هل الدولة العربية دولة شمولية؟ تبصّرات من علم الاجتماع السياسي

هل الدولة العربية دولة شمولية؟ تبصّرات من علم الاجتماع السياسي


06/11/2018

تقابل موضوعة "الدولة العربية" كلّ من يحاول أن يدرس الاجتماع السياسي الحديث للمنطقة العربية، إثر انتهاء الخلافة العثمانية بداية، وليس نهاية بخروج الاستعمار من العالم العربيّ، وتشكُّل الدول الحديثة العربية في المشرق العربي، وهي بذلك، أي الدولة العربية، قد وقع تشكيلها في زمن حرج، وهو الزمن الذي كانت الشعوب العربية تتوق فيه إلى خروج الاستعمار وانتهاء الملكيات (مصر نموذجاً)، ومجيء دولة حديثة ذات مؤسسات تعيد توزيع الإنتاج بشكل عادل، وأيضاً، وهذا أمر مهمّ، لحفظ "الكيان القومي" للشعب العربي. ولا عجب، أنْ تجيء نظم عربية مشرقية؛ كنظام عبد الناصر بمصر، والبعث في سوريا والعراق، محمّلة برؤى قومية شديدة. وهنا يمكن، أيضاً، تسجيل ملاحظة: فبينما كان العالم بعد الحرب العالمية الثانية يتجه، بدوله، إلى نمط جديد من العلاقات الرأسمالية، وتفتت الصيغة التقليدية من الدولة - الأمة، كان العرب، للظرف الكولونيالي الذي كانوا يعيشونه، يتجهون صوب القومية.

بينما كان العالم بعد الحرب العالمية الثانية يتجه لنمط جديد من الرأسمالية كان العرب يتجهون صوب القومية

يصف الدكتور برهان غليون طبيعة الأنظمة ما بعد الاستعمارية في العالم العربي، بلهجة تنمّ عن الخزي الذي يعيشه الإنسان العربي في هذه الدول، وبـ "الاستعمار الداخلي" الذي يحدث على جسمه وعقله وكيانه، فيقول: "ما يمارس في البلدان العربية ليس حكماً دكتاتورياً، إنّه أكثر من ذلك؛ إنّه استعمار حقيقي داخلي، استعمار للعقل، واستعمار للإنسان، وسيطرة من قبل نخبة معمرة، مثل النخب المعمرة القديمة على مصائر المجتمع، ولذا أصبحت هذه نظرية مهمة للاستعمار الداخلي".

وقد أوردت كلام غليون في مطلع الحديث، حتى أستشكل، وأتساءل، وأستفهم، عن "طبيعة" الدولة العربية ما بعد الاستعمارية، وما هي النعوت الموضوعية، والسمات الأساسية، والأوصاف المستحقة لهذه الدولة؟ فهل هي دولة "توتاليتارية" شمولية، أم هي دولة "بونابرتاية"، أم هي دولة "استبدادية"، أم دولة "سلطانية"، إلى آخر النعوت التي تجري في مخيالنا الشعبي، والثقافي، لوصف هذه الدولة؟ وما هي طبيعة "الاستعمار الداخلي" وسياساته وآلياته؟

اقرأ أيضاً: الحداثة التي لم تهزم المتعالي

أودّ أن أشير بداية إلى الطابع التاريخيّ لكلّ المفاهيم التي أشرت إليها؛ بمعنى أنّ كلّ مفهوم من هذه المفاهيم قد نشأ في سياق تاريخي معين، قد ينطبق جزئياً، أو بصورة ما، على طبيعة الدولة العربية الحديثة، وأحياناً قد لا يكون من علاقة بين الوصف والموصوف، وهنا يغيب الطابع الموضوعي في عملية البحث، وهو الطابع الذي تسعى دائماً علوم الاجتماع السياسي والفلسفة السياسية لتوخّيه بأكبر قدر ممكن، وذلك بدراسة الظاهرة ومحاولة إنتاج مفاهيم تكون أكثر قرباً منها، وليس فقط المفاهيم التي نصف بها الدولة عموماً، من كونها "توتاليتارية" أو "استبدادية"، ...إلخ، هي التاريخية؛ بل إنّ مفهوم الدولة نفسه هو مفهوم تاريخي، بمعنى أنه مفهوم نشأ في ظروف تاريخية معينة، وهذا أمر شدّد عليه المفكر المغربي البارز عبد الله العروي؛ حيث يتأسف العروي دائماً على كوننا ننزل مفهوم الدولة "الحديث" على ظواهر حكم ليست حديثة، وندعوها "دولة"، وفي النهاية؛ وكما يقول البروفسور ذائع الصيت، والأكاديمي البارز، وائل حلاق، في كتابه "الدولة المستحيلة": "تاريخ الدولة هو الدولة؛ إذ إنّه لا يوجد في الدولة ما يمكن أن يهرب من الزمنية".

اقرأ أيضاً: حوار مع فوكوياما: هل يمكن للديمقراطيات الليبرالية أن تنجو من سياسات الهوية؟

وقد ينشأ سؤال ما، وهو سؤال وجيه : ما الفائدة من دقّة التوصيف المطلوبة للدولة العربية؟ ولماذا هذا الحثّ على "الضبط المفاهيمي" للتعامل مع هذه الدول؟ أليس هذا مطلباً أكاديمياً ونخبوياً؟ إلى آخر هذه الأسئلة، بيد أنّه لا بدّ من التأكيد على أهمية الوعي بالسلطة، أي كل المحاولات التفسيرية التي تشتبك مع الدولة هي تروم، في المنتهى، وعي الإنسان الحديث بالسلطة، سواء أكانت توتاليتارية أم استبدادية، فالمهم أن يكون الإنسان غير مستلب من قبل "هوى السلطة"، وواقعاً فيه، وإنما عملاً بتوجيه فوكو: "لا تقع في هوى السلطة".

اقرأ أيضاً: لماذا انتصر إسلام الخاصّة على إسلام العامّة؟

إلا أنّ إعادة تعريف الدولة العربية الحديثة، وإعادة وصف ما تمارسه من سلطة وسلطان على مواطنيها، هي مطلب معرفي وسياسي بالمقام الأول، معرفي؛ لأنّه يتعلق بإحكام الظاهرة التي تشكلت ضمن ظرف تاريخي معين، وضمن اختيارات معينة، وفي ضوء انتقال حرج بعد خروج الاستعمار، وسياسي؛ حتى يكون الاشتغال السياسي واعياً بما يعمل عليه، وبطبيعة الدولة، فضلاً عن طبيعة النظام، والآليات السلطوية التي تمتلكها الدولة وتعمل على إعادة إنتاج الذوات بشكل متكرر على البقعة التي تحكمها.

تفيد تحديدات حلاق في تعيين جوهر الدولة الحديثة فيما تفيد تحديدات غليون في طبيعة الدولة العربية

وقبل تحديد "ماهية" السلطة الممارسة على الشعوب العربية، لا بدّ من أن نشير إلى كون أنّ الدولة العربية، منذ نشوئها، هي "دولة حديثة"، هو مسار جدل بين الباحثين؛ فبرهان غليون، كما في كتابه المميز "الدولة ضدّ الأمة"، قد تخلى عن وصفها بالحديثة، لينعتها بالدولة التحديثية؛ "فلا ينبغي الخلط بين الدولة الحديثة والدولة التحديثية، إنّ الدولة التحديثية هي أداة تحقيق الحداثة كمشروع مستقلّ ومتكامل ومتمحور على الذات، أيّ خلق مركز مستقل لتحقيق الحداثة"، كما يقول غليون، ويعرض غليون في الكتاب نفسه عدداً من السمات التي تتسم بها الدولة العربية "التحديثية"، وهي:

1 - أنّها دولة المركزية الشديدة والسلطة المطلقة، وتحدّ من الفاعلية المجتمعية والاقتصادية، وتقوم بتحديث القوى العسكرية والبيروقراطية للدولة.

2 - أنّها دولة بالتعريف؛ فهي غير تمثيلية وليست ديمقراطية، وهي لا تسعى لأن يمثلها الشعب، لأنّها تفترض وحدتهم المسبقة، بلغة أخرى "هويتهم المتخيلة" التي تقوم بحمايتها.

3 - أنّها دولة ذات نزعة قومية، متمركزة حول هويتها وذاتها، وقد فسّرت ذلك في مطلع المقال بأنّ النزعة القومية للدولة ما بعد الاستعمارية في العالم العربي، نشأت بسبب طبيعة الاحتلال والاستعمار الذي خلّف جرحاً نرجسياً كان لا بدّ من مشفى قومي ليقوم بلأمه.

4- أنّها دولة استبدادية، لكن ذلك لا يعني أنها لا قانونية أو دولة طغيانية جائرة؛ فاستبدادها ناشئ من التكوين البيروقراطي للدولة نفسها.

اقرأ أيضاً: كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟

توصيف غليون الذكي للدولة العربية، يتعلق أساساً بطبيعة الدولة ومنتوجها الفعليّ، بالقياس مع مفهوم الدولة الحديثة، الذي نشأ وتكون وتطور في الغرب. ولذلك؛ فإنّ من المهم أن تعرف ماهية الدولة الحديثة، ومن ثم معرفة ما حققته الدولة العربية من شروطها، وما أخفقت فيه. وهنا، يستعرض البروفسور وائل حلاق، في كتابه "الدولة المستحيلة"، خمس صفات للدولة الحديثة، أرى أنها جيدة كنموذج معياري لقياس حداثة الدولة من لا حداثتها، وهذه الصفات الخمس هي:

أولاً: الطبيعة التاريخية للدولة، ثانياً: امتلاك السيادة وميتافيزيقا السيادة، ثالثاً: القيام بعملية التشريع والقانون والعنف، رابعاً: امتلاكها لجهاز بيروقراطي عقلاني، خامساً: هيمنتها الثقافية أو تسييسها للثقافي.

التوتاليتارية (الشمولية) هي مصطلح نشأ في ظروف محددة، ومتعلق بأنظمة شمولية كنظام ستالين وغيره

تفيد تحديدات حلاق في تعيين "جوهر" الدولة الحديثة، فيما تفيد تحديدات غليون في طبيعة الدولة العربية، التابعة لنموذج الدولة الحديثة الغربية، هذه الدولة الهجين، التي تمتلك سيادة وجهازاً بيروقراطياً، وتشرع وتضع القوانين والعنف... إلخ، لكنّها، أيضاً، توظّف الأبعاد السلطانية للحكم ما قبل الحديث للتحكم والهيمنة، بل إنها تعمل على توظيف قوى مجتمعية ما قبل حديثة في حداثتها نفسها؛ كاستخدام المكونات الطائفية والمكونات القبلية والعشائرية، بصيغة غير قانونية، للتحالف مع هذه القوى لتمديد سيطرتها وهيمنتها.

إنّها الدولة التي ترفع لواء الكلمات الحديثة: السيادة، والقانون، والمؤسسات، لكنها الدولة التي انقلبت رجعية، تريد توحيد مواطنيها لأجل حفظ كيانها، ولأجل استمرار بيروقراطيتها.

اقرأ أيضاً: تحوّلات الإصلاح الإسلاميّ: من الدين إلى الدولة

هذا الجدل الحادث حول نشأة الدولة العربية وحول طبيعتها: هل هي حداثية أم لا؟ لا يقل عنه في الحدّة عن جدل مماثل حول طبيعة السلطة التي تمارسها هذه الدول، وطبيعة أنظمتها؛ فهل هي توتاليتارية أم غير ذلك؟ يحلو للبعض، جماهيرياً كما ثقافوياً، وسم الدولة العربية بــ "الشمولية"؛ إلا أنّ التوتاليتارية (الشمولية) هي مصطلح نشأ في ظروف محددة، ومتعلق بأنظمة شمولية كنظام ستالين وغيره، وراج في فترة الحرب الباردة، وبحسب أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، في كتابهما "الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة"؛ فإنّ وصف الوضع العالمي الحالي بالتوتاليتاري، فضلاً عن الدول، فيه مغالطة تاريخية كبيرة.

اقرأ أيضاً: التراث كمسرح لرغبات الحاضر: البحث عن عقلانية "إسلامية"

ويشير عالم الاجتماع السياسي، خلدون النقيب، في كتابه "الدولة التسلطية في المشرق العربي" إلى هذا اللبس في الغموض المتعلق بتوصيف الدولة العربية، ويرجع خلدون النقيب ذلك إلى كون هذه المفاهيم تتداخل في اللغة اليومية، بما يوحي أنها ذات معنى واحد، مما يجعل الفروق بين هذه المصطلحات شديدة الدقة، تمحى وتهمل؛ فمصطلح كمصطلح "السلطانية"، متعلق بنظام حكم قديم، لا يصحّ إطلاقه على الدولة العربية الحديثة. كما أنّ توصيف الدولة بمصطلحات غير متعلقة بتاريخها المعاصر، يعدّ عدم فهم لطبيعة السلطة الحديثة، فضلاً عن التكوين البيروقراطي للدولة العربية نفسها.

اقرأ أيضاً: المجال العامّ: مقدّمة قصيرة جداً

وينحاز خلدون النقيب إلى وصف طريف للدول العربية؛ بأنها "تسلطية"، لأنّ مصطلحات، مثل: "التوتاليتارية" و"البونابرتاية" وغيرها، كما يقول خلدون النقيب في الكتاب نفسه: "هي في اعتقادي (مسمّيات) أقلّ دقّة من الدولة التسلطية […]؛ فقد وردت الإشارة إلى الدولة البونابارتية في كتابات ماركس وإنجلز لتفسير نجاح لوي بونابارت في تكوين دولة شبه دكتاتورية، حولت الصراع من صراع بين الطبقات إلى صراع بين الدولة المركزية وعامة الشعب. إذاً؛ فالمقصود بالبونابارتية هو هذه التجربة التاريخية، وليست حالة مثلى تصف الدولة الرأسمالية […]، والدولة الشمولية (Totalitarianism)؛ التي نحتها موسوليني ككلمة، وهذبتها وعمقتها حنّا أرنت، والدولة البريتورية المشتقة من المقولة الشمولية التي يستعملها بعض الكتاب بشكل سطحي؛ على أنّها الدولة التي يهيمن عليها العسكر […]، جميع هذه المقولات تبنى على فكرة أو نغمة (Theme) واحدة؛ هي وجود دولة تحكم بالقوة السافرة (Naked Power) ، أو السلطة القهرية بشكلها الخالص المثالي، فتركّز على القوة الاستبدادية، وتهمل عمق ومضامين القوة الاستبدادية المستمدة من تنسيق البنى التحتية للمجتمع الذي تملكه الدولة البيروقراطية الحديثة [وهو ما تتداركه "الدولة التسلطية"]".

مصطلح كمصطلح "السلطانية"، متعلق بنظام حكم قديم، لا يصحّ إطلاقه على الدولة العربية الحديثة

وهي دولة تسلطية، ليس لأنّها تنتمي إلى الاستبداد الشرقي، كما قام بذلك بعد الباحثين، وإنما كما يقول خلدون النقيب؛ لأنّ "الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة تستمد استبدادها لا من مصادر الاستبداد التقليدي باحتكار الحكم (مركز السلطة) فحسب؛ إنما بشكل أكثر تعقيداً وخفاءً، أي من قدرتها الفائقة على تنسيق البنى التحتية للمجتمع واختراق المجتمع المدني، على مختلف مستوياته ومؤسساته".

وخلاصة القول؛ لعلّ الدرس الأهم من النقاشات التي عمقها برهان غليون، ووائل حلاق، وعبد الله العروي، وخلدون النقيب، ونزيه الأيوبي، وغيرهم، هو ليس فقط الانحياز إلى مسمى دون مسمى لتسمية الدولة العربية، وإنما لفتح أفق جديد لفهم طبيعة الدول العربية وتجربتها التاريخية وطبيعة أنظمتها المتعاقبة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية