الزمن الجميل.. قرع أبواب لا تفضي إلى شيء

الزمن الجميل.. قرع أبواب لا تفضي إلى شيء


31/01/2021

على خطى مرثية الأديب مارسيل بروست (1871-1922) "البحث عن الزمن المفقود" لاستعادة امتلاك ما فقده من أحلام وعلاقات وثروة وصحة جيدة، يلاحقنا الآن الزمن الماضي، وكأنه هو الذي يريد استعادة ملكيتنا! يشخَّص في خيالنا مداعباً فراغنا من القيمة، وعجزنا الأليم، بالأمنيات المخملية البراقة المنزوعة من رهانات سياقها لإيهامنا أنه كان جميلاً على إطلاقيته، ويستحق بكائية بروستية أخرى.

هنا يتقاطع كل من الحنين إلى الماضي المثالي (النوستالجيا) بالتوصيف السيكولوجي، مع الأيديولوجيا بسمتها اللاموضوعية كتزييف للوعي، وسلطة رمزية مستغلة، تُبث بشكل ناعم ومستتر من قِبل القوى الاجتماعية المهيمنة (نخبة المال والسياسة والفكر) لتكييف الواقع حسب منطق بنائها.

الصدمة الحضارية ولّدت إحساساً بالفراغ وفقدان المعنى جعلت الإنسان العربي يحتمي بذاكرته لمجرد بعث زمن مضى

هذا الدفق المستمر لاستعراض رموز الماضي، وانبعاثه بشكل لا يخلو من الإلحاح لا يمكن أن يكون عفوياً أو مجرد حنين جمعي لماضٍ قد تولى وانقضى، سيّما أنّ شريحة من مبتعثيه هم الشباب المتمرد الذي خاض ما يسمى "بثورات الربيع العربي"، أي إنه ثار على هذا الإرث الذي لم يعشه من الأساس وإنما ورث قبحه وعبّر عن رفضه له.

في رأي جان بودريار (1929-2007) أنّ الأسطورة كانت قد اجتاحت السينما الغربية في فترة ما بين الحربين العالميتين والحرب الباردة كمضمون خيالي لامتصاص عنف التاريخ، أما اليوم فالتاريخ هو الذي يجتاحنا كبديل عن الأسطورة؛ يجتاحنا إثر الصدمة الحضارية التي تمثلت في فشل السرديات الكبرى والمرجعيات العقلانية التي توسم فيها الإنسان الحديث خلاصه.

اقرأ أيضاً: الظهور العلنيّ للنساء.. جدل الحداثة والطبقة والتحرش!

هذه الصدمة التي ولّدت لديه إحساساً بالفراغ وفقدان المعنى، ما جعل الإنسان يحتمي بذاكرته لمجرد بعث زمن كان فيه ثمة تاريخ على الأقل، أو رهان حياة حتى وإن كانت الفاشية، لقد أصبح التاريخ أسطورة منيعة لعلها آخر أسطورة كبيرة في اللاوعي.

نتفق مع بودريار فيما ذهب إليه، لكن نعود فنؤكد أنّ مجتمعنا هو الوجه المعكوس للمجتمع الغربي الذي عاش حالة التشبع بالتحقق من إنتاجه المادي، واختبر كلياً تلك السرديات التي صدمته، أما نحن، ما زلنا في حالة بحث مرتبك عن ذاتنا المفقودة، ومن المنطقي أن يُستدعى التاريخ لتفسير مسار هذا الضياع، والبناء على ما تحقق، لكن يتمثل الخطر في أسطورية المرجعية التاريخية المستدعاة التي يؤدلجها كل فريق ويفرضها بحسب رأسماله من السلطة الرمزية.

يتمثل الخطر في أسطورية المرجعية التاريخية المستدعاة التي يؤدلجها كل فريق ويفرضها بحسب رأسماله من السلطة الرمزية

والسلطة الرمزية بحسب بيير بورديو (1930-2002) هي سلطة لامرئية ولا يمكن أن تُمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها؛ بما يعني هنا انتزاع مشاعر الحنين العفوية ومفردات الذاكرة الشعبية والتلاعب بها لصالح سياسات طبقية، تعيد إنتاج السرديات الساذجة للعولمة، أو لصالح أيدولوجيا دينية ما تزال تحلم بخلافة المجد البائد.

لقد شهدت مجتمعاتنا العربية مداً ثورياً منذ العام 2011 ما يزال صداه ماثلاً، هذا التمرد كان ضد الإرث الماضي من سياسات واقتصاد ومنظومة قيمية، لكن لم يوازِ هذا المد تغييرات جذرية، إنما جرى تجميده وتبريده بعدة سُبل؛ منها توظيف الإرث الرمزي لهذا الماضي المنبوذ بنعومة وانسيابية عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومواقع التواصل الاجتماعي الحديثة ذات السيولة الجماهيرية مضمونة الفاعلية، التي للمفارقة كانت إحدى دعائم التمرد.

اقرأ أيضاً: مفهوم الله في وعي الطفل من واقع الموروث الشعبي

 أصبح الماضي تركة إستراتيجية يتنازع عليها التيار الديني الأصولي والليبراليون الجدد حاملو الحداثة غير الناضجة في مجتمعاتنا لإعادة تسكين وإنتاج قوى وعلاقات المنظومات المتأزمة، من خلال تطويع التاريخ بآليات أيدولوجيا الحاضر، "وتصييره فرجة" على قياس العالم الحاضر. ويتلاقى الطرفان في خط واحد رجعي، لربما الفارق في المد الزمني المستدعى؛ لكن الليبرالي الجديد يمتلك أدواته المادية المباشرة، أما الأصولي يتفوق عليه بغطاء القداسة لماضيه، بالتالي فلا عجب من إعادة نفس الخطابات التي تُدولت في القرنين التاسع عشر والعشرين بخصوص صراع الثنائيات الضدية كالحداثة والتراث وغيرها.

ولأنّ، هذا الماضي المؤدلج غير موضوعي، فإنّ نسيجه المستدعى غير متجانس في بنيته الداخلية وغير منتظم؛ فلا مانع من توظيف رموز الحضارة الفرعونية مثلاً في مقابل هوية العروبة للتنصل من العنف والتاريخ الديني المسيس، أي في النهاية نحن أمام فسيفساء متناقضة في مدخلاتها دون الوعي بالاشتراطات الاقتصادية والسياسية التاريخية التي صنعت تفاصيل محتواها.

التمرد كان ضد الإرث الماضي من سياسات واقتصاد ومنظومة قيمية لكن لم يوازِ هذا المد تغييرات جذرية

تأتي الصورة في المقام الأول لتجسيد أيدولوجيا الليبراليين الجدد في ترويجهم للفترة الليبرالية التي عاشتها مصر نموذجاً؛ عبر الفضاء المعولم تم ضخ الصور المنتقاة واللامعة التي تظهر فيها بعض شوارع القاهرة وعواصم الحضر ساحرة النظام والنظافة، والنساء مختلطات بالرجال، والجميع يرتدون ملابس أنيقة وجميلة تضاهي الموضات الباريسية وقتئذ، ترتسم على وجوههم ابتسامة رضا ونشوة بهذه الحيوية المفعمة، والفضاء الواسع بلا تكدس سكاني واختناق مروري وتحرش.

وفي الثيمة الرئيسية للصورة تتجسد نواة الأسطورة التاريخية؛ ملك مبجل يجلس على العرش يحكم مصر والسودان، نساؤه جميلات، وتيجانه وجواهره المتلألئة دلالة مجد ولّى، عالم أنيق وناعم ومدغدغ للمشاعر التي أنهكها الحاضر، صورة مؤطَّرة بعالم آخر من الفن الجميل؛ غناء ومشاهد حميمية دافئة وكثير من رسائل الحب التي ضاعت في زمن المراسلات الإلكترونية الجافة والمملة.

اقرأ أيضاً: ما الرابط بين قصص نهاية العالم ورغبة الإنسان في الخلاص؟

صور لا تعكس القرية الفقيرة سوى من زاوية النساء الريفيات بشكل فلكلوري منتقى أيضاً بعناية، فالنساء مكتحلات وجميلات بضفائر شعرهن الطويل يحملن على رؤوسهن بمهارة عجيبة أواني تخزين المياه الفخارية، وأولادهن على ظهورهن أو صدورهن لتجسيد معنى الجمال الأنثوي الذي كان بلا حجاب، ولا يتعارض مع دور المرأة النمطي، دونما اعتبار لمدلول حمولتها من المياة الملوثة، كانعكاس لمشكلات البنية التحتية.

وفي صور أخرى تعود إلى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، يشتعل الحنين لعالم كان يُفترض أن يكون، يشعله بحسب جويل غورودن" الخبث السياسي والتنمية غير المتماثلة والتفاوتات الاجتماعية الصارخة والتوقعات المادية المحبطة وكماشة العنف الصادر عن الاسلام الراديكالي والدولة"، منه تطل علينا النساء مع الرجال في المصانع، والثورة على الاستعمار في الخلفية، تنبعث من جديد المصطلحات برنينها الجذّاب؛ تحرر، قومية، وحدة، تصنيع، اقتصاد قوي، استقلال دون الوعي الموضوعي بالنضال التراكمي الذي صنع هذا المشهد.

السلطة الرمزية سلطة لامرئية ولا يمكن أن تُمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها

في شهر رمضان تحديداً الذي يتميز بكثافة المشاهدة والحضور العائلي، تأتينا دراما مماثلة لتكوينات الصورة الليبرالية الملكية، لكنها بتقنية أكثر إحكاماً وسلباً للوعي؛ أصوات منعّمة بالرفاهية، ألوان وإضاءات باهرة، التكوينات تتحرك أمام المشاهد وكأنّها واقع فوق الواقع في عالم سحري مخملي مصطنع .

تحاصرنا الإعلانات المختلفة لتؤكد سياسة الصورة والدراما في جو مفعم بالحيوية العائلية الدافئة التي تظهر مثلاً في إعلانات المشروبات الغازية وشركات الاتصال، وعلى صعيد آخر يروج بنك مصر لمشروعاته بإعلان "طلعت حرب راجع"، وأغنيته "أنت تقدر" التي تحمل مغزى تلك السياسات الاقتصادية التي تضع الفرد في حالة مواجهة مع ذاته، تمهيداً لانسحاب الدولة من دورها التنموي وشرعنة جذب الاستثمارات الخارجية.

اقرأ أيضاً: من أين تستقي المرأة مصادرها الدينية؟

في إعلانات المدن الجديدة والمنتجعات والمحافل السينمائية والإعلامية عامة يطل علينا أناس يرتدون حسب الموضة العالمية، ملامحهم مختلطة ما بين الأوروبي والشرقي، يتحدثون بلغات أجنبية غالباً إنجليزية بلكنة أمريكية، يبعثون في مخيلة المشاهد، المدينة الجميلة المعولمة التي كانت تجسدها قديماً الإسكندرية والأحياء القاهرية الراقية مثل الزمالك وجاردن سيتي وشوارع وسط البلد بمقاهيها وفنادقها وهندستها الأوروبية المميزة، مدن يمكنها قبول أناس من مختلف الجنسيات كدالّ على التعددية الثقافية والتسامح والتعايش السلمي المنسجم الذي كان يسم مصر أيام الملكية الضائعة، دون الوعي بالكراهية الشعبية تجاه تلك التعددية وقتئذ جراء السياسات الاستعمارية التي صنعتها.

على هذا النحو تبعث الليبرالية الجديدة منظومتها القيمية القديمة الموسومة بالوصاية الاستعلائية المدعومة بالسلطة الأبوية، والتفاوتات الطبقية الصارخة الأكثر حدية، ومن ثمّ عودة لعبة "الإقصاء والإدراج"، بحسب تعبير "آنوك دي كوننيغ" في كتابها أحلام عولمية؛ مدرجون في عالم أول من خلال طبقة مماثلة له، وطبقات دنيا مقصية في عالم ثالث، يستحق التنصل من مسؤولية بؤسه؛ أفراده هم الذين لم يستجيبوا لاشتراطات الواقع ودعواته مثل، دعوة بنك مصر "أنت تقدر"، كسالى لا يمتلكون مهارات قبولهم في التقسيمة الجديدة القديمة تلك.

أصبح الماضي تركة استراتيجية يتنازعها التيار الديني الأصولي والليبراليون الجدد حاملو الحداثة غير الناضجة

    ونرى أن توظيف هذا الحنين الماضوي قد ساهم في حالة ارتباك عقل الفاعلين الاجتماعيين المستجبين لهذه الأيدولوجيا الناعمة، ما جعلهم في حالة تناقض في تحديد أو تحييد مواقفهم تجاه واقعهم المزري، وفي حالة اغتراب مزدوج ورفض متأرجح، بل وإحالة الصراع الحاضر في بعض الأحيان إلى صراع على الإرث الرمزي التاريخي بشكل ساذج ومتناقض.

وبمناسبة هذا الماضي والوله به نذكر حادثة طريفة لكنها كاشفة؛ في العام 1880 وفقاً لقانون العقوبات الصادر العام 1867 الخاص بالجرائم المدنية، تقّدم بعض أعيان مدينة بورسعيد بشكوى إلى الشرطة ضد بائع الخضر محمد حسن أبو كلام، الذي كان من عادته سب الدهر كما هو شائع بين الطبقات الدنيا، حيث عُد "سب أو لعن الدهر والأشخاص" من تلك الجرائم التي تستوجب السجن؛ لأنّ ما كان يبدو عدم احترام للدين أو النسق الاجتماعي هو بالتبعية عدم احترام للنظام السياسي أي الدولة وممثليها من الملك وأعيانه .

اقرأ أيضاً: الخط الفاصل بين التجارة مع الله والتجارة باسمه

هل متمردو 25 يناير 2011 أو 30 يونيو 2013 المشاركون في هذه المرثية الآن يمكنهم الارتداد لمثل هذه الوصاية الأبوية التي ينطوي عليها هذا الزمن الجميل؟، هل الداعون إلى الدفء العائلي القديم يمكنهم قبوله بنسقه الذي يُعاد فيه التقسيم النوعي بين الرجل والمرأة رغم استقلاليتها النسبية التي حققتها الآن مقابل أنها ترتدي تنورة قصيرة وفستاناً ملوناً وبلا حجاب، لكنها تبقى تحت وصاية الرجل وقوانين السلطة الاجتماعية التراتبية المشرعنة بالفقه الديني؟

وبمناسبة القضية النسوية أيضاً ونتيجة هذا الدفق الماضوي غير المتجانس الذي بات يشكل جزءاً من الوعي الحاضر، أصبحت المرأة هي الأخرى لا تعرف ما الذي تريده بالضبط من واقعها! هل ملكة فرعونية مسيطرة في استبدال أدوار "جندرية"، أم ثائرة ضد كل ما هو لاإنساني، وداعية للكرامة والعدالة كما في ستينيات فيلم الباب المفتوح، أم أميرة مدللة في قصور الملك وأعيانه منزوعة القرار، صوتها خفيض، تسير حسب بروتوكلات "الإتيكيت" النمطي في نسخة "عصر الحريم"؟

من تزييف الوعي بالتاريخ، وتفريغ الدال من مدلوله أو مضمونه الجوهري، وأدلجته بالترميز بما لم يكن واقعياً، يريد الليبرالي الجديد استدعاء صورة منزوعة من تناقضاتها البنيوية التي كانت سبباً في هدمها بالأساس؛ لشرعنة وجود طبقة مهيمنة تمثل المجتمع أمام المحافل الدولية، وتحفظ ماء وجوهنا من إخفاقاتنا خشية أن نوصم بأننا خارج التاريخ، أما الأصولي فمايزال يشتغل على رصيده المختزن في الوعي المهمش.

كيف سيكون لقاء قروي بسيط مع إنسان آخر يشاركه فضاءه لكن يناقضه في ملكية كل شيء؟

في إحدى دور رياض الأطفال القروية الآن "وقت كتابة هذا المقال" يصدح صوت الشيخ المتخفي في ثوب معلم حداثي، يُحفّظ يومياً الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم الخمسة أعوام بعض النصوص والأذكار الدينية فقط بأساليب بالية لا تصلح أبداً لهذا العالم المتغير ولا توائم وعيهم؛ لأنّه في هذا الهوس باستدعاء الماضي وانسحاب الدولة التدريجي من دورها التنموي دون أساس، يحاول المجتمع الريفي العودة لإنتاج الهندسة الاجتماعية القديمة بآلياتها، ومن بينها "الكُتّاب" بصفته وسيلة تعليم فردوسية مفقودة من الزمن الجميل كانت تلقن الطفل الدين باعتباره عماد الرأسمال الإنساني.

وبحجة أن هذا "الكُتّاب" تخرّج منه مفكرون مؤثرون أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد عبده وغيرهم دون تقصٍ لبقية الأسطورة، التي تقول إنّ هؤلاء قد استكملوا تعليمهم في جامعات أوروبية، أو أنهم قد اندرجوا في طبقة اجتماعية أعلى وفّرت لهم سبل الحياة الكريمة، وبيئة سليمة للإبداع الفكري.

ويحق لنا أن نسأل ونتخيل كيف سيكون مواجهة إنسان قروي يحمل هاتفاً تكنولوجياً في منتهى الحداثة، يفتح منافذ وعيه على آفاق العالم الشاسع، وهو لا يمتلك من مفاتيحه المعرفية سوى نص ديني ومفاهيم عقيمة، كيف سيكون لقاؤه مع إنسان آخر يشاركه فضاءه لكن يناقضه في ملكية كل شيء؟ لربما يكون هذا العنف الرمزي المستتر في الحنين إلى الزمن الجميل الموهوم هو طريق لانسداد آخر، ونختم بقول بروست "لقد قرعوا الأبواب التي لا تفضي إلى شيء".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية