علي الوردي: التمرد على اليقينيات الثقافية والدينية

علي الوردي: التمرد على اليقينيات الثقافية والدينية


01/04/2018

في الكاظمية حيث يتجاور مرقدا موسى الكاظم وأحمد بن حنبل في الجانب الغربي من بغداد، تشاء الصدف أن ينشأ واحد من أهم علماء الاجتماع العرب في العصر الحديث وأكثرهم واقعية وانفتاحاً، في بيئة اجتماعية راضية بما تحتكم إليه من يقينيات ثقافية ودينية، لكنه تمكّن من النأي بنفسه عن الانجراف مع تعصبات أكبر اتجاهين إسلاميين في بلده، ويكوّن بفكره حلقة وصل بينهما أشبه ما تكون بجسر الأئمة الذي يربط مسقط رأسه مع الأعظمية مدفن أبي حنيفة على الضفة الأخرى لنهر دجلة.

الأول في مستقبل علم الاجتماع

ولد علي حسين عبد الجليل الوردي في عام 1913 وسط جو أرستقراطي لم تظفر منه عائلته التي امتهنت لأجيال تقطير الورد بسعة الحال، فجلب توق هذا الفتى للعلم والمعرفة معاناة صبغت بداية حياته؛ حيث اضطر إلى ترك الكتّاب ليساعد والده العطار في عمله، ثم التحق بالمدرسة التي ما لبث أن هجر مقاعدها عام 1924؛ لأنها برأي والده "لا تطعم خبزاً"، ليعمل عند عطار لم يجد بدّاً من طرده لانشغاله عن الزبائن بقراءة الكتب والمجلات، ليفتح إثرها دكاناً صغيراً أداره بنفسه، وفي عام 1931 عاد ليلتحق بالصف السادس الابتدائي بعد أن لجأ إلى الدراسة المسائية، ليتخرج من الثانوية بالمرتبة الثالثة على مستوى العراق.

تنبأ أنه بدون الديمقراطية التي نهضت بالأمم الأخرى لا مناص من إعادة انفجار الأوضاع العربية بين فترة وأخرى

وبعد أن عمل معلماً عامين حصل على بعثة دراسية للجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها بدرجة الشرف، ثم ابتعث بعد أن درّس ثلاثة أعوام إلى جامعة تكساس لينال درجة الماجستير عام 1948 في العلوم الاجتماعية عن رسالته "دراسة في سوسيولوجيا الإسلام"، وبعد عامين تنبّأ له رئيس جامعة تكساس، وهو يسلمه شهادة الدكتوراه عن أطروحته "نظرية المعرفة عند ابن خلدون" بأنه سيكون "الأول في مستقبل علم الاجتماع"، ليعود إلى بلده عام 1950 كما يقول صديقه سلام الشماع "بثورة غير سياسية على الرسوم والتقاليد الاجتماعية والتاريخ لا في الشرق وحده، بل في الغرب أيضاً".

آراء مثيرة للجدل

عرفته الأوساط الشعبية والعلمية عبر مؤلفاته التي وصلت إلى ثمانية عشر كتاباً، فضلاً عن مئات البحوث والمقالات في الجرائد والمجلات العراقية منذ الأربعينيات، ويكاد يكون المفكر العراقي الوحيد الذي نالت آراؤه في حياته شهرة واسعة بين العامة، وأثارت وما تزال أفكاره النقدية الجريئة السخط عليه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. حتى صار اسمه على كل لسان، بين قليل معجب وكثير حانق، كما يظهر جلياً من الضجة التي أحدثها كتابه "وعاظ السلاطين" وآراؤه في خلفاء ما بعد العهد الراشدي وترفهم ومطبليهم، ساخراً من المساجلات العبثية حول الأفضلية بين أبي بكر وعمر وعلي مع أنهم برأيه يمثلون اتجاهاً واحداً.

بعد انقطاعه عن المدرسة عمل عند عطار لم يجد بدّاً من طرده لانشغاله عن الزبائن بالقراءة

عيّن الوردي بعد عودته من أمريكا مدرساً في قسم الاجتماع بجامعة بغداد، واستمر فيها حتى تقاعده العام 1969 قبل أن يتجاوز السادسة والخمسين ليتفرغ للبحث العلمي والتأليف، وبالذات مشروعه الضخم "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" الذي صدر منه في حياته ستة أجزاء وملحقان، تغطي تاريخ المجتمع العراقي من العهد العثماني "أشدّ الفترات التاريخية علاقة بواقع المجتمع العراقي الراهن" حتى عام 1924 التي استقرت فيها الدولة العراقية الحديثة بعد زوال الحكم العثماني. وللأسف، اختفت تتمة هذا السفر المهم عقب وفاته عام 1995، فضلاً عن العديد من مؤلفاته كمذكراته الشخصية ومشروع عمره "طبائع البشر".

يعد الوردي الرائد الأول في تأسيس علم الاجتماع في العالم العربي كله، كعلم منفصل عن باقي العلوم الإنسانية، والمجدد له منذ أستاذه ابن خلدون؛ وتكمن عبقريته أنه أعاد اكتشاف منطق ابن خلدون، الذي برأيه، نجا من المنطق الأرسطي الذي صبغ المتقدمين والمتأخرين من مفكري العرب وحتى فقهائهم، فعمد إلى توظيف منطق صاحب "المقدمة" للتحرر من قيود التفكير الكلاسيكي مستعيناً بأحدث المدارس الفلسفية والاجتماعية ليؤسس مدرسة في البحث الاجتماعي تقوم على استنتاج مفاهيم نظرية مؤسسة على الاستقراء والتفكير التحليلي غير المؤطر والانفتاح على الآخر، معلناً الثورة على "أصحاب المنطق التقليدي في المنظورات الاجتماعية الموروثة المصطبغة بصبغة المثالية الزاهدة الخاضعة الذين لا يعترفون بوجود فكر جديد".

عاد ليلتحق بالصف السادس الابتدائي بعد أن لجأ إلى الدراسة المسائية ليتخرج من الثانوية بالمرتبة الثالثة على مستوى العراق

وفي هذا السياق، دعا إلى إنشاء "علم اجتماع عربي" يدرس مجتمعاتنا في ضوء خصوصيتها الجغرافية والتاريخية والثقافية، وهو ما نهض به عملياً من خلال منهج استقرائي نقدي لا يؤمن بالمسلمات، فكل شيء عنده لا بد أن يخضع للمنهج التجريبي حتى يمكن الحكم عليه، وهو ما قام بتطبيقه بامتياز في دراساته الاجتماعية والتاريخية التي لا تقيم وزناً للعواطف، فالطبيعة البشرية عنده "لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة، ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جبل عليه من صفات".

انفتاح على المنجز الإنساني

وهو ما دفع البعض إلى اتهامه -رغم عدم اعتناقه لوجهة فكرية أو فلسفية بعينها- بأنه متأثر بالفلسفة البراغماتية أو الرؤية الاستشراقية في دراسة المجتمع العربي، مع أنه رد على الكثير من شبهات المستشرقين، وتبنى منهجاً مستحدثاً بتركيبة فريدة تبدو للوهلة الأولى متناقضة، وهي تضم الثقافتين الغربية والعربية الموروثة بانتقاء علمي دقيق.

المفكر الحقيقي، بحسبه، "لا يتبع نظرية جديدة بغير الاستعانة بمن سبقوه من المفكرين، فهو يستمد عناصر نظريته من غيره، في الغالب، ولكنه يربط بين تلك العناصر، أو يركبها على صورة جديدة لم تكن معروفة من قبل"، فأخذ ببعض آراء الغزالي والمتصوفة والمعتزلة والمتكلمين، ومن معاصريه العقاد وطه حسين، إلا أن تأثره الأعمق كان بابن خلدون خاصة نظريته حول "صراع البداوة والحضارة" التي أعاد صياغتها، فضلاً عن تأثره بمنجزات علم الاجتماع الأمريكي المتحرر نسبياً من المدرسة التقليدية، فارتكز عليهما في تفسيراته التاريخية ودراسة المجتمع العربي والعراقي، على وجه الخصوص، فحلل أغلب مناطق العراق باستثناء الكردية منها بسبب عدم إلمامه بلغة أهلها، حسب قوله، وتوصل إلى أن صراع البداوة والتمدن هو الذي يفرز ازدواج الشخصية العربية الذي بدوره ينتج ما أسماه "التناشز الاجتماعي".

ولطالما شعر بالأسف لإساءة فهم هذا الازدواج الذي ظن كثيرون أنه يذهب فيه مذهباً نفسياً محضاً في تفسيره للشخصية العراقية، مع أنّه قال إنّ الثنائية الجغرافية التاريخية لبلده أنتجت ثنائية اجتماعية تاريخية، وإن تصادم نظامين متناقضين من القيم تتعايشان بفعل هذا الإرث التاريخي العميق لا بد أن ينشأ عنه ازدواج شخصية في السلوك العام وليس الفردي، وهذا المذهب التحليلي، كما يرى، لا يختص تطبيقه بالمجتمع العراقي فقط، فـ "تاريخ التصير الاجتماعي الذي أدى إلى استفحال الازدواج في المجتمع العربي له تاريخ طويل... والبذرة التي نشأ حولها انبعثت من جراء النزاع الاجتماعي بين قيم الإسلام وقيم البداوة...وبهذا أصبحنا نعيش في عالمين متناقضين؛ عالم الفكر المثالي من ناحية وعالم الفعل الواقعي من ناحية أخرى".

كشف غطاء القداسة

مع ذلك كان الوردي يؤمن أنّ التناقض الداخلي في المجتمع ليس سلبياً بالمطلق؛ بل هو الدافع الدائم للتطور والتقدم إلى الأمام، فاتخذ طريقاً وسطاً في نظريته الاجتماعية تتجنب الصرامة المنهجية المثالية للجدل الهيجلي والمنهجية البدئية للمنطق الخلدوني، بدءاً من مؤلفه الأول "شخصية الفرد العراقي" (1950) مروراً بـ"وعاظ السلاطين" (1954) و"مهزلة العقل البشري (1955) وأسطورة الأدب الرفيع (1957) والأحلام بين العلم والعقيدة (1959) ومنطق ابن خلدون (1962) و"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي (1965).

امتاز الوردي أنه كان متابعاً لأحدث الدراسات الغربية في مجال تخصصه وهوامشه كعلم النفس والفلسفة والاقتصاد والسياسة وحتى الفيزياء النظرية والعلوم التطبيقية، وكانت لديه مقدرة فريدة على تبسيط أكثر الأفكار تعقيداً، ليقدمها وجبة سهلة للقارئ العادي غير المتخصص؛ فنزل بالعلوم النخبوية من برجها العاجي إلى العامة؛ كنظرية فرويد الجنسية ومادية ماركس التاريخية وجدلية هيجل الذي يعده الوردي "من أعظم الفلاسفة الذين ساهموا في إنشاء منطق الصيرورة التاريخية وأحد رواد علم الاجتماع في العصر الحديث".

تنبّأ له رئيس جامعة تكساس وهو يسلمه شهادة الدكتوراه بأنه سيكون "الأول في مستقبل علم الاجتماع"

كان الوردي يؤمن أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة؛ فتراه ينتقد بأسلوبه العلمي الرصين، الذي لا يخلو من طرافة، كاشفاً غطاء القداسة عن كثير من الشخصيات والأفكار، بدءاً من فيتاغورس وأفلاطون وأرسطو مروراً بابن رشد والفارابي وابن خلدون نفسه في بعض آرائه، وانتهاءً بأحمد أمين والمقلدين من "وعاظ السلاطين" على مر العصور كما كان يحلو له أن يسميهم.

كل شيء بنظره في حركة دائبة وكل فكرة لا بد أن يتأثر صاحبها بمحيطه الاجتماعي والفكري بشكل أو بآخر؛ لأنه يستخدم أدوات عصره، حتى عندما يثور على أفكاره البالية، وفي هذا السياق عانى من أزمة فكرية بعد انتهاء الحكم الملكي في بلده تذكّر بما مر به نجيب محفوظ عقب ثورة 1952 بزوال البيئة التي كانت تلهمه.

يقول عن تلك المرحلة "كنت أنظر إلى الحياة والمجتمع نظرة معينة، ثم شهدت الأحداث الصاخبة التي حدثت في تموز 1958 وما بعده وأدركت عند ذلك أني مخطئ في نظريتي القديمة في طبيعة البشر بوجه عام وطبيعة المجتمع العراقي بوجه خاص"، فاتسمت مؤلفاته الخمسة قبل عام 1958 بأسلوبها الأدبي النقدي ومضامينها التنويرية الجديدة الساخرة، لذلك واجهت انتقادات لاذعة، أما ما صدر له بعد ذلك فقد غلب عليه طابع علمي أكثر التزاماً، وهو ما تمثل بمشروعه في وضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي.

منهج واقعي بعيد عن المثالية

مساهمات الوردي التاريخية لا تقل أهمية عن إنجازاته في علم الاجتماع، فأعاد قراءة العديد من أحداث وشخصيات التاريخ الإسلامي وفق منهج واقعي بعيد عن المثالية يأخذ بالاعتبار الميول البشرية التي لا يمكن تجاهلها، وذلك بإلقائه الضوء على كثير من القضايا الشائكة التي تجنب معظم الدارسين الخوض فيها لحساسيتها.

تأثره الأعمق كان بابن خلدون خاصة نظريته حول صراع البداوة والحضارة التي أعاد صياغتها

وقد اتسمت معالجته بالموضوعية الشديدة التي ألزم نفسه بها؛ من خلال تحليله العلمي غير المتحيز لأهم الأحداث التي مر بها التاريخ الإسلامي، وبالذات الفتنة الكبرى وعلاقة علي ومعاوية، وجذور الصراع الشيعي السني، وما تبعه من تداعيات ما تزال تعاني منها الأمة حتى الوقت الراهن، وفيها أعاد معظم ما جرى إلى أنه محصلة صراع بين دافعي الواقعية والمثالية، تطور إلى خلافات مذهبية دينية في ظاهرها، لكن منشأها سياسي في المقام الأول.

وبذا دعا إلى نبذ الخلاف الطائفي بين الشيعة والسنة، وطالب بالنظر إليه على أنه خلاف تاريخي تجاوزه الزمن، ويجب على المسلمين عوضاً عن ذلك استلهام العبر من الأمم المتقدمة التي مرت بما مررنا به، لكنها تمكنت من تحويل أدوات الصراع على السلطة من صليل السيوف إلى صناديق الاقتراع.

آمن أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة وانتقد بأسلوبه العلمي الرصين كثيراً من الشخصيات والأفكار

في آخر أيام حياته آثر الوردي الصمت؛ لأن كثيراً مما سيقوله "لم يحن وقته"، وهذا ربما يفسر أن كتبه السبعة التي أعلن عنها في ثنايا كتبه المطبوعة لم تر النور في حياته، لكن إرثه ما يزال يتكلم حاملاً في طياته رؤيته لحل لكثير من المعضلات التي استشرفها وفكك مسبباتها، فتنبأ أنه بدون الديمقراطية التي نهضت بالأمم الأخرى لا مناص من إعادة انفجار الأوضاع العربية بين فترة وأخرى بسبب جذور العصبيات التي تتحكم بشخصية الفرد العربي والعراقي تحديداً، وهو يعيش واقعاً مجتمعياً أسيراً للتاريخ وثاراته وقيم وأعراف اجتماعية وعصبيات طائفية وعشائرية معقدة ماتزال بقاياها كامنة في النفوس، فضلاً عن الاستبداد السلطوي وأبواقه الذي طالما حذر منه، وهو يعيد إحياء رفات الرواسب الاجتماعية والثقافية التقليدية القديمة ويرسخها لمصلحته من جديد، كما نشهده اليوم، داعياً إلى أن "نحدث انقلاباً في أسلوب تفكيرنا الذي يسير على نمط ما كان يفكر به أسلافنا في القرون المظلمة".

الصفحة الرئيسية