في ذكرى رحيل المرنيسي: من يواصل الدفاع عن كرامة تاء التأنيث؟

المرأة العربية

في ذكرى رحيل المرنيسي: من يواصل الدفاع عن كرامة تاء التأنيث؟


02/12/2018

لن يولد المجتمع العربي كمجتمع معرفة يتكيف مع المجرات ودقائق التقنية الحديثة ما لم يتح للمرأة أن تتعلم وتشارك في صنع القرار وتنسج أفكارها حول شبكات البث الإلكتروني مثلما كانت الجدات تحوك بتلقائية آلاف الأزهار الهندسية فوق السجاجيد". هكذا وصفت مؤلفة "سلطانات منسيات" فاطمة المرنيسي أهمية المرأة في العالم العربي.

اقرأ أيضاً: نضال المرأة لانتزاع حقوقها ليس وليد القرن الـ19

سلطت المرنيسي الضوء على نساء الهامش، نساء لم يسمع صوتهن من قبل، نساء الرصيف المعمل والموقف والقرى المغربية النائية ومدن الصفيح، لم تكتف بالبحث النظري بل خرجت للميدان لتفكيك المجتمع المغربي، تجولت في أحياء المغرب وضواحيه، للتحليل والحفر في الظواهر الاجتماعية.

نضال من داخل النسق الثقافي الإسلامي

دعت طلابها إلى الخروج إلى الشارع المغربي وجس نبض المجتمع والاستماع إلى الناس، طالبتهم بالتوقف عن إعادة انتاج الخطابات الجاهزة لأن لكل مجتمع خصوصياته.

يعتبر الباحث آل ربح أنّ المرنيسي لا تنزّه الغرب بل تنتقده بشدة ويتجلى هذا في كتابها "هل أنتم محصنون ضد الحريم"

يقول الباحث في علم الاجتماع عبدالرحيم العطري عن المرنيسي: "خلافاً لما يروجه عنها أصحاب القراءات المتسرعة، لم تكن يوماً ضد الإسلام، إنّها تناضل وتفكر معرفياً من داخل النسق الثقافي الإسلامي الذي تعتبره أعطى المرأة مكانة مائزة يتوجب العمل باستمرار على استعادتها، حتى لا تظل ثقافة الحريم والاستعباد هي المسيطرة مغربياً وعربياً وكونياً. "

حطمت المرنيسي الصنم الغربي، واخترقت عالم حريمه لتوجه سهام نقدها للفكر الغربي، معتبرةً أنّ الاهتمام بالمرأة الغربية فقط في مرحلة شبابها ونضارتها، في حين تعيش العزلة باقي حياتها على هامش هو انتهاك أخلاقي.

أكدت المرنيسي أنّ الاستبداد الذكوري مشترك بين الشرق والغرب

وأكدت أنّ الاستبداد الذكوري مشترك بين الشرق والغرب، وأن مفهوم الحريم في الشرق بالنسبة للغرب ظل مرتبطاً بالتاريخ وقصور الخلفاء وأولي الأمر؛ الذين كانوا يتخذون المرأة العربية جاريةً.

لغز الحريم الأوروبي

وعن الحريم الغربي، تحكي فاطمة المرنيسي: "فجأة أضاء لي لغز الحريم الأوروبي، في ذلك الهيكل الاستهلاكي المتمثل في متجر نيويوركي كبير، عندما أعلنت البائعة أنها لا تملك لي تنورة مناسبة، لأن كتفي عريضتان جدّاً.

اقرأ أيضاً: المرنيسي تكشف تهافت الحديث عن ولاية المرأة بوقائع من زمن النبي

سألتني: من أي بلد أنت؟. في تلك اللحظة انتبهت إلى أنها في مثل عمري تقريباً، هي أقرب إلى الستين منها إلى الخمسين، غير أنّ لجسمها نحافة صبيّة في السادسة عشرة من عمرها.. كأنها تلميذة.. أجبتها: أنا من بلد ليس للثياب فيها مقاس مُحدّد.

سألتني: أتريدين القول ببساطة إنك لا تـَـزِنين نفسك؟ هنا، فقد عدد من النساء عملهن بسبب ذلك، لقد كانت تمزح، ولكن ملاحظتها كانت تخفي حقيقة مرعبة، لقد كان سوط الحقيقة يجلدني: إنّ المقاس 38 يمثل قيداً أشرس من أثخن نقاب… إنّ الأسلحة التي يستعملها الرجال ضد النساء في الغرب غير مرئية... "

ناضلت المرنيسي ضد الاستبداد الذكوري في الثقافة الغربية عبر كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب" لتكشف المكانة التي منحتها الثقافة الإسلامية للمرأة مقارنة مع ذكورية الغرب وعلاقته بنساء الشرق.

غلاف كتاب "شهرزاد ترحل إلى الغرب" للمرنيسي

تهميش فاطمة المرنيسي

يرى العطري: بأنه "ليس هناك من سجل ثقافي محصّن ضد ثقافة الحريم حسب فاطمة المرنيسي، لهذا آثرت أن تنافح عن كرامة تاء التأنيث من مدخل العلم بدل السياسة، وإن كان الانتماء إلى هكذا صف، في مجتمع فائق الذكورية، لابد وأن يكون له ثمن، يؤديه المرء، تهميشاً وتبخيساً. "

تتساءل فاطمة المرنيسي لماذا لم يسبق أن اختيرت فترات النساء القائدات في تاريخنا كنصوص مختارة للمدارس الابتدائية والثانوية؟

وبرغم من التهميش الذي عانت منه المرنيسي، لكن الاعتراف، حسب العطري، جاء بصيغة عالمية؛ ففي العام 2003 سيأتي هذا الاعتراف من الضفة الأخرى، في صيغة جائزة أستورياس للآداب في إسبانيا، والتي أحرزتها المرنيسي مناصفة مع الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ.

يقول عبدالله آل ربح أستاذ علم الاجتماع الديني بجامعة جراند فالي ستيت بالولايات المتحدة في تصريحه لـ "حفريات: " "إن البيئة المغربية في نهاية النصف الثاني من القرن الميلادي كانت رافداً من أهم الروافد المعرفية التي شكّلت ذاكرة فاطمة المرنيسي. "

وأضاف أنّ المرنيسي عاصرت في طفولتها ظاهرة "الحريم" في بيوت الطبقة الميسورة في المغرب التي تنتمي لها، معتبراً أنها "شهدت بنفسها ظاهرة تأطير المرأة في إطار الجسد والشهوة".

 ترى المرنيسي أن مفهوم الحريم في الشرق ظل مرتبطاً بالتاريخ وقصور الخلفاء

وهذا ما دفع المرنيسي، حسب الباحث، لمراجعة وتفكيك التراث المعرفي لبيئة بلدها المغرب والقائم على الثقافة العربية والإسلامية من جهة والاستعمارية الفرنسية المحتلة من جهة أخرى، في الجانب العربي الإسلامي.

تفكيك التراث المعرفي للمغرب

وفي كتاب فاطمة المرنيسي "نساء على أجنحة الحلم" عادت فاطمة المرنيسي المتشبعة بقضايا المرأة العربية الى مرحلة طفولتها في فاس، لنسج وترتيب حكايات عالم الحريم ومشاهد البيئة الحاضنة لسنوات طفولتها، نافضة الغبار عن شريط الذاكرة.

اقرأ أيضاً: هل المرأة أكثر استجابة للخطاب الديني من الرجل؟

أماطت اللثام عن العالم المنسي خلف بوابة ضخمة يحرسها رجل صارم اسمه أحمد البواب، الطفلة الشغوف بالسؤال مابرحت  تقارن بين مكانة الحريم ومراتبهنّ وراء سور الدار، وكيف كانت عمتها حبيبة المطلقة رمزاً للعطاء بدون شرط تسكن غرفة ضيقة وخالية، بعدما احتفظ زوجها السابق بكل أثاثها، اعتبرت الطفلة أنّ طلاق عمتها جعلها تحتل مكانة متدنية بين الحريم، وكانت أكثرَ امتثالاً للضوابط والحدود من باقي النساء، كما منع عليها ارتداء الملابس المشعة والتزين.

استغلال مجحف للدين ضد المرأة

ويشير عبدالله آل ربح إلى أنّ المرنيسي أعادت قراءة النصوص الدينية وقارنتها بالواقع الاجتماعي المعاش لترى تسخيراً طبقيّاً للتراث ضد المرأة، مضيفاً أنها وجدت  التراث الديني ليس ضد المرأة بالشكل الذي تمارسه السلطة الذكورية، وإنما ثمّة استغلال مجحف للدين ضد المرأة، معتبراً أنّ ذلك ما دفعها إلى للاستشهاد بنماذج تقدّمية في التاريخ الإسلامي أعطت المرأة أدواراً قيادية تتجاوز ما تراه في مجتمعها المعاصر، يتجلّى هذا في كتابها "ماوراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية" الذي ناقشت فيه أفكار الإمام الغزالي مقابل عالم النفس سيجموند فرويد.

عبدالله آل ربح: إن البيئة المغربية في نهاية النصف الثاني من القرن الميلادي كانت من أهم الروافد المعرفية التي شكّلت ذاكرة فاطمة المرنيسي

تشدد فاطمة المرنيسي في مؤلفاتها على أنّ الإسلام في حد ذاته لم يمارس الظلم على المرأة، معتبرة أنّ الفهم الخاطئ والمغرض للإسلام ساهم في تغذية هذا التمييز.

قادتها هذه الأطروحة إلى إعادة قراءة التراث، بما في ذلك النصوص الدينية، قراءة تستجيب لطموحها كامرأة، في مجتمع إسلامي ظل يمارس كل أنواع التهميش على المرأة، تحت غطاء الدين.

انشغلت فاطمة المرنيسي بتصحيح القراءات التراثية التي استغلت النص الديني لغرض اقصاء المرأة.

اقرأ أيضاً: المرأة في خطاب اللامساواة: العفة القهرية وعنف الفقهاء

ويضيف آل ربح أنّ مؤلفة "شهرزاد ترحل إلى الغرب" ذهبت بعيداً في قراءتها للتراث العربي الإسلامي مقابل الغربي في كتابها "الخوف من الحداثة: صراع الإسلام مع الغرب" حيث ذهبت إلى أنّ مفهوم الديموقراطية قد تم تغريبه وتهويله من قبل الحاكم العربي من أجل أن ينبذه الشارع العربي تحت عناوين برّاقة مثل القومية والأممية.

غلاف كتاب "نساء على أجنحة الحلم"

علينا أن نفهم الغرب

يضيف أستاذ علم الاجتماع في حديثه مع "حفريات" أن  "المرنيسي  تطالب الجمهور العربي بالكفّ عن مطالبة الغرب بفهمنا -العرب- وأنه علينا نحن أن نفهم الغرب بعد أن استوردنا لغته وأدواته الثقافية، هذا النقاش المعرفي العميق يذهب إلى ماوراء الجدل الجندري/الجنوسي إلى المقاربة الإبستمولوجية لفهم السلطوية الدكتاتورية في البيئة العربية، والتي تتخذ من التراث الديني حجاباً يحارب الغرب الذي نسب له مفهوم الديموقراطية عمداً من أجل تشويهه"، على حد تعبير الباحث.

المرنيسي: الإسلام لم يمارس الظلم على المرأة، والفهم الخاطئ والمغرض للإسلام ساهم في تغذية هذا التمييز

واعتبر الباحث في علم الاجتماع أنّ المرنيسي لا تنزّه الغرب، بل تنتقده بشدة، ويتجلى هذا في كتابها "هل أنتم محصنون ضد الحريم" والذي ناقشت فيه التاريخ الأوروبي في تحجيم المرأة في إطار الجسد والجنس من خلال مناقشتها لظاهرة المحظيات اللاتي يحميهن رجال مخصيون.

عادت فاطمة المرنيسي في كتابها "السلطانات المنسيات" إلى الماضي الإسلامي لتطرح بجرأتها المعهودة أسئلة كانت ومازالت تؤرق المهموم بوضع المرأة المسلمة، ولم تتوان من وضع التاريخ الإسلامي على المشرحة السوسيولوجية، عبر السفر بالقارئ إلى أزمنة وأمكنة متباعدة لتحاول نفض الغبار عن أهم المحطات في تاريخنا الإسلامي، التي كان ينبغي دراستها والاهتمام بها عوضاً عن تجاهلها.

كسر صمت المصادر العربية

صمت المصادر العربية عن وجود سلطانات حكمن ومارسن السلطة السياسية، كان من بين الدوافع التي جعلت فاطمة المرنيسي تحفر في الماضي لتقابل نساء لقبن بالحرات، ومن النساء الأكثر شهرة تذكر عائشة الحرة، المعروفة عند الإسبان بـ"مادري بوعبديل"، وحسبما ذكره عبد الله عنان المتخصص في دراسة سقوط غرناطة لعبت عائشة الحرة دوراً بارزاً في الأحداث التاريخية، رغم صمت المؤرخين العرب الذين قلما ذكروا اسمها.

غلاف كتاب "السلطانات المنسيات" للمرنيسي

كتاب "السلطانات المنسيات" رحلة عبر الزمن لاكتشاف تاريخ منسي لنساء تفوقن بحكمتهن.

تتساءل فاطمة المرنيسي لماذا لم يسبق أن اختيرت فترات النساء القائدات في تاريخنا كنصوص مختارة للمدارس الابتدائية والثانوية، فالتاريخ الذي يدرّس ما هو إلا سلسلة من الفتوحات واحتلال المدن والأراضي وسلسلة معارك مغطاة بآلاف القتلى.

اقرأ أيضاً: أمثال تمتهن النساء: ما سر تواطؤ الإرث الشفوي ضد المرأة؟

عاشت الكاتبة وعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي ما يناهز خمساً وسبعين سنة، ونشرت خمسة عشر كتاباً وحاضرت في جامعات ومنتديات فكرية عربية وغربية، ونالت جوائز كبرى، وظلت تحلم بزمن عربي يعيد للمرأة سيادتها، ويعترف بها كمحرك ليس فقط للمجتمع، وإنما للتاريخ أيضاً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية