الحداثة التي لم تهزم المتعالي

الحداثة التي لم تهزم المتعالي


29/10/2018

أصبحنا، اليوم، نفكرُ في ضوء مفاهيم عدة؛ هي الأرضية الأساسية لنقاشاتنا و"همومنا" الحديثة، من الديمقراطية إلى السيادة إلى الفصل بين السلطات، والفصل بين الديني والسياسي، إلى العلمانية بمعنى أشمل، ورغم أنّنا نفكر من شرفة هذه المفاهيم، بوصفها "مفاهيم حاكمة" على غيرها، ومعيارية في الوقت نفسه، فإنّنا عادة لا نفكر فيها، نحن نفكّر بها وليس فيها، بوصفها إمكاناً للتعقل والنقد، وإنّما هي المعيار ومنتجة المعيارية في حياتنا المعاصرة؛ لذلك يغدو سؤال إنتاج المفاهيم وعملها على تقليد فكريّ وعموميّ معيّن سؤالاً ملحّاً، ملحّ من حيثُ هو يوضح الشروط التي هيّأت المفهوم لأن يتكوّن، ويمثّل أفقاً للتفكير، وأيضاً من حيث هو سؤال جذري ونقدي، يؤمن بتاريخية المفهوم لا تعاليه.

اقرأ أيضاً: السؤال الأخلاقي في فلسفة طه عبد الرحمن: من النظر إلى العمل

تقدّم الحداثة نفسها، أو تفهم عادة، بأنّها هي التي قطعت مع "المتعالي" بكلّ أشكاله، ومن ثم فإنّ الحياة التي توفرها هي حياة دنيوية؛ حيث إنّ الرجاء فيها بشريّ لا خارج له، وحيث إنّ ما يحدث في الزمن هو زمنيّ وداخليّ، ومضمن في العالم المعيش، وكان هذا طرح ديكارت بدايةً، حين أعلن الاهتمام بـ "كسب الأرض"، لا بـ"كسب السماء"، وهو جوهر ما صاغه كانط لاحقاً؛ من أنّ كونك متنوراً هو في "استعمالك العمومي للعقل"، ومن ثم رفض الوصاية أيّاً كانت صورتها، وكما يتساءل الفيلسوف الكندي، تشارلز تايلر، في مستهل كتابه "عصر علماني" (a secular age): "ماذا يعني أن نقول إننا نعيش في عصر علماني؟"، وهو سؤال طريف؛ حيث إنّه يحدّد ماهية "العلماني" (the secular) الحديث، لا من حيث كونه شخصاً، إنما بوصفه عصراً، ومن ثمّ فالجواب، كما يقول تايلر نفسه في الكتاب ذاته، هو لا يعني أننا نعيش في عصر إلحادي، إنما نحن نعيش حادثة غير مسبوقة؛ حيث الإيمان أصبح اختياراً (option) من ضمن خيارات عديدة؛ أي أصبح هناك تصالح مضمر بين الإنسانوية والمسيحية في الغرب الحديث.

اقرأ أيضاً: لماذا انتصر إسلام الخاصّة على إسلام العامّة؟

ورغم أنّ واقعة الحداثة هي واقعة تاريخية بالأساس، إلا أنّها تقدم كواقعة متعالية في حدّ ذاتها؛ لأنّها محاطة بمفاهيم وبهالة إنسانوية شديدة على نحو دينيّ، بمعنى أنّ ظنّها بالقطع مع الدين هو مجرد افتعال ميتافيزيقي، صنعته هي عن نفسها، ولهذا ينبغي التفكير في الحداثة لا بوصفها ضدّ الدين، إنما بوصفها تعالياً إنسانوياً جديداً، بمفاهيم جديدة لم تكن متوفرة للعصر قبل الحديث، ومن ثمّ ينبغي أن نسأل: ما هو "الحديث" الذي جعل الحداثة جديدة، في حين أنّ ما "قبلها" وحشيّ وبدائي وغير عقلاني وما قبل حديث؟ فكما يقول ديبيش شاكرابرتي، في كتابه "مواطن الحداثة" (Habitations of Modernity)؛ إنّ الحديث عن "الحداثة" يفترض دائماً عكسها: ما قبل الحداثة، على المستوى الاجتماعي والسياسي والديني أيضاً، ومن ثم، ينبغي أن نقوم بجينالوجيا للحداثة من حيث كون شروط ما وظروف تاريخية قد هيأت مؤسسات ما وأنماط عيش مختلفة تدعى بأنّها "حداثية".

رغم أنّ واقعة الحداثة هي واقعة تاريخية بالأساس إلا أنها تقدم كواقعة متعالية في حدّ ذاتها

إنّ الحداثة، بما هي أفق لتفكيرنا الحديث، وبما أنها حكم سياسي وأخلاقي على آخرها، يستدعي الشرط التاريخي المعاصر إلى التفكير فيها بعض الوقت، وفي أهمّ تجلّ لها، وهي الدولة، أو بلغة أخرى: السيادة الحديثة، وذلك كما قام تشارلز تايلر في عمله الذكي والرائع "المتخيلات الاجتماعية الحديثة" (Modern Social Imaginaries)، بوصف وتحليل الشروط التاريخية والاقتصادية لظهور المفاهيم الثلاثة التي تشكل أفق تفكيرنا اليوم، ألا وهي: الاقتصاد والمجال العام والشعب السيد؛ حيث أوضح تايلر أنّ هذه المفاهيم هي مفاهيم متخيلة، لا بمعنى أنها كاذبة، إنما بمعنى أنها تشكل تصوراتنا العمومية لفهمنا لأنفسنا، بوصفنا "ذواتاً حديثة"، ومن ثم؛ فهي التي تخيل لنا، بوحدتنا كأمّة أو كشعب، وتهيئ لنا حاجتنا إلى السوق الحديث للخروج من نمط البيع والشراء القديم، وأيضاً تشعرنا بأنّ لنا "إرادة" (will) مستقلة وحرّة لاختيار من نشاء، والإطاحة بمن نريد من حكام وحكومات، كلّ هذه الحساسيات والتصورات هي مكوّنة تاريخية، وهي التي تشكل تصوراتنا الحديثة.

اقرأ أيضاً: محمد عابد الجابري: مثقف المشروع

وإنّ هذه المفاهيم "المتعالية"، وبما أنها متخيل حديث، لا تعني أنها مكونة على نحو زائف بالمعنى الماركسي "للأيديولوجيا"، وهو معنى مهمّ، كما يقرّ تايلر في الكتاب نفسه؛ لأنّ الأيديولوجيا نفسها تسهم في تشكيل هذه المفاهيم وهذه التصورات، ومن ثم فمن هذا الباب هي ضرورية تاريخياً لتشكيل هذا الوعي بالذات والإحساس بالنفس.

وما نتعلمه من تايلر، من حفره التاريخي في تشكل دلالات هذه المتخيلات الاجتماعية الحديثة؛ هو كيف نفكر فيما يمثل نسقاً مغلقاً لتفكيرنا، أي كيف نفكر في الحداثة، وإذا اتفقنا أنّ الحداثة اليوم، الحداثة بما هي رؤية معينة للذات، وللمؤسسات، وللاجتماع، ...إلخ، تمثل إطارنا المفاهيمي، فكيف يمكن أن نفكر فيما يحدّ إطار تفكيرنا؟ أو هل هناك "خارج" للحداثة نفكر فيها من خلاله؟ وإذا كانت الحداثة واقعة جليلة حلّت بأنفسنا الحديثة، فهل بالإمكان التدبر في "متعالياتها" الإنسانوية والعلمانية التي هي متعاليات معيارية تصنف العالم بطريقة وحشية في زوج مفاهيمي أحياناً، يأخذ شكل الغرب/ اللا غرب، أو الحرية/ البربرية، ...إلخ؟

اقرأ أيضاً: إرهاب البلاغة: لماذا علينا ألّا نقع في هوى السلطة؟

في حواره الرائع الأخير مع "جدلية" بالإنجليزية، إثر واقعة تشارلي إيبدو، في كانون الثاني (يناير) الماضي؛ تحدّث طلال أسد، بلغة جذرية، كما شأنه عادة، عن أنّ الاتهام الموجه للمسلمين، بوصفهم يرتكزون على "قوى متعالية" (transcendental forces) وعنيفة، هي التي تدفعهم "للإرهاب"، هو شيء قائم في صلب العلمانية والإلحاد الحديث، فدائماً ما يصوّر الأمر على أنّ "المتدينين"، وهي كلمة يختص بها المسلمون عادة، لا يمكن أن "يندمجوا" في مجتمعات ليبرالية حديثة، بسبب عقيدتهم العنيفة، إلى آخر الكلمات الليبرالية العنصرية ضد المسلمين أو الأقليات عموماً، في حين أنّه، وكما يوضح البروفسور طلال أسد، من ينصّبون أنفسهم بوصفهم "لا دينيين"، تسيطر عليهم متعاليات كثيرة، ليس أولها "متعالي السوق" مثلاً، وليس انتهاءً بـ "متعالي الدولة الحديثة".

اقرأ أيضاً: المجال العامّ: مقدّمة قصيرة جداً

إنّ اتخاذ الحداثة بوصفها نمطاً علمانياً قطع مع "التعالي"، ليس سوى تعالٍ مزيّف عن طريق لغة معلمنة لا أكثر، ولعلّ أكبر متعال يرتكزون عليه؛ هو متعالي "الإنسانية" (humanity)، كما يقول أسد، باعتبار أنّه على المرء أن يتصرف وينشئ سلوكاته على قاعدة كونية (universal rule) اسمها "الإنسانية"، وكما نعلم أنّ الاستعمار مثلاً نتج عن مثل هذه المفاهيم الإنسانوية في القرنين السابع والثامن عشر.

لا تنتهي متعاليات الحداثة عند هذا الحدّ، فكما يروج العلمانيون التقليديون والوضعانيون، شرقاً غرباً، بأنّ بزوغ العلمانية الحديثة هو بمثابة انحسار وأفول للدين، ليس على المستوى العمومي كمقوّم سياسي، إنما أيضاً على المستوى الفردي؛ حيث تسيطر فكرة التقدم (progress) على الإنسان الحديث، مما سيجعله غير محتاج إلى الدين، أو إلى أيّ شكل من التعالي، دينياً كان أو أخلاقياً حتى، ورغم أنّ هذا التبشير العلماني بمتعالي أفول الدين قد أفل؛ حيث نتعلم من علماني تقليدي وحداثي يتخذ من الحداثة دستوراً لتفكيره، أعني هابرماس، فإنّ ذلك التبشير ينبغي أن يزول، لقد ظلّ الدين، والمتدينون، ففي المنعطف الأخير لتفكير هابرماس، أصبح يعمل على ما أسماه "المجتمعات ما بعد العلمانية" (post-secular society)، حينما أيقن بفشل الوعود العلمانية للمجتمع الحديث.

وهم انحسار الدين أو غروبه ليس سوى واحدة من الأساطير التي تسيطر على الروايات التقليدية العلمانية

إلا أنّ أغلب من يتبنّى هذا النقد تجاه هذا التبشير العلماني، يتخذه من موقع أنّ الدين عاد للحياة المعاصرة، بسبب فشل الحداثة؛ إلا أن هذا جواب ناقص وفاشل، في رأيي؛ فالحداثة لم تنهِ الدين، وربما ما قامت به هي علمنة الدين، كما يوضح كارل شميت وغيره، من خلال علمنة المسيحية ودنيوة مفاهيمها وغرسها في صلب الحياة الدنيوية.

وكما يشير تشارلز تايلر إلى أنّ وهم انحسار الدين أو غروبه ليس سوى واحدة من الأساطير التي تسيطر على الروايات التقليدية العلمانية؛ تلك الروايات التي تحبّ أن تصوّر الأمر على أنه انحسار للدين، في حين أنه ليس كذلك، ومن ثم، يدعو تايلر إلى شيء طريف: نحتاج إلى تفكير جذري في العلمانية، وكما يوضح تايلر؛ فإنّ نظرية العلمنة (secularization) التي تصرّ على الانحدار الخطي للدين، ليست سوى تعمية حقيقية لما تعنيه العلمانية حقاً، ولفهمها للدين من ناحية ثانية.

اقرأ أيضاً: الصراع على الإسلام.. من الاستشراق إلى الجهادية الإسلامية

وخلاصة القول: إنّ محاولة تبصّر وتفكيك متعاليات الحداثة، هي لأجل دحض الموقع "الحيادي" التي تحاول أن تصوّر فيه نفسها دائماً، بنقدها الواقع على غيرها، وإنّ متعالياتها الإنسانوية العلمانية والليبرالية، تمارس عنفاً رمزياً وقيمياً، بل واستعمارياً، على من تعدّهم "خارجها"، وربما، من هم "خارج" الحداثة، هم الذين يعيشون الحداثة ويمارسونها، ليس في نمط متعدد من الحداثات، وإنما هم الواقعة عليهم الحداثة استعمارياً، باحتلالهم سابقاً، وإمبريالياً حالياً؛ بتهجين ذواتهم واختياراتهم دينياً وسياسياً واقتصادياً.

 

الصفحة الرئيسية