الاستقامتان العقلية والأخلاقية إذ تصدران عن ضمير حي

الاستقامتان العقلية والأخلاقية إذ تصدران عن ضمير حي


11/12/2018

يتفق الناس على مدح الاستقامة الأخلاقية، وهذا أمر مفيد للحياة. والاستقامة الأخلاقية تعني الالتزام بالمعايير التي سنها المجتمع والبشرية عموماً والتي تمنع الاعتداء على ما يعتبرونه حقاً، أو تمنع إيذاء الآخر كذباً ومداهنة وسرقة وما شابه ذلك من أنماط السلوك المؤذية للإنسان. 

ولست واجداً شخصاً يذم الاستقامة علناً، حتى لو اخترق المعايير عملاً. ومن حسن حظ المجتمع أن تكون للمعايير الأخلاقية سلطة آمرة اجتماعياً وسلطة معاقبة قانونياً في الغالب. فالقتل والسرقة والاغتصاب والإهانة وما شابه ذلك من سلوكات تخرق الاستقامة العقلية تخضع للمعاقبة من السلطة القضائية في الدولة التي تسود فيها قوة القانون، والدولة، أية دولة، تنهار بانهيار سلطة القضاء، وبانهيارها تنهار الاستقامة الأخلاقية ويعم الخراب المجتمعي كل مجالات الحياة.

اقرأ أيضاً: التربية الأخلاقية الفعالة ومحو الأمية العاطفية

ولكن جمهور الناس لم يلتفتوا إلى ما يساوي الاستقامة الأخلاقية أهمية إن لم يفوقها بالأهمية، أقصد الاستقامة العقلية.

الاستقامة العقلية يعني أن تصدر أحكامك عن الواقع بانسجام تام دون تناقض وخرق لقواعد المنطق. وغالباً ما يطلق على شخص يخرق قواعد التفكير وصوره صفة الأحمق.

لا يمكن أن تكون ذَا استقامة عقلية وأنت تدافع عن شرٍ وتقف ضد شرٍ آخر مثيله في الوقت نفسه.

والأحمق ليس المعني بقولنا عن الاستقامة العقلية وخرقها، لأنّ الأحمق لا يصدر في سلوكه عن وعي بالسلوك الأحمق، بل عن علة في مستوى الفهم والإدراك.

إننا نتحدث عن مفهوم الاستقامة العقلية عند الأسوياء، وعند الذين يخترقون مبادئ العقل وقوانين المنطق عن سابق تصميم وإدراك، انطلاقاً من غاية نفعية وانحياز أيديولوجي.

والانحياز ليس دائماً معرّة ومذمة. فالانحياز الأخلاقي يصدر عن ضمير حي، ومثله الانحياز العقلي الذي يصدر عن عقل يلتزم قواعد المنطق والتفكير السليم.

اقرأ أيضاً: هل ماتت الأخلاق في عالم السياسة؟

ولهذا فإن الانحياز اللاأخلاقي يقود بالضرورة إلى الانحياز اللاعقلي، والانحياز اللاعقلي يقود إلى الانحياز اللاأخلاقي.

فالموقف من الشر المتفق عليه أخلاقياً، يقود بالضرورة إلى موقف عقلي منه.

من يقبل بولاية الفقيه يجب أن يقبل بدولة الخلافة، ومن يقبل بعمامة خامنئي ليس من حقه رفض عمامة البغدادي

لا يمكن أن تكون ذَا استقامة عقلية وأنت تدافع عن شرٍ وتقف ضد شرٍ آخر مثيله في الوقت نفسه. لا يمكن أن تدحض خطأ وتفضحه وتكون في الوقت نفسه سائراً وراء خطأ مثيله وتبرره. لا يمكن أن تكون مع احتلال وضد احتلال.

‏‬فالعداء لإسرائيل بوصفها قوة احتلال، يجب أن يكون عداء لكل احتلال، أما أن تكون ضد الاحتلال الإسرائيلي ومع الاحتلال الإيراني أو أي احتلال آخر، فهذا من قبيل عدم الاستقامة العقلية. ولهذا فالعداء لإسرائيل ليس حسن سلوك لأحد طالما لا يقود إلى العداء لأي نمط من أنماط الاحتلال.

وقضية الحرية والتحرر قضية لا تتجزأ لا تتحمل مواقف متناقضة، كيف يستقيم عقلياً أن تكون مع حرية إنسان وتحرر شعب هنا وتكون في الوقت نفسه مع عبودية إنسان وشعب هناك؟!

اقرأ أيضاً: كيف تكون الأخلاق بلا دين؟

وقس على ذلك الموقف من حق الإنسان بالحياة وبالكرامة، أن تكون مع الشعب الفلسطيني في غزة، يعني أن تكون مع ثورة الشعب السوري في كفاحه النبيل من أجل الحرية والتحرر من الطغام، أن تكون مع شعب سوريا يعني أن تكون مع شعب فلسطين.

لا يمكن أن تكون مع قنص الناس من رؤوسهم وضد قطع الرؤوس في وقت واحد.لا يمكن أن تكون طائفياً وضد الطائفية معاً.أو تواجه الطائفية بطائفية مضادة.

أن تكون مع الدولة الديمقراطية وتدافع عن دولة استبدادية غياب للاستقامة العقلية. وكيف تكون مستقيماً عقلياً إذا كنت مع ديكتاتورية ما

كل من يقيم فارقاً بين أصولية سنية عنفية أو سلمية وأصولية شيعية عنفية أو سلمية منحاز طائفياً.

من يرفض دولة الخلافة يجب أن يرفض بالضرورة دولة ولاية الفقيه. ومن يقبل بدولة ولاية الفقيه يجب أن يقبل بدولة الخلافة.

ومن يقبل بعمامة خامنئي والسستاني ليس من حقه أن يرفض عمامة البغدادي والجولاني.

إذا وجد كائن ما، مثقفاً أو غير مثقف وينطوي على كل هذه التناقضات، فهو كائن غير مستقيم عقلياً، ولأنه غير مستقيم عقلياً فهو بالضرورة غير مستقيم أخلاقياً.

اقرأ أيضاً: ما شكل صورة العرب والمسلمين في عقلية الغرب؟

أن تكون مع الدولة الديمقراطية وتدافع عن دولة استبدادية غياب للاستقامة العقلية. وكيف تكون مستقيماً عقلياً إذا كنت مع ديكتاتورية ما .أن تكون عدواً للأصولية ومدافعاً عن الديكتاتورية يعني خرقاً للاستقامة العقلية؛ فالدكتاتورية هي الشرط الرئيس لظهور الأصولية العنفية. الدكتاتور شر والدكتاتور الطائفي شر مطلق.

الانحياز الأخلاقي يصدر عن ضمير حي، ومثله الانحياز العقلي الذي يصدر عن عقل يلتزم قواعد المنطق والتفكير السليم

الظلم يعرقل عمل العقل. لا يمكن استعادة العقل دون القضاء على الظلم. لا يستقيم مع العقل إن كنت تهجو ظلماً وتدافع عن ظلم آخر.ولا يستقيم مع العقل أن تكون مع الظلم أينما وجد.

الدولة الحديثة هي دولة الحرية، دولة الحق الفردي والجماعي، دولة الشعور بالأمن الفردي الجماعي، دولة تلبية الحاجات والحفاظ على الكرامة الإنسانية، دولة الدستور الذي يؤكد هذا كله، والسلطة المنتخبة الساهرة على تنفيذ ذلك.

إن حديثي ينصب على استقامة الأفراد، على استقامة الفرد العاقل، أما استقامة الدول في مواقفها من قضايا دول أو شعوب أخرى فهذا ضرب من المستحيل؛ لأن الدول، وبخاصة الدولة التسلطية والإمبراطورية، إنما تصدر في سلوكها عن المصلحة التي تبرر الواسطة بمعزل عن الاستقامتين العقلية والأخلاقية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية