تعرّف على أكثر الشعوب اعتذاراً!

تعرّف على أكثر الشعوب اعتذاراً!


12/11/2018

تايوان، تلك الجزيرة الصغيرة في المحيط الهادي، التي تعمل على الدوام على تجنّب الصراعات والحفاظ على الانسجام والتعايش السلمي بأيّ ثمن، تبدو بالنسبة إلى الأجنبي، أكثر بلد في العالم اعتذاراً؛ إذ إنّ شعبها مغرم بالاعتذار.

وقد لعبت عقود من الاستعمار الياباني، إلى جانب التعاليم الأخلاقية الكونفشيوسية، دوراً هائلاً في تشكيل ثقافة تايوان، التي نسمعها ونراها اليوم، والتي توصف بأنها مغرقة في الاعتذار، وفق وهو أستاذ اللغويات الاجتماعية في جامعة نورمال يونيفرسيتي الوطنية، كين هوان لي.

اقرأ أيضاً: المجتمع الياباني: وفاء للعادات والتقاليد رغم إغواء الحداثة

تكشف ثقافة "بوهاويسي" في تايوان، وفق ما أورد موقع "بي بي سي"، الكثير ممّا يكمن تحت طبقات الحياء والتحفظ اللذين تتحلى بهما الجزيرة؛ حيث إنّ "بوهاويسي" كلمة تمتزج فيها أجمل معاني الحبّ والاعتذار والامتنان، يعبّر فيها اليونانيون عن مشاعرهم، فهي كلمة جامعة أنيقة، يمكن استخدامها في كلّ المناسبات؛ بدءاً من محاولة لفت انتباه نادل في مطعم أو مقهى، إلى التعبير عن اعتذار مفعم بالخجل أثناء الحديث مع مسؤول في العمل، ووصولاً إلى الشعور الغامر الذي ينتاب الإنسان وهو يجتهد للاعتراف بحبّه لشخص ما.

يفكر أكثر من ثلث الأجانب في العيش في تايوان، بحسب مسح إحصائي على أكثر من 12500 شخص

تقول أستاذة في جامعة بروكلين سيتي في نيويورك، تشيا-جو تشانغ: "كلمة "بوهاويسي" ستظلّ تتردّد على شفاه التايوانيين للأبد"، وتضيف: "نستعملها طوال الوقت؛ حيث إنّ ثقافة الأدب سائدة في تايوان، لذا نستخدمها عندما نقاطع أحداً أثناء حديثه، أو نطلب من أحد أن يسدي لنا معروفاً، حتى أننا نستخدمها للبدء في محادثة مع شخص ما".

وتقول مُدرسة في قسم اللغة الصينية بجامعة تايوان الوطنية، أو يو يانغ: "على عكس كلمة "excuse me" بالإنجليزية، أو "Entschuldigung" بالألمانية، اللتين تعنيان "معذرة"؛ فإنه ليس من السهل ترجمة كلمة "بوهاويسي"".

وتُنطق كلمة "بوهاويسي" بسرعة كبيرة، عادة، درجة أنّها تخرج كمجموعة حروف ساكنة تبدو للأذن وكأنّها لا تعني شيئاً. 

 

ويعدّ المفهوم الغربي لكلمة آسف محدوداً جداً؛ فهو لا يمكن أن يعبّر عن كلّ الأدب الاجتماعي الذي يحمله هذا التعبير المثقل بالمعاني، لكنّ كلمة "بوهايسي" تحمل شعوراً وإحساساً، وطريقة تصرف أو سلوك، ومنظومة أفكار كاملة تتخلل وتجتاح الثقافة التايوانية.

في قطار الأنفاق في تايبي؛ سوف تسمع خليطاً غير منسَّق من كلمات "بوهاويسي"، بينما يتجاوز الناس بعضهم بأدب جمّ، وإذا دخلت صفّاً دراسياً، سوف تسمع الطلاب يستهلون ويختمون كلّ سؤال بكلمة "بوهاويسي"، التي تُقال مصحوبة بشعور بالعرفان والتقدير حتى مع استمرار النقاش.

اقرأ أيضاً: تعرّف إلى اللغة التي يتشارك فيها شعوب العالم كافة

إذا فتحت بريداً إلكترونياً؛ فأوّل كلمة تطالعها "بوهاويسي"، التي تشير إلى "آسف لإزعاجك قليلاً" حتى في طلب معروف بسيط.

وإذا قدّم لك أحد أقاربك هدية، فإن الردّ الصحيح ليس كلمة "شكراً"، بل "بوهاويسي"؛ وهي هنا اعتذار لما تسبّبته الهدية له من ضيق أو مشقة.

في القطار سوف تسمع خليطاً غير منسَّق من كلمات "بوهاويسي"، بينما يتجاوز الناس بعضهم بأدب جمّ

ورغم أنّ أصول الكلمة غير معروفة، إلا أنّ اللغويين التايوانيين يتبنون نظرية تقول: إنّ "الكلمة بشكل عام نتاج قرن من مفهوم الانسجام والتعايش الكونفشيوسي، الذي يركز على الحفاظ على علاقات شخصية متبادلة مع الآخرين، بدلاً من الفردية".

ويعدّ الحفاظ على الترابط والتماسك الاجتماعي بأي ثمن؛ الأساس القوي لأخلاقيات تايوان الاجتماعية، حيث يعتبر تقديم المجتمع على نفسك كفرد حجر الزاوية عندهم.

وعلاوة على ذلك؛ فإن جزءاً من ثقافة "بوهاويسي" التايوانية متأثر بشكل كبير بثقافة الاعتذار اليابانية؛ حيث يجمع الثقافتين تاريخ طويل، وبشكل عام؛ فإن استخدام كلمة "بوهاويسي" يحول دون تصاعد المواجهات، كما يقول أستاذ اللغويات الاجتماعية، كين هوان لي، الذي يضيف: "الثقافة التايوانية التقليدية تحمل حساسية واعتباراً أكبر للآخرين، وتحاول الحفاظ على علاقات مؤدبة معهم".

إن جزءاً من ثقافة "بوهاويسي" التايوانية متأثر بثقافة الاعتذار اليابانية

ويرى لي؛ أنّ "ثقافة "بوهاويسي" هذه فريدة من نوعها، خاصة في تايوان، في مقابل بقية المناطق المتحدثة باللغة الصينية".

وطبقاً لتقرير إكسبات إنسايدر، وفق ما نشرت "بي بي سي"؛ "تُصنف تايوان على الدوام بين أكثر البلدان حميمية وترحيباً بالغرباء، وقد أعطى حوالي 90% من الأجانب مواطني تايوان درجات عالية في حسن الضيافة، مقارنة بمعدل 65% في بقية البلدان التي شملها التقرير المسحيّ".

اقرأ أيضاً: الشعوب الواعية حصن منيع للدول الحديثة

وفي الوقت الحالي؛ يفكر أكثر من ثلث الأجانب في العيش في تايوان، تلك الجزيرة الصغيرة في المحيط الهادي، بحسب مسح إحصائي شمل أكثر من 12500 شخص حول العالم.

في المقابل يقول جيرو يو، وهو صيدلي يبلغ من العمر 25 عاماً، ويعيش في مدينة كاوشيونغ: إنّ "الرواية القائلة إنّ تايوان هي الأفضل في العالم، من حيث الاعتذار والحوار الراقي، ربما تكون زائفة، أو على الأقل لا تعكس الصورة كاملة، لأنّ هذه الثقافة تجعلك تشعر أنه يتعين عليك أن تصغّر من نفسك، وتعتذر باستمرار، بسبب بعض الإزعاجات البسيطة، وفي بعض الأحيان؛ يتسبّب الاعتذار بضرر أكبر من أن يساعد، لأنّ طلب الإذن كي تفعل شيئاً بسيطاً، أو كي تتكلم أو تحضر أو تذهب، يمكن أن يتسبب بإزعاج لا داعي له".

تكشف ثقافة "بوهاويسي" الكثير ممّا يكمن تحت طبقات الحياء والتحفظ اللذين تتحلى بهما تايوان

وتشعر يانغ بأنها "تغرق في بركة" من الاعتذارات التلقائية، والتي تأتي بوهاويسي في سياقها مجرد عادة أكثر منها كلمة مفعمة بالمعاني، وتكون النتيجة هي مجاملة مجردة من أيّ اعتذار حقيقي أو ندم.

بدوره، يقول الأستاذ في جامعة مينغ تشوان، وينهوي تشين: "عالمياً؛ غالباً ما يساء فهم الهوية التايوانية؛ فغالباً ما يُنظر للجزيرة على أنها بلد تتجاذبها الصين والولايات المتحدة، وهي تتأرجح بينهما".

اقرأ أيضاً: عندما يكون الدين جانباً من جوانب الثقافة

ويضيف تشين "ثقافة تايوان "الاعتذارية" قد لا تكون مثمرة في نهاية المطاف، ويمكن أن تقود إلى تفكّك المجتمع ذاتياً".

لكن في المقابل؛ يرى لي أنّ "ثقافة "بوهاويسي" السائدة في البلاد هي مكوّن أساسي لا غنى عنه للحفاظ على السلام، وإذا اختفت ثقافة "بوهاويسي" فسوف تختفي معها قرون من التقاليد الراسخة".

ويردف "إذا احتفظ المجتمع بهذه المفاهيم واستخدم هذه الكلمات يومياً، فإنّه سيصبح أفضل من الناحية الأخلاقية وأكثر محافظة، وإذا لم يحتفظ بهذه المفاهيم فسيصبح مجتمعاً بلا أخلاق وشديد العدوانية".

الصفحة الرئيسية