استهداف الأقباط في مصر .. تاريخ موجز للعقاب السياسي

أقباط مصر

استهداف الأقباط في مصر .. تاريخ موجز للعقاب السياسي


13/11/2018

"حين أدركنا وفاء النيل المبارك يوم الخميس 24 ربيع الأول 1214هجرية 26  أغسطس 1799 ميلادية الموافق لتاسع مسرى القبطي، نودي بوفائه على العادة، وخرج النصارى البلدية من: القبط، والشوام، والأروام (الروم الأرثوذكس)، وتأهبوا للخلاعة والقصف والتفرج واللهو، وذهبوا تلك الليلة إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة، وأكثروا المراكب، ونزلوا فيها، وصحبتهم الآلات والمغاني، وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم، ورفضوا الحشمة، وسلكوا مسلك الأمراء سابقاً من النزول في المراكب الكثيرة المجاديف، وصحبتهم نساؤهم وقُحَّابُهُم وشَرَابُهم وخمورهم، وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية والكُفريّات، ومحاكاة المسلمين، وبعضهم تسلح وتزيا بزي أمراء مصر على سبيل الاستهزاء، وتشبه بهم، وحاكى ألفاظهم وغير ذلك، وأجرى الفرنسيس المراكب المزينة وعليها البيارق، وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر (النيل) وقد وقع في تلك الليلة بالبحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي، ما لا يوصف".

اقرأ أيضاً: استهداف الأقباط بالمنيا.. ما دلالات التوقيت؟

بهذا النص، الذي أورده الجبرتي في كتابه "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس"، يمكن فهم الكيفية التي جرى عليها خروج الرعايا المسيحيين على تقاليد الخضوع للخلافة الإسلامية ومن مفارقةٍ لوضع التابع غير المتساوي بحكم العقيدة مع الأغلبية المسلمة، وانتهاز فرصة تراخي قبضة السلطنة العثمانية وهيمنة المماليك على البلاد للانخراط في حالة تمرد ثقافي علني وشامل.

غلاف كتاب "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس" للجبرتي

فقد كانت السمة البارزة للحكم العثماني، كما تشرح صبا محمود في كتابها "الاختلاف الديني في عصر علماني"، هي السماح للجماعات الدينية المتنوعة أن توجد، بشكل متاخم، داخل نسق يحتل المسلمون فيه المكانة العليا. وتشير المؤلفة إلى أنّ معاهدة أهل الذمة منحت غير المسلمين الحماية والحق في ممارسة دينهم والإبقاء على دوره عبادتهم، وأن تكون لهم محاكم خاصة بطوائفهم طالما أقروا بسيادة الإسلام وصدارته.

بتحطيم عبد الناصر لحزب الوفد بعد حركة 52 أُغلق الباب الوحيد لمشاركة الأقباط في الحياة السياسية

ويتعلق ذلك بصلب شروط عقد الذمة، كما فصلّها قاسم عبده قاسم في كتابه "أهل الذمة في مصر العصور الوسطى"، والتي تنكسر على شقين: مستحق ومستحب؛ فالأول يتضمن 6 بنود:

1- عدم ذكر الإسلام بذمٍ له أو قدحٍ فيه.

2- عدم ذكر كتاب الله بطعن له أو تحريف فيه.

3- عدم ذكر الرسول الكريم بتكذيب له أو ازدراء.

4-  ألا يصيبوا مسلمة بزنا أو باسم نكاح.

5- ألا يفتنوا مسلماً عن دينه أو يتعرضوا لماله أو دمه. 6 ألا يعينوا أهل الحرب. 

قاسم عبده قاسم

أما الشق المستحب فيتضمن:

1- لبس "الغيار" وهي ملابس ذات لون مخالف للون ملابس المسلمين.

2- ألا تعلو نواقيسهم وتلاوة كتبهم.

3- ألا تعلو أبنيتهم فوق أبنية المسلمين.

4- ألا يجاهروا بشرب الخمر وإظهار صلبانهم وخنازيرهم.

5- أن يخفوا دفن موتاهم.

6- أن يمنعوا من ركوب الخيل.

اقرأ أيضاً: تفاصيل الهجوم الإرهابي على حافلة أقباط في المنيا بمصر

وبهدف المبالغة في التمييز بينهم وبين المسلمين اعتُبِر الأقباط فاقدي الأهلية للشهادة في القضاء، وجرى إلزامهم بوضع أجراس في أعناقهم في الحمامات العامة، وفُرض عليهم النزول من فوق دوابهم إذا مرّوا بمسجد احتراماً، كما حُرّم عليهم المرور في القاهرة راكبين.

وعلى الرغم من إلغاء محمد علي لنظام الذمة وإلغائه الممارسات التمييزية المهينة ضد الأقباط، إلا أنّ روح العقد حظيت باستمرارية تاريخية ولا زالت تشكل الإطار الحاكم للعلاقات البين دينية في مصر، وتنعكس على مختلف مجالات الحياة.

خلال فترة الوجود الفرنسي في مصر تدهورت العلاقة بين المسلمين والأقباط

الفرنسيون وموضعة الوجود المسيحي

خلال فترة الوجود الفرنسي في مصر تدهورت العلاقة بين المسلمين والأقباط بشكل خطير. وحرصاً على الحد من استفزاز المسلمين أراد الفرنسيون إعادة موضعة الوجود المسيحي في موقعه التابع، وبنص الجبرتي: نبّه الفرنسيس بالمناداة في أوائل رمضان بأنّ على نصارى البلد (مصر) أنْ يمشوا على عادتهم (القديمة) مع المسلمين، ولا يجاهروا بالأكل والشرب في الأسواق ولا يشربوا الدخان ولا شيئاً من ذلك تمرداً منهم، كل ذلك استجلاباً لخواطر الرعية، حتى إنّ بعض الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان فانتهره، فرد عليه رداً شنيعاً، فنزل ذلك المتعمم فضرب النصراني واجتمع عليه الناس، وحضر محافظ تلك الجهة فرفعها (الواقعة) إلى قائم مقام (الحاكم) فسأل النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك، فأخبروه أنّ من عادتهم القديمة أنّه إذا استهل رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبداً، فضرب (الحاكم) النصراني وترك المتعمم لسبيله.

ردعُ الهوى الإنجليزي

في كتابه "الأقباط في وطن متغير" يرصد غالي شكري اكتمال نمو تيار قبطي مدني ذي ثقل مُعتبر داخل جهاز الدولة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان ممثلاً في "المجلس الملي" بقيادة بطرس غالي ويوسف وهبة، وقد تناقضت الاجتهادات السياسية لهذا التيار مع البنية الكنسية وعلى رأسها البابا كيرلس الخامس.

كتاب "الأقباط في وطن متغير" لغالي شكري

وكيرلس الخامس في الذاكرة الشعبية المصرية أيقونة وطنية من طراز فريد، فحين تخلت النخبة عن الزعيم التاريخي أحمد عرابي وانحازت للاحتلال، أيّد البابا عرابي بصلابة ودعّم حكومة الثورة، كما وقّع على قرار الاجتماع الوطني، بقيادة عرابي، بتبنّي مسار المقاومة المسلحة للاحتلال الإنجليزي، وأعلن رفضه لحكومة الاحتلال، ووصل به الأمر إلى أنه أفتى بأنّ الإنجليز "خرجوا على تعاليم المسيحية باحتلالهم مصر ويجب حربهم".

اقرأ أيضاً: دمشاو تعيد مآسي الأقباط مع المتطرفين

وانعكست الروح الوطنية للبابا في معارضته للمجلس الملي الذي يسيطر عليه علمانيون أقباط لهم علاقة وطيدة بالإنجليز، لذا اعتبر أنّ وجود المجلس محض افتئات على "حقوق الكنيسة" وعارض بقاءه بكل السبل، إلا أنّ النفوذ السياسي لغالي ووهبة ساعدا على استمراره بدعم من الخديوي عباس حلمي.

اقرأ أيضاً: لماذا يستهدف تنظيم داعش أقباط مصر؟

وفي عام 1910 قرر إبراهيم الورداني، أحد كوادر الحركة الوطنية، اغتيال رئيس الوزراء بطرس باشا غالي، عقاباً على "ميوله الإنجليزية" التي تجسدت في توقيعه اتفاقية السودان مع بريطانيا ورئاسته محكمة دنشواي ضد الفلاحين المصريين وسعيه لمد امتياز قناة السويس 40 عاماً بعد انتهائه، كما يروي المؤرخ طارق البشري في كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، وخرجت تظاهرات داعمة للاغتيال، ذات طابع طائفي، وكان الهتاف السائد فيها: "تسلم إيدك يا ورداني .. ياللي صفيت النصراني".

 إبراهيم الورداني

صعّد مقتل بطرس غالي من الشقاق بين عنصري الأمة المصرية، على خلفية من الجدال الطويل الذي دار بين صحف الوطن ومصر القبطية من جهة، والمؤيد واللواء الإسلامية من جهة أخرى، حول هوية مصر وتبعيتها للخلافة الإسلامية، وبلغ الشقاق ذروته في المؤتمرين: القبطي، الداعي لرفع "المظلومية عن الأقباط، وإلغاء التمييز على أساس الدين، والتمثيل النسبي للأقباط في الدوائر الحاكمة، وتقرير عطلة أسبوعية يوم الأحد، والمؤتمر الإسلامي الذي يعتبر أنّ مطالب من هذا النوع لا تتعلق بمشكلات حقيقية بل مختلقة كلياً.

اقرأ أيضاً: الأقباط والتوازن الصعب.. من عبد الناصر إلى السيسي

عارض البابا كيرلس المؤتمر القبطي، بالتزامن مع هجوم الحركة الوطنية بمختلف تياراتها على المؤتمر، واعتبر الحزب الوطني، أكبر حزب في البلاد، أنّ عقد المؤتمر القبطي محض تنفيذ للسياسة البريطانية التقليدية القائمة على استمالة الأقلية للاستعانة بها ضد الأكثرية، واعتبر الحزب أنّ تصعيد الخلاف الطائفي تحت الاحتلال يعطي الأخير مشروعية البقاء بحجة حماية الأقليات ويسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية الساعية لطرده. وأعقب ذلك انعقاد "المؤتمر الإسلامي" الذي كان علامة فارقة على انقسام طائفي يهدد النسيج المجتمعي آنذاك.

 البابا كيرلس

لكنَّ الوطنية الصاعدة التي اجتذبت إبراهيم الورداني إلى صفوفها ودفعته لاغتيال رئيس الوزراء، هي نفسها التي دفعت القبطي عريان سعد لمحاولة اغتيال يوسف وهبة باشا لقبوله منصب رئاسة الوزراء خلفاً لبطرس غالي، تحت ضغطٍ من بريطانيا، وعلى إثر تلك المحاولة الفاشلة تراجع وهبة عن قبول المنصب، حسب رواية غالي شكري.

اقرأ أيضاً: إكراهات الزواج والطلاق لدى الأقباط المصريين

خلال تلك الفترة ارتفعت درجة الاحتقان بين المسلمين والأقباط إلى أقصى مدى لها خلال تلك الفترة، إلا هذا الاحتقان كان منحصراً داخل الطبقة السياسية، كما يقول السياسي المصري سيد كراوية وباندلاع ثورة 1919 كان على النخبة الوطنية ترميم الصدع الطائفي بإعلان شعاري "الدين لله والوطن للجميع" و"عاش الهلال مع الصليب" اللذين عبّرا عن توحيد الأمة في مواجهة الاحتلال، حسب تأكيد كراوية، بالإضافة إلى تكثيف تمثيل الأقباط في أرفع مستويات حزب الوفد.

كي لا يكونوا خونة الأمة

في تحليلها اللمّاح، تشير صبا محمود إلى أنه بتحطيم عبد الناصر لحزب الوفد بعد حركة 52 أُغلق الباب الوحيد لمشاركة الأقباط في الحياة السياسية، وبرفضه التمثيل السياسي للأقباط فإنّه قوّض بذلك المجلس الملي الذي عمل على نقل مركز الثقل من الإكليريكيين إلى النخب العلمانية، وبتحويله سيطرة الأوقاف الدينية من أيدي العلمانيين إلى الكنيسة وبإخضاعه الانضمام في المجلس الملي إلى موافقة البابا فقد رسّخ وضع الكنيسة باعتبارها الممثل الرئيس والوحيد للجماعة القبطية، وساعد على ذلك تحطيم الدولة الناصرية سلطة الارستقراطية القبطية التي كانت بمثابة العمود الفقري لتيار العلمانيين الأقباط.

يرصد غالي شكري اكتمال نمو تيار قبطي مدني ذي ثقل مُعتبر داخل جهاز الدولة منذ أواخر القرن التاسع عشر

ورث الرئيس الراحل السادات هذا الوضع كاملاً: سماح الدولة للكنيسة بتمثل الأقباط سياسياً ومصادرة أي معارضة قبطية ذات طابع علماني، وتكفل الكنيسة بالمقابل توفير الدعم السياسي للنظام القائم، وتوّقع أن تعمل العلاقة بين الدولة والكنيسة وفقاً لمحددات المرحلة الناصرية، لذا حين طلب من البابا شنودة الموافقة على ودعم اتفاقية "كامب ديفيد" كان ينتظر اصطفافاً لا يحتمل الشك من الكنيسة بجواره.

لم يدرك السادات أنه بتركيز عبد الناصر للسلطة بيد الكنيسة وسحبها من يد السياسيين العلمانيين كان يركّز في الآن نفسه النزعة الوطنية داخل جدرانها المقدسة، وباتت الكنيسة مؤتمنة على الحس الوطني للأقباط وتكثيف له بآن. بالإضافة إلى أنّ إلغاء الأحزاب طوال الفترة الناصرية وانضمام أبناء الطبقة الوسطى القبطية، الذين استفادوا من الإجراءات الناصرية في الإصلاح الزراعي والتعليم والعدالة الاجتماعية، إلى الكنيسة، كبديل عن الأحزاب، حملوا معهم رؤيتهم السياسية.

اقرأ أيضاً: بن سلمان يدعو بابا الأقباط لزيارة السعودية

ويمكن فهم المسألة على الوجه الآتي: في أيام التعددية الحزبية كانت كل الأحزاب تعرض برامجها وتستقطب أعضاءً جدداً، وكان القادم إلى العمل السياسي قادر على أن يميّز بسهولة بين البرامج ويختار ما يناسبه، كخيار واعي، أما أولئك الذين أرادو الدخول إلى الحلبة السياسة بعد 52 من الأقباط فلم يكن متاحاً لهم خياراً من هذا النوع، وربما لو أتيح لهم لصاروا شيوعيين أو ليبراليين أو قوميين، لكن لم يكن أمامهم سوى الكنيسة التي تقدم لهم منفذاً شرعيّاً لطاقتهم فتحزبوا لها.

اقرأ أيضاً: "الإخوان" والأقباط

باختصار، كان لوعي البابا الراحل شنودة الثالث الحاد بالتاريخ المصري وتاريخ الجماعة القبطية وتشابك مصائرها مع مصائر شركائهم من المسلمين دوراً حاسماً في الأزمة السياسية بين الكنيسة والسادات، وتجسد مقولته عقب توقيع "كامب ديفيد": "لن يكون الأقباط خونة الأمة" هذا الوعي بدقة.

البابا الراحل شنودة الثالث

قطعُ الرأسِ التي رُفِعَت

لا يهدف الراديكاليون الإسلاميون إلى إشعار الأقباط بحال بـ"الذنب على اقترافهم إثم المشاركة في الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي وجماعة الإخوان"، وإن كان الخطاب الإسلاموي حريصاً على إظهار ذلك، وتحاول بيانات تنظيم الدولة الإسلامية التي تصدر عقب كل استهدافٍ للأقباط موضحةً أن الهدف يكمن في الضغط على الدولة لإخراج "العفيفات" (القيادات الإخوانية النسائية) من السجون -التعمية على جوهر الموضوع، لكنّ الحقيقة التي لا يمكن الإفصاح عنها مباشرة هي أنه: يجب عقاب الأقباط جيداً على كسرهم خطاً أحمر وارتكابهم جريمة لا تغتفر: إبداء رأي سياسي في نظام بلدهم، خاصة إذا كان نظاماً برسم "تطبيق الشريعة" وما يتضمنه صُلُب التصور الإسلاموي من هندسة العلاقة مع المسيحيين على أساسٍ من عقد الذمة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية