقد، كما تراقب بنفس الاهتمام مجالها الترابي، سعيا منها للحفاظ على الأوضاع القائمة دون أي فصل بيّن بين الأمن المادي والروحي.

والسبب في صعوبة مهمة المؤطر الديني حسب وزير الشؤون الاسلامية احمد التوفيق، آت من كون الناس يشاهدون ما يجري في العالم يوميا عبر شاشاتهم الكبرى والصغرى، وعلى أساس قراءاتهم المباشرة للوقائع يغدون بمشاعرهم ميولهم إلى الانفعال وقلة الصبر والتفهم، لأن وقع المشاهدة أعظم بكثير من التوجيهات القولية في خطب الواعظين.

وكان العاهل المغربي وبصفته الدينية كأمير للمؤمنين، أصدر مرسوما يمنع بموجبه الأئمة والخطباء طيلة مدة أدائهم لوظائفهم من ممارسة أيّ نشاط سياسي أو نقابي، أو القيام بأيّ عمل من شأنه وقف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية، حتى لا تتحول المساجد إلى حلبة للصراع والتطاحن السياسي.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية